اندثرت الفتوة في مصر وبقيت النبابيت والشومة!!
بقلم : محمـد عبدالهادي ... 25.01.2018 وراء العصيّ الخشبية الغليظة “النبابيت” بمصر حكايات يحفظها بائعوها، وتجسد سير الحرافيش والفتوات بالحارات الشعبية القديمة، وتخلد أسماء أبطال قاوموا المحتلين المدججين بالأسلحة، وتفضح أعمال البلطجية الذين يزاولون ممارسات السيطرة والتهديد.
القاهرة - لا يزال “النبوت” أو “الشوم” صديقا ملازما للكثير من المصريين، يعتبرونه أداة للدفاع عن حياتهم وقت الشدة، وسندا في الكبر، وأرشيف ذكريات يحفظ لحامله سلسلة انتصاراته وهزائمه ومناسباته الاجتماعية في الأفراح والأعياد.
لم تختف “النبابيت” من مصر رغم اندثار الفتوات، إنما استمرت لاعبة أدوارا جديدة في حياة المصريين ما بين حملها كسلاح للدفاع عن النفس، وحلولها أداة في فقرة استعراضية أمام العروسين خلال حفلات الزفاف، واحتفاظها بعرش الألعاب التقليدية الإجبارية في صعيد مصر؛ “التحطيب”.
والنبوت أو الشوم، عصا غليظة مستقيمة ضخمة تنتهي في طرفها بكتلة مستديرة، وتعود أصول التسمية إلى كلمة “نبا” الهيروغليفية التي تعني العمود أو السارية الخشبية، وكانت وحدة لقياس الطول عند الفراعنة.
انضمت العصي الغليظة إلى كادر العمل في الكثير من الأعمال الدرامية والروايات المصرية، لتلعب في بعضها دور البطولة ملتصقة بيد البطل باطشة بأعدائه، أو في دور “الكومبارس” فاشلة في تغيير حظه ومنحه النصر ليطلى خشبها بدمائه.
يقول سعيد الصعيدي، الشاب الثلاثيني، من أمام محله لبيع النبابيت وعصي الخشب والخيزران، إن بضاعته رغم تراثيتها تعتمد في المقام الأول على الاستيراد من الخارج، فخشب النبابيت مستورد من بلغاريا، وعصي الخيزران إما من ماليزيا وإما من سنغافورة، ويقتصر دور البائع أو الصانع على تشكيلها بثني طرفها أو تهذيبها أو تجميلها.
ويعرض الصعيدي، الذي ورث تلك المهنة أبا عن جدّ، سلسلة من الشوم والنبابيت والعصي مختلفة الأحجام وكلها كفيلة بشق الرأس حال تلقي ضربة بها، بعضها كلاسيكي لا يتضمن أي تدخل بشري، والبعض الآخر منقوش بزخارف إسلامية، ولكل نوع منها زبونه.
ويقول، لـ”العرب”، إن بعض الزبائن لن يستغنوا عن بضاعته، كتجار الماشية الذين يشترون الثيران الضخمة باستمرار، فلا يوجد تاجر ماشية بمصر لا يحمل نبوتا يدافع به عن نفسه من الإنسان أو الحيوان في الوقت ذاته.
ويشير الصعيدي إلى أن النبابيت لا تزال واجهة لدى البعض حتى الآن خصوصا في صعيد مصر، فلا يستطيع التحرك دونها، أو بمعنى آخر باتت مكونا من مكونات الزي والشخصية الذي تتوارثه الأجيال.
ويُعتبر حمل العصا في صعيد مصر نوعا من التقاليد المتوارثة التي توحي بقيم الشجاعة والانتصار في مبارزات التحطيب، التي تبدأ بإلقاء اللاعبين التحية والدوران حول بعضهما 4 مرات، ثم تقارع العصا العصا وتنتهي بهزيمة من تفلت عصاه من يده. يفرح بائع النبابيت كثيرا بالأعمال الدرامية التي تناولت “النبوت”، إذ أعطته نوعا من الهيبة والتكريم، لكنه يخشى في الوقت ذاته من الغزو الشديد للعصي المعدنية التي تتزايد إعلاناتها ومحال بيعها بمصر، ما قد يؤدي إلى انقراض مهنته.
وضمت مكتبة السينما المصرية العشرات من الأفلام التي تناولت “العصا” أشهرها “التوت والنبوت” لعزت العلايلي و”الحرافيش” لمحمود ياسين وصلاح قابيل، و”سعد اليتيم” لأحمد زكي ومحمود مرسي، و”الشيطان يعظ” لفريد شوقي وعادل أدهم، والجوع لمحمود عبدالعزيز، وتدور جميعها حول أزلية الصراع بين الخير والشر باستخدام النبوت.
