رحيل ليلى بعلبكي… الساخطة في أوج الزمن الجميل!!
بقلم : حسن داوود ... 03.11.2023
ما يبقى في أذهان الجيل الذي تأخّر قليلا عن صدور كتاب ليلى بعلبكي هو عنوانُه (أنا أحيا) كما تبقى كذلك الشهرةُ التي حظي بها، أي أن ما بقي منه ذكراه وليس نصّه. ربما لأن ما يُكتب هنا، في بلد هذا الكتاب، إنما يُكتب لجيل واحد. الشهرة الواسعة التي حقّقها «أنا أحيا» لم تمدّه بطاقة على البقاء. لم يعد يُذكر اسم ليلى بعلبكي في الكلام حول الرواية اللبنانية، أو العربية في السنوات والعقود التي تلت. دار الآداب التي أعادت إصداره سنة 2023 لم تجد نصّا لكاتب متأخّر تضيفه، على الغلاف الخلفي، إلى نصوص أولئك الذين يرجعون إلى أزمنة كتابية سابقة.
لا نقرأ جملا أطلقها كتّاب من أجيال ما بعد الستينيات والسبعينيات. ما نقرأه حصرا هو تعليقات وآراء لكتّاب رحلوا جميعهم: ميخائيل نعيمة وكاتب ياسين وجبرا إبراهيم جبرا وتوفيق يوسف عوّاد، كلّهم من أجيال الما قبل، ومن اتساع جغرافي لا يقتصر على لبنان الذي كانت تصدر فيه مجلّة «شعر» المحتضنة لكتاب ليلى بعلبكي والمروّجه له.
جرى اعتبار الكتاب الروائي من قِبَل أولئك المذكورين أعلاه، كما من كثيرين معاصرين لهم، ممثلا لتيار جديد في الرواية العربية. أسلوبه «جديد وفريد» كما كتب ميخائيل نعيمة. أما كاتب ياسين الجزائري صاحب رواية «نجمة» فرأى أن ليلى بعلبكي حقّقت بالأدب خروجها كامرأة من سطوة التقاليد القامعة. «أنا أحيا» هي بالفعل