تمثُّلاتُ الباطنِ القلقِ في رواية "ثقوب زرقاء" للخيّر شوار !!
بقلم : محمد الأمين سعيدي* ... 07.12.2013
يُنتجُ الروائيُّ معناهُ ويؤثث موضوعَ روايته بواسطة السرد، ومن خلالِ بناءِ الأحداث وتتابعها، وتعالق الشخصياتِ مع بعضها عبر مسار الحكيِ، وأيضا عبر نهايته؛ من خلالِ تقاطع مصائرها. هذا ما يجعل من الرواية بناءً متماسكا يعطي لهذا الجنسِ الأدبيّ قيمتَه الحقيقيّة حين يقدِّم رؤية للعالم تنطلق من الواقع لتنهل من تمظهراته المختلفة معانيَ الحياة، وتتجاوزه، لتخلق واقعا آخر، عالما مختلفا، هو أقرب إلى الحلم، لكنه مرآة تصححُ كثيرا من نكباتِ الواقع، وأحيانا تفضح مظاهره الكاذبة.
لهذا نجدُ الأعمال السردية تختلف بينها فيما يتعلّق بطريقة تعاطيها مع الواقع، فنجد رواياتٍ كثيرة تسقط في السرد المباشر والتصوير الذي لا يتعدَّى ما تقوم به عين الكاميرا. وعلى عكسِ هذا توجدُ رواياتٌ أخرى لا تكتب إلاّ لتؤثث مشاهد القادم، أو لتستكنه حقيقة الكائن والسائد، لتعبِّر عن القيَم الأكثر بقاءً في الإنسان، القيمِ التي تمنحه خصوصية وجوده واستمراره.
من هذه الرؤيةِ سنحاولُ النظرَ إلى رواية"ثقوب زرقاء" للخيِّر شوار، والتي صدرتْ هذه الأيام عن دار العينِ بالقاهرة، وقد عبَّرتْ، انطلاقا من عنوانها، عن إيغالٍ في غامضٍ تمثِّل الزرقة بوابته الأولى، وكأنَّما هي روايةٌ تحضِّر القارئ بشكلٍ ما إلى ابتداء رحلة قراءة مضنية، مصحوبةٍ بكثيرٍ من التركيزِ والانتباهِ الفائق، لأنّ العملَ اتخذَ شكلا مغايرا للسرد عبّر عنه عنوانه أولا وعناوين الفصول(واحد، اثنان، صفر) التي تصبح ذات معنى حين ترتبط بمتنها.
تبدأ الرواية من عنوانٍ صحفيٍّ يخبِر عن جريمة قتل بشعة وقعتْ في منطقة الطاحونتين بغربِ الجزائر، فيذهبُ صحفيٌّ مرافقا بالمصوِّر أمين إلى مسرح الجريمة حيث البناية العتيقةُ التي شهدتْ دماءً كثيرة، ليحقق في الأمر ويكتبَ روبورتاجا عن الموضوع. هذا الصحفيّ/الشخصية الذي لم تقدّمْ له الرواية اسما، أو تفاصيل دقيقة، عدا أنّه ينتمي إلى مهنة الصحافة. فيأخذ في التحقيق في هذا الموت البشع الذي تعرّض له متشرّدٌ مسكين، ذبح وطعن مراتٍ عديدة، قبل أنْ يثبت التحقيق النهائيّ بأن ما حدث عملية انتحار بشعة، تركتْ على جسد الضحية آثارا غائرة بعيدا، أكثرها إثارة للانتباه تلك الثقوب الزرقاء على وجهه التي أيقظتْ في ذهن الصحفيّ خيالات وهواجس كثيرة، يعبِّر عنها الفصل الأوّل من خلال نهايته التي أصيب فيها بحمّى شديدة أدخلتْه إلى دوّامةِ كوابيس رهيبة.
ولا يفوتنا هنا أنْ نشير إلى ذكاءِ الروائيّ الذي استطاع، من خلالِ اختيار مكان الجريمة وهو القصر المهجور الذي تحاك حوله الأساطير، أنْ يحضِّر القارئ لكثير من العجائبية التي ابتدأتْ بثقوب زرقاء على وجهِ الضحية، والتي أثارتْ في الصحفيّ كثيرا من الرعب وأخذتْه بعيدا إلى عالم مخيف، وستستمر-العجائبيّة-عبر مسار الحكاية وهي تؤثث لمشاهد عجيبة ذات طبيعة رمزية تفسِّر كثيرا من نفسية الإنسان الجزائريّ وواقعه وماضيه المتناقضيْن.