يعود ارتباط المصريين بالعصا إلى عصر الفراعنة الذين ابتكروها كفن من الفنون القتالية، لتضم المعابد القديمة مثل معبد الكرنك في مدينة الأقصر بجنوب مصر نقوشا لأفراد يتمرنون على القتال بقضبان غليظة من نبات البردي.
واقترن استخدام النبوت والعصا الخشبية خلال العصر الحديث بالنشاط السياسي، لتستخدم كأداة قتال في مواجهة المحتل الأجنبي لتكون السلاح الأول للمدنيين في معاركهم مع الحملة الفرنسية بالدلتا وشمال الصعيد، على حدّ سواء.
كما لعبت دورا هاما في مقاومة الاحتلال البريطاني، كمواجهات “الحسينية” في وسط القاهرة التي لجأ أهلها إلى حفر حفرة تتعطل أمامها سيارات الجنود الإنكليز ليهجموا عليهم بالشوم والعصي.
وإبان الانفلات الأمني الذي أعقب أحداث 25 يناير 2011، كانت الشوم وسيلة تسليح رئيسية للجان الشعبية التي تم تشكيلها لضبط الأمن، ومواجهة الفراغ الذي أعقب انسحاب الشرطة من الشوارع.
وفقا لبائعي العصيّ الخشبية، فإن الفترة التي أعقبت أحداث 30 يونيو 2013 كانت الأكثر مبيعا لـ”الشوم” والعصي، فحينها تلقوا طلبات بكميات كبيرة، لخدمة اعتصام الإخوان في ميداني رابعة العدوية بالقاهرة والنهضة بالجيزة القريبة منها، حتى أن بعض التجار عاودوا العمل بها مرة أخرى بعد توقفهم عن العمل والاكتفاء بصنع عكاز الخيزران.
ويؤكد محمود علي، الذي يزاول مهنة بيع العصي الخشبية على الطريق السريع الرابط بين القاهرة والإسكندرية، أن النبوت يعتبر السلاح الوحيد القانوني الذي يمكن للإنسان حمله للدفاع عن نفسه وهذا أحد المبررات الرئيسية لاقتنائه.
ويضيف، لـ”العرب”، أنه اختار الطريق لخدمة سائقي النقل الذين يتحركون في أوقات متأخرة من الليل ويكونون عرضة أكثر لمحاولات البلطجية الذين يريدون إجبارهم على دفع إتاوات غير شرعية مقابل المرور من الطريق، ما دفعهم إلى اقتناء نبابيت ووضعها تحت كرسي القيادة لاستخدامها عند اللزوم.
ويقول أحد بائعي العصيّ الخشبية إن المصريين لم ينسوا أنها كانت رمزا للفتوات المحترمين الذين تولوا حماية الحارة، مقابل إتاوة شهرية، قبل تغير الحال لتصبح وسيلة للبلطجة في يد الخارجين على القانون والشباب العابث.
وأوضح الدكتور يسري عبدالغني، الباحث في التراث الثقافي المصري، إن النبابيت بمصر تحمل عدة معان مجازية لتجسد الصراع بين القوة الغاشمة والفوضى والتسيب والدفاع عن النفس ومواجهة الظلم ونصرة المظلوم من جهة أخرى، والخوف من الواقع الذي لا يرحم الضعيف.
وكان لكل حارة فتوة، وتعني الكلمة لغويا مرحلة بين طوري المراهقة والرجولة، يتولي مع أتباعه الدفاع عنها وإغلاق بواباتها مساء وإنارة المصابيح الزيتية والتفتيش عن الغرباء، بينما كانت تخضع المناطق الراقية لفتوة أقرب منطقة شعبية.
ومع رغبة كل فتوة في فرض سيطرته على حارة مجاورة، نشبت معارك خارج التجمعات السكنية يتبادل فيها الفتوات القتال بالعصي والنبابيت لتنتقل تبعية الحارة إلى المنتصر الذي يُحمل على الأكتاف مع ترديد أنصاره لهتافات “اسم الله عليه” (يحرسه الله).
وبدأ العصر الذهبي للنبوت بمصر مع نهاية عصر المماليك بمصر في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، وظهور عصابات تنهب الأسواق ليتجمع من كل حارة أشخاص ضخام الحجم حاملين العصي لحمايتها، ثم مع مرور الزمن تحولت المبادرة إلى مهنة حرفيوها “الفتوات”.
وأضاف عبدالغني، لـ”العرب”، أنه “رغم التطور التكنولوجي ودخول أدوات أو عكاكيز ذكية بعضها يضيء الطريق أو يمنع التزحلق والسقوط، فإن كبار السن في الصعيد بالذات لا يزالون الأكثر حفاظا على النبوت يستعينون به في حياتهم، ولأنه موروث ثقافي، حتى أن بعض العائلات تتوارث نبوت الجد الأكبر جيلا وراء جيل إلى الآن، لتخليد ذكراه”. المصدر : العرب
www.deyaralnagab.com
|