logo
شواهدُ الثَّقَلين مِن دُرَرِ مجمع البحرين!!
بقلم : د. نضير الخزرجي ... 03.07.2024

رغم تخطي قطار العمر محطة الستين فما زال المسلسل العراقي التمثيلي "تحت موس الحلاق" الذي عُرضت أولى حلقاته من على الشاشة الفضية العراقية عام 1961م وهو العام الذي شهد مولدي، عالقاً في ذهني، وفي أذهان الكثير ممَّن عاشوا فترتنا.
ولعلَّ أكثر المشاهد تذكاراً وأنسا وقرباً إلى النفس علقة وهو مشهد الممثل سليم البصري (حجي راضي) صاحب محل الحلاقة وهو يقرأ لأم غانم (الممثلة سهام السبتي) رسالة قادمة من ابنها غانم الذي يدرس في الهند وفوق رأسهما عامله وصانعه عبوسي (الممثل حمودي الحارثي) منتظراً أن ينهي أستاذه قراءة الرسالة ليعيد قراءتها ليعلن تفوق الصانع على الأستاذ، وكان الحاج راضي في السنة الأولى من مرحلة مدرسة محو الأمية المسائية، وهو كغيره من طبقة وصنف "أبو أحمد العرِّيف" أو "أم أحمد العرِّيف" لا يُسأل عن سؤال إلا وتحت عباءته الإجابة جاهزة صابت أو خابت، وهو كغيره من كثير من أترابه لا يملك قدرة القول "لا أعرف" إن سئل عن شيء لا يعرفه، حيث تأخذه العزة والإعتداد بالنفس ويفور عنده تنور الحميَّة إنْ قال لا أعرف، وكيف يقول ذلك وهو له في كل مائدة ملعقة وفي كل سفرة خبزة، فتناول الحلاّق الرسالة من أم غانم وراح يشجيها من الكلام العربي ما يسرّها مرة ويغمّها مرة أخرى فجملة "أهديكِ أزكى تحياتي" صارت "آهْ ديكي آجيك نَحَباني" وجملة "مع خالص أمنياتي" صارت "مَعْفالْصو أمَمْباني"، وخاتمة الرسالة "تحياتي للوالد العزيز" صارت "نَحَباني لَلّو الفريد"، وهو يشعرها أنَّ الكلام باللغة الهندية ولأنه أبو أحمد عريف المحلة والمنطقة فإنه قادر على الترجمة من الهندية إلى العربية.
وتجربة محو الأمية في مسلسل "تحت موس الحلاق" عشناها وعاشها كل من دخل المدرسة وحاول بعد سنة أو سنتين من مرحلة الإبتدائية أن يقرأ على أبيه أو أمِّه سطراً من كتاب أو جريدة ليظهر اقتداره على تلفظ الحروف الهجائية بسلامة، فإن كان الأب على مستوى من الوعي والثقافة استمع لابنه دون استهزاء أو تعنيف وتنمر وهو بذلك يكون قد نثر في أرض فلذة كبده بذرة حب العلم وسلامة التعلم ويفتح له أبواب المستقبل، وإن استعرض قسمات وجهه مستهزئاً أو مكشِّراً عن نواجذه غضباً ورفع كفه ضارباً فقد أمات في نفسية ابنه روح التعلم والتطور وغلَّق عليه أبواب العلم.
في سالف الزمان وفي العقد الأول من أعمارنا كان كتاب منجد اللغة وقاموسه بالنسبة لنا كرسالة أم غانم عند حجي راضي، نقرأ الكلمة ولا نفقه المعنى إلا ما كان مطروقاً في أذهاننا، وقد نلفظها ونتهجّاها على طريقة "نَحَباني لَلُّو" ونحن نستشعر الفرحة بالقراءة ونستحضر المعنى الذي نريد أن نفهمه لا كما هو في حقيقته، ورغم مرور ستة عقود على عرض آخر حلقة من مسلسل "تحت موس الحلاق" عام 1969م، فإن تناولي لأي معجم لغوي أو منجد أو قاموس يعيد بي الذاكرة إلى سنوات الدراسة الإبتدائية ومنهج: "دار داران دور"، وهذا ما ذكرني به الجزء الأول من كتاب (تعديل مجمع البحرين للعلامة الطريحي) الصادر حديثا (1445هـ) عن بيت العلم للنابهين في بيروت من إعداد وترتيب وتعليق المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في 408 صفحات من القطع الوزيري.