1.نهاية الحلم/بداية الرواية
ينتهي الفصل الأول بكابوسٍ رهيب تمثلتْ فيه صورة الضحية كرأس يطاردُ الصحفيَّ، وإذْ أفاقَ منه متصببا عرقا ومرتجفا كالخوف؛ يقرر أنْ يرويَ ما رآه، وتعبّر عن هذا آخر فقرة من هذا الفصل:"عندما نهضت في اليوم الموالي في ساعة مبكرة وجدت في ذاكرتي هذه التفاصيل، كأنها وليدة تلك الكوابيس، أو كأنّ شخصا سردها عليّ دون أنْ أذكره، فأحسستُ برغبة في تفريغ الحكاية بتفاصيلها قبل أنْ تأخذني إلى المجهول.".
بهذا الاعتراف الصادر عن الصحفي الذي أخذ على عاتقه أنْ يتحوّل إلى راوية لما رآه في كابوسه، يكونُ الروائي قد أعلن ضمنا بأنّ الرواية ابتدأتْ من نهايتها، أيْ من حيث انتهى الحلم إلى يقظة؛ افتتحتْ الرواية مسارها ليكون متنها عبارة عن حلم بقدر ما يحملُ من عجائبية وخيالٍ جامح يعبِّر بعمق عن كثير من تفاصيل الحياة الجزائرية وصعوبتها، ويصوِّر باطن الإنسان الجزائريّ القلق.
2.بداية الحلم:توقف الزمن/غموض مسار السرد
من الفصل الثاني الذي حمل عنوان"اثنان"، تحوَّل السرد إلى الحديث عن ضمير غائبٍ يمثِّل بطل الحلم، ومفتاحَ أسرار هذه الرواية، لكن لابدَّ من الإشارة هنا إلى كون عنوان الفصل"اثنان"، لم يوضع عبثا، وإنّما يعبّر بشكلٍ رمزيّ عن الشخصيات التي لا تظهر إلا على شكل زوجينِ اثنين. فمن الصفحات الأولى يكونُ الإثنان هما:الضمير الغائب المتحدث عنه والوجه الفسفوري، ثم إذ نتقدّم في الحكيِ سنكتشف وجود اثنين آخرين هما:جمال وبوعلام، وكلاهما حين ينضافان إلى المتشرد القابع في القصر المهجور يصبحان رمزا للماضي أو عودة له والثاني هو المتشرّد، ويعود الرقم مجددا حين تظهر نسوة ينشدنَ، فيطلق المتشرّد على إحداهن اسم وسيلة، لنجد في حكايات بوعلام وسيلة أخرى، زوجته، فيتحصل لنا اثنان من اسم واحد، هو لامرأة واحدة تمثل بالنسبة للمتشرّد ماضيا لا يقدر أنْ يتعرّف إليه، وبالنسبة لبوعلام، وهو الذي انبثق من أعماق المتشرد في ليلة باردة ليمثل مع جمال عملية قتل قديمة، وليذكره بنفسه، وأنه هو نفسه القاتل القديم؛ تمثِّل بالنسبة له حاضرا يضيِّعه تحت قهر الظروف الخارجية والظروف النفسية الداخلية.
يحيلنا هذا إلى الحديث عن توقف الزمن واقتصاره على ذكريات بعينها حملها المتشرّد الفاقد لذاكرته، والتي ستكون له بمثابة مرآة تضيء بعضا من حياته السابقة الغامضة، والتي يزيدها تواجده بالمكان المهجور غرابة، حين يرى تمثلات حياته الماضية، كانجذابه للنسوة اللواتي ظهرنَ ينشدْنَ في القصر بلغة يجهلها، وافتتانه بواحدة منهنّ مقررا أن يطلق عليها اسم وسيلة، زوجة بوعلام، وزوجته في حياة سابقة. بل إنّ هناك أحداثا عديدة تمثِّل الرابط بين حالته من الجنون والتشرّد وبين ماضيه يوم كان هو بوعلام، وكانتْ حبيبته وسيلة التي أحبها، وآلمها تحت القهر النفسي والاجتماعي، ويحدث هذا الربط من خلال الكلاب التي اقترب صوتها من المتشرّد حين أتى الرجلان لدفن الجثة، وهي الكلاب نفسها التي استعان بها بوعلام ليدافع عن نفسه وعن زوجته يوم أسكنها في خرابة مشروع البناء المتوقف. لكنَّ الغموض الذي يخيّم على الأجواء العامة للرواية سيتطلّبُ من القارئ تركيزا أكبر ليكتشف هذه الشبكة من العلاقات التي تجعل كل الشخصيات المذكورة تحيا داخل شخصية واحدة فقط؛ شخصية كأنما هي مصابة بالانفصام، أو هي حقا مصابة به.
