رواية «الجري في المكان».. وما يمكن أن تفعله رصاصة واحدة!!
بقلم : حسن داوود ... 29.02.2024
كما لو أن الروائية نورا ناجي تسلخ الألوان والمذاقات والروائح عن الأشياء ليصير لها وجودها الخاصّ. فهناك أنواع كثيرة من الأصوات، لكن نورا تستطيع أن تنبّه، بل أن تصف، بماذا يختلف صوت عن صوت. صوت الهتاف مثلا يختلف عن صوت المترو، وكذلك يختلف عنهما صوت الموت الذي يأتي، في أحد أوصافه، «مثل فتح زجاجة، أو دفقة هواء مكتوم تنطلق من فوهة ضيّقة». كما يمكن أن تستحوذ الألوان على طاقة ما لوّنته، وتذهب بعيدا في تحديد ماهيّاتها. ليس للّون صفة واحدة أو شبيه واحد هنا، كما درج محبو إقامة التشبيه بين المختلفات، (كأن يتبارى ساهرون في المقارنة بين ما لا يقترنان، على نحو تشبيه الفصول بالألون). اللون هنا حركة متحوّلة تضمّ وتقصي، إذ «يجمع الرمادي المتناقضات كلها: الموت والحياة، الأنثى والذكر، والتعقّل والغضب، الهزيمة والانتصار».
«سنوات الجري في المكان» الصادرة عن دار الشروق في 265 صفحة سنة 2024، يبدأ كل فصل من فصولها بهذه التعريفات، التي لا يُكتفى منها بإعداد القارئ إلى ما هو مقبل على قراءته، كأن تكون وجهة القصّ ذاهبة نحو الأحمر في باب الألوان مثلا، أو نحو الموت في باب المذاقات. فهذه المقدّمات التي تسبق الفصول وتهيّئ لها هي أشبه بمطالع شعرية وفلسفية، أو هي نوع أدبي قائم بذاته. فقد يخطر لقارئ مثلا أن ينزع الورقة التي تحمل وصف واحد من هذه الأشياء مثلما يفعل أحد تعلّق بمقطع شعري أحبّه وأراد الاحتفاظ به. أعني أن صلة هذه المقدّمات بما تُقدّم له قد تكون، أحيانا، غير لازمة. حتى إن قارئ الرواية، غالبا ما يبحث إن كانت هناك صلة بين التقديم الشعري والفلسفي ذاك وما تقوله الرواية.
أو ربما أدركت الكاتبة أن الصفحات التي تحتوي النصّ السردي (الروائي) من كتابها لم تقل فيها كل قولها فقامت بإذكائه بتلك التقديمات. ثم إنها أضافت إلى الرواية نصّا مسرحيا قائما بذاته، دارت حواراته بين إحدى شخصيات الرواية وطبيبه النفسي. وهذا النصّ المسرحي مستقل تبويبا وإخراجا عن نصّ الرواية، إلى حد أن المقبل على قراءته يتساءل إن كان كتابا أضيف إلى كتاب. كما هناك فصول مستدركة أعقبت انتهاء الرواية، احتوت على منامات إحدى شخصيّاتها، تلك الفصول التي لم تجد لها متسعا في مسار الرواية. ثم هناك نصوص تحمل عنوان شهادات. كما نقرأ، في صفحة ونصف الصفحة، تعريفات موجزة بالشخصيات الرئيسية، تلك التي من المفترض أن نصّ الرواية الأصلي، لم يُبق حاجة للتعريف بها.
«سنوات الجري في المكان» لم تشأ أن تكون مثل الروايات، بادئة مثلها ومختَتَمةً مثلها. هنا لا قوام واحد ولا بناء متصّل في الصفحات الـ265، بل إننا إزاء أشخاص تُقارَبُ حياتهم من جوانب وأنحاء مختلفة، مرة بالشعر ومرة بالمسرح ومرة بالكتابة التأملية. أما الفضاء التعبيري فهو بالمشاعر والحواس، التي كانت ترسّبت في السنوات العشر المنقضية من حياة تلك الشخصيات. إنهم، هم أبطال الرواية، في زمن ما بعد حدث الرواية. الآن هم يعيشون في القليل الذي تبقى. لا شيء يحدث هنا إلا الموت وانتظاره، والخوف منه في آن واحد. ثم هناك التذكّر. تذكّر الحدث الأول، أو الحدث الأكبر، الذي صنعته رصاصة أصابت عين رفيقهم سعد وأردته قتيلا. كانت تلك الواقعة الأكبر في حياتهم. وقد حدثت في لحظة بطولة أخرى هي وقوف مصطفى أمام الجمَل الهائج، في اليوم المشهود له كيوم تاريخي في حياة البلد.
الرواية تحكي ما بقي من هذه المجموعة التي جمعت بين أفرادها الصداقةُ والعمل والعشق، وما زال يتردّد بعض من ذلك وإن متكسّرا وبالغا نهايته. هم فقط، أفراد تلك المجموعة، وصلة بعضهم ببعض. لا تخبرنا الرواية عما يتصل بحياة يحيى ونانا وياسمين ومصطفى إلا القليل. قد يحضر أب أحدهم فقط إن كان أثره ما يزال صانعا لمعاناة أحد أفراد هذه المجموعة، لكن لا أثر للزوجة ولا الأولاد، الذين صنعوا حياتهم ما بعد مصرع سعد، وتحوّل لحظة انتصار مصطفى على الجمل إلى مشهد عابر مكمل للفاجعة.
عرضاً نعرف عن ذلك الجانب الآخر من حياة الشخصيات. ربما مرّة واحدة تذكر الرواية شيئا عن الحياة اللاحقة للحادثة الفاجعة. هي فاجعة واحدة تحيط بهم جميعا، وانكسار شامل لمجموعتهم، التي كان ينبغي لها أن تكون الأكثر طموحا في الجيل الذي عاشت بينه. هي ثمانية عشر يوما رفعت الحياة إلى الذروة ثم هوت بها إلى ما قرأناه هنا.
www.deyaralnagab.com
|