ليس ككل القواميس
بحكم العمل في مجال البحث والتحقيق، فإن التعاطي مع القواميس اللغوية يكاد يكون أمراً حتمياً وشبه يومي إن لم يكن يومياً بخاصة وإن دوائر التحقيق متنوعة قد تتداخل وقد تتقاطع، وكل من يعمل في هذا الحقل يدرك حاجته إلى قاموس اللغة، وتختلف القواميس من حيث محتواها ومتنها من فقيه لغوي معجمي إلى آخر .. ولكنها تشترك جميعاً تحت قاسم واحد وهو بيان معنى الكلمة لغة واصطلاحاً على أن أمداء المعاني للكلمة الواحدة طولاً وقصراً تختلف من قاموسي لآخر، ولثقافته وحمله للغة الأم وتمكنه منها مدخلية كبيرة في منجزه اللغوي.
ويعتبر كتاب أو قاموس "مجمع البحرين ومطلع النيِّرين" بأجزائه المتعددة للعلامة فخر الدين بن محمد علي الطريحي الأسدي المتوفى في منطقة الرماحية وسط العراق سنة 1085هـ (1674م)، من المعاجم اللغوية الراقية التي آلفت بين اللغة والقرآن والحديث وقليل من الشعر والأمثال وما شابه، عمد المحقق الكرباسي إلى ترتيب كلمات المعجم وتعديلها من النمط القديم للمعاجم الذي يتعامل مع المفردة اللغوية من خاتمتها إلى النمط الحديث الذي يتعامل معها من بدايتها وفق ترتيب الحروف الهجائية، فالنمط القديم المتداول في القرون الماضية كان يعتمد على سبيل المثال في باب الألف المفردة والهمزة على ما أوله الهمزة وآخره الألف ومن ثم ما كان أوله الباء وآخره الألف ومن ثم ما كان أوله التاء وآخره الألف وهكذا دواليك حتى نصل ما كان أوله الياء وآخره الألف، ثم يدخل في حرف الباء على المنوال نفسه ما كان أوله الألف وآخره الباء وما كان أوله الباء وآخره الباء وما كان أوله التاء وآخره الباء إلى نهاية ما كان أوله الياء وآخره الباء، وهكذا مع بقية الحروف وتمام المعجم، وبتعبير الأديب اللبناني عبد الحسن دهيني في مقدمة الناشر: (مجمع البحرين .. بل تعديل مجمع البحرين، حيث أصبح ترتيب مفرداته على أول الكلمة وليس على آخرها كما هو الأصل، للتسهيل من التعقيد الذي قد يعترض الباحث عن المفردة، بإزالة خطوة من الخطوتين اللتين كان يتبعهما الباحث في النسخة الأصلية، فالخطوة الأولى البحث عن المفردة حسب آخرها، ومن ثم حسب أولها، وبهذا التعديل تم تجاوز الخطوة الأولى).
وزاد المحقق الكرباسي في الجزء الأول من "تعديل مجمع البحرين" الذي اختص بحرف الألف فقط أن أضاف شروحات وتعليقات كثيرة إلى جانب شروحات وتعليقات محقق كتاب "مجمع البحرين" الأصل الموسوعي المعمِّر العلامة السيد أحمد الأشكوري الحسيني المولود في مدينة النجف الأشرف بالعراق سنة 1350هـ (1931م) والمقيم اليوم في مدينة قم المقدسة بإيران، وتم بذل الجهد بشكل كبير وتدقيقه مرات عدة ومراجعته ومطابقته مع قواميس اللغة الكبرى أنّى لزم الأمر وتخريج آياته وكذلك أحاديثه من المصادر المعتبرة، وتمَّ كما يؤكد الناشر في المقدمة: (إشباعه شروحاً وهوامش وجدنا ضرورة في إضافتها، ناهيك عن ترتيبه بشكل واضح وحرف واضح بهدف التسهيل والتيسير. وقد حافظنا على مقدمة المؤلف وترجمته ومقدمة المحقق، بينما وضع المعد سماحة آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي دام ظله مقدمة للكتاب مع تمهيد شرح فيه آلية عمله وطريقة ترتيبه لمفرداته، وكيفية البحث فيه، إلى جانب التعاليق المفيدة من قبله حفظه المولى).
ويمكن معرفة أهمية الكتاب الأصل والمعدل وما فيه وذلك من ملاحظة الفهارس العامة لكتاب التعديل وهي على النحو التالي: فهرس الآيات المباركة، فهرس الأحادث والروايات، فهرس الأمثال والحكم، فهرس الأعلام والشخصيات، فهرس القبائل والأنساب والجماعات، فهرس الطوائف والملل، فهرس الأشعار، فهرس التاريخ، الفهرس اللغوي، فهرس الأماكن والبقاع، فهرس الوقائع والأحداث، فهرس المؤلفات والمصنفات، فهرس المصادر والمراجع، فهرس مؤلفي المراجع، وفهرس المحتويات والمندرجات.