3.مرايا العنف في الشخصية الجزائرية
حفلتْ رواية"ثقوب زرقاء" بمشاهد الدّم التي عبَّرتْ من خلالها عن العنف المتأصل في شخصية الإنسان الجزائري الذي عايش عبر تاريخه القديم والمعاصر كثيرا من العنف والقسوة، مما جعلَه يتربَّى على تركيبة نفسية تضمر كثيرا من الجراحِ والألم. هذا ما تعبِّر عنه أحداث الرواية ابتداءً بعملية الانتحار البشعة، أو من خلالِ ممارسات بوعلام العنيفة على ابنه وزوجته، والتي أنتجتها اضطرابات نفسية يعيشها، ورسّختْها فيه مشاهد عنف من طفولته منها رؤيته لرأس مذبوح، وتطوّر ذلك إلى ممارسة العنف تجاه كل من يقترب من وسيلة، كالأستاذ الذي كاد أن يقتله ضربا، وانتهاءً إلى تعذيب ابنه بطريقة هستيرية، وبجريمة القتل التي أنهى بها حياة رجلٍ مجهول، وأنهى بها، لاحقا، حياته هو، حين ظنَّ نفسه يقتل صاحب الوجه الفوسفوري في حين أنه كان لا يقتلُ إلا نفسهُ.
إنَّ هذه المشاهد العنيفة التي تنتج عن بعضها تعبِّر عن فكرة عميقة، وصحيحة بسيكولوجيا، وهي أنّ العنف لا يولّد إلا العنف. وأنَّ ما عاشه الجزائريون من نكبات العشرية الدموية، وما يعيشونه، جعلَهم ضحايا لتلك القسوة التي حوّلتْ الدمَ الغالي إلى ماء يتدفّق في كل ناحية. ولعلَّ هذا الاحتقان هو ما عبّرتْ عنه الصورة المتخيلة للرؤوس التي أخذتْ تنفجر من تلقاء نفسها، وفي هذا معنى عميق يعبّر عن حقيقة الورطة التي يعانيها الأفرادُ داخل المجتمع من جراء المشاكل الكثيرة التي لا حلَّ لها.
4.سكيزوفرينيا الفرد/سكيزوفرينيا المجتمع
إذا افترضنا بأنَّ الرأس الفسفوريَّ الذي كان يطارد المتشرّد وكثيرا من الأشياء التي كان يراها أو يتخيّلها هي جميعا نوع من الانفصام الذهني الذي يتوهّم صاحبه وجود أشخاص أو أصوات أو رؤية أشياء لا وجود لها تماما، إذا سلمنا بهذا الافتراض، أوليسَ الصحفيّ أيضا مصاب بانفصام ذهنيّ؟ وهو الذي توهّم وجود حكاية لا وجود لها، بل وتخيَّل حدوث جريمة والتحقيق فيها ونشر روبورتاج حولها؟؟ هذا واردٌ، وهو في الحقيقة منسجم تماما مع الاضطراب والاحتقان اللذين تعبر عنهما الرواية، ومع مشاهد العنف التي جعلتْ من الجزائريّ سجين عقد كثيرة تحوِّله في أية لحظةٍ إلى قنبلة موقوتة.
5.خلاصة:تحسس رأسك..تحسس رأسك
"ثقوب زرقاء" رواية ذات خصوصية جزائرية بامتياز، فهي تعبِّر بصدقٍ عن باطن الإنسان الجزائري العامر بالتناقضاتِ، والممتلئ بجراحات غائرة لا يمكن تجاوزها بسهولة، ولا تزال تتمظهر بشكلٍ أو بآخر في كثير من السلوكات. لكنّها عبَّرتْ عن هذا بكثير من الجمالية، خاصة على مستوى الشكل، إذْ جعلتْ بناء الرواية مختلفا، وابتعدتْ تماما عن الزمن البيولوجيّ المتتابع، لتتخذ من الزمن النفسي الداخلي عصا للسرد، الزمنِ النفسي المناسب لحالة الشخصيات المضطربة، ولحالة الناس المختنقين بظروف اجتماعية قاهرة، حتى راح الكاتب يتناصّ مع صلاح عبد الصبور في قصيدته "الظلّ والصليب"، حين وصف حال الناس وقد أخذتْ بعض الرؤوس تنفجر من تلقاء نفسها قائلا:"بدأ الكثير من الناس يتحسس رأسه والرعب يكادُ يقتله وهو يتوقع أنْ ينفجر في أية لحظة".
هكذا كانتْ رواية "ثقوب زرقاء" للخيّر شوار، ممتلئة، محتقنة، متعِبة جدا جدا، فتحسس رأسك أيها القارئ حتى لا ينفجر... *شاعر وناقد جزائري
www.deyaralnagab.com
|