وحسب تعبير المحقق الأشكوري في مقدمته: (ويكفي في أهمية هذا الكتاب أنك لا ترى أحداً من رجال العلم إلاّ ولديه نسخة منه يراجعه في اليوم وفي كل بحث مرات، لأنه ليس كتاب لغة فحسب بل هو أشبه شيء بدائرة معارف للعلوم الإسلامية المتداولة في عصر المؤلف).

مجمع الثقلين
في الواقع أن العنوان الكامل للكتاب يحكي عن مضمونه فهو: "مجمع البحرين ومطلع النيَّرين في غريب القرآن والحديث" استطاع المؤلف بأفقه العلمي الموسوعي أن يستنطق متون الثقلين (القرآن الكريم والسُّنة الشريفة) ويستخرج المفردات اللغوية ويشرحها بالقرآن والحديث ويطعمها بفاكهة الأمثال والأشعار، وبتعبير الأديب الدهيني في مقدمة الناشر: (نعم إنه مجمع البحرين، بحر لغة الآيات الكريمة، وبحر لغة الأحاديث الشريفة والروايات المباركة، بحران يلتقيان في محيط اللغة العربية تلك اللغة الجميلة والعذبة، تلك اللغة المتينة والمتماسكة، لغة القرآن العظيم، لغة الشعر البديع، لا تضاهيها في البلاغة لغة أخرى)، وحسب تعبير العلامة الأشكوري الحسيني: (يمتاز مجمع البحرين بجمع المواد اللغوية ذات الأهمية إلى جانب الألفاظ الغريبة المستعملة في الكتاب والسنة الطاهرة المروية من طريق أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، فهو كتاب لغة وكتاب غريب القرآن وكتاب غريب الحديث في وقت واحد).
ويتداخل بيان معنى الكلمة بين الشاهد القرآني والشاهد الروائي وفيهما الشعر والمثل والتاريخ والجغرافية والأنساب وغيرها، وقد يستقل شرح الكلمة قرآنيا فقط أو روائيا فقط.
* ومن شواهد الشرح القرآني كلمة "أ. ب. و" في الآية 78 من سورة الحج: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) قول المؤلف: (جعل إبراهيم أباً للأمة كلها، لأنَّ العرب من ولد إسماعيل وإسحاق، وأكثر العجم من ولد إسحاق، ولأنه أبو رسول الله (ص) وهو أبٌ لأمَّته، فالأمة في حكم أولاده، ومثله قوله تعالى "وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ" البقرة: 133، أضيف الأب إليهما، لأنه من نسلهما)، وبهذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا علي: أنا وأنت أبوا هذه الأمَّة).
* ومن شواهد الشرح الروائي في كلمة "أ. ر. ن. ب" قوله المؤلف: (ومنه الأرنبة: طرف الأنف عند الكل، والأرنب واحدة الأرانب هو حيوان يشبه العناق قصير اليدين طويل الرجلين عكس الزرافة)، ويضيف: (أرنب: في الخبر: رأيت على أنف رسول الله وأرنبته أثر الماء والطين. ومثله: كان يسجد على جبهته وأرنبته) ومن الحديث الذي يرويه ابن حجر العسقلاني في لسان العرب: 1/501 وغيره، يُفهم قطعاً ويقيناً أن رسول الله كان يسجد عند الصلاة على الأرض مباشرة حتى ولو كانت رطبة دون حاجز من فراش أو سجاد حتى يُرى أثرها في جبهته وأرنبة أنفه، وهو القائل صلى الله عليه وآله وسلَّم في الرواية المتواترة: (جُعلت لي الأرض مسجداً وطهورا).
* ومن نماذج الجمع بين الشاهد القرآني والروائي والنظم في كلمة "أ. ذ. ن"، في الآية 45 من سورة المائدة: (وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ)، قوله المؤلف: (هي بسكون الذال وضمها: معروفة) أي جارحة الأذن التي منها نسمع، ويعدد المؤلف الآيات الواردة عن كلمة "أذن" وتصريفاتها، ويأتي على الآية 38 من سورة النبأ: (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً)، فيدعم الشرح القرآني بالحديث المروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عندما سأله السائل عن هذه الآية فقال عليه السلام: (نحن والله المأذون لهم يوم القيامة، والقائلون صوابا. قال: جُعلت فداك ما تقولون؟ قال: نُمجِّدُ ربَّنا، ونصلِّي على نبيِّنا، ونشفع لشيعتنا فلا يردُّنا).
ومن الشاهد النظمي في كلمة "أذن" قول الشاعر ابن ضمرة قعنب ابن أم صاحب المتوفى بعد سنة 95هـ من بحر البسيط الأول شاكيا نفاق المجتمع:
صمٌ إذا سمعوا خيراً ذُكرتُ به *** وإنْ ذُكرتُ بسوءٍ عندهم أذن
* ومن نماذج الشرح الجغرافي في كلمة "أ. ر. ح" قول المؤلف: (أرح: أريحا كزليخا وكربلا: إسم قرية الغور قريباً من القدس).
* ومن شواهد الشرح بالنظم في كلمة "أ. س. أ" ومنها التآسي والمواساة قول مصعب بن الزبير الأسدي القرشي عام 72 للهجرة، من بحر الطويل الثاني، وقد نزل كربلاء ووقف عند قبر سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي عليهما السلام في طريقه لحرب عبد الملك بن مروان الأموي:
وإنَّ الأُلى بالطَّفِّ من آل هاشمٍ *** تآسَوْا فَسَنُّوا للكرامِ تآسيا
ومنها في شرح كلمة "أ. ث. م" قول ابن الفارض عمر بن علي الحموي المتوفى سنة 632هـ، من بحر الوافر:
شربتُ الإثمَ حتّى ضلَّ عقلي *** كذاكَ الإثمُ يذهَبُ بالعقولِ
* ومن نماذج الشرح الذي يجمع بين اللغة والتاريخ وعلم الرجال والأنساب في كلمة "أ. م. أ" ومنها كلمة "أميّة" قوله المؤلف: (في نقل آخر: إنَّ بني أميَّة ليسوا من قريش، بل كان لعبد شمس بن مناف عبدٌ رومي يُقال له "أميَّة" فنُسب إلى عبد شمس، فقيل: "أميّة بن عبد شمس" فنسبوا بني أميَّة إلى قريش لذلك، وأصلهم من الروم، وكان ذلك عند العرب جائزاً أن يلحق بالنسب مثل ذلك، وقد فعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلَّم بزيد بن حارثة الكلبي مثل ذلك حيث تبنّاه بعد أسره ونسبه إليه حيث تبرّأ أبوه منه، فقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: "يا معشر قريش والعرب زيدٌ ابني وأنا أبوه" فدعي بزيد بن محمد).

على مائدة الأدب
يمثل كتاب "مجمع البحرين ومطلع النيِّرَين في غريب القرآن والحديث" تحفة لغوية كبرى جمعت بين علوم كثيرة، وزاد المحقق الكرباسي من مائدة الأدب أن ألحق بكتاب "تعديل مجمع البحرين" قصيدة دالية من نظم الشاعر الجزائري عبد العزيز شبين اختص كل بيت بحرف من الحروف الهجائية، كان مطلعها مع بيت الألف، من بحر الرجز، على النحو التالي:
لسانُ أوجٍ ألَقاً تفرَّدا *** أولى بقُدْسِ حرفهِ أن يُعبدا
فيما الألِفُ اللهُ الذي بلا ابتدا *** وسرمدٌ بِلا انْتِها فوق المدى
وأنهاها بالياء وخاتمة القصيدة على النحو التالي:
الياءُ ياسينٌ وقرآنٌ حكيــ *** ــمٌ فاتَّبِعْ بيانَهُ المسدَّدا
أكرِمْ بعنقودِ حروفٍ قُدِّست *** ثغرُ العلى بِسحرها تنضَّدا
ولأن معد التعديل محقق ورجل موسوعي وصاحب مؤسسة علمية كبيرة رغم أن الكادر العلمي العامل معه على عدد أصابع اليد لضيق ذات اليد، فإنَّ الواجب الأخلاقي كما يؤكد في مقدمته حتَّم: (أن أشكر كل َّ من عمل جاهداً في إنجاز هذا السفر اللغوي الأصيل المبتني على المنهلين العظيمين القرآن المنيف والحديث الشريف، وهم الأخوة الأفاضل: الأديب الحاج عبد الحسن دهيني- لبنان - والشاعر علي الشاهر – العراق – والحاجَّة سهام عسّاف – لبنان – والدكتور نضير الخزرجي – العراق - حفظهم المولى جلَّ وعلا).

باحث عراقي مقيم في لندن

www.deyaralnagab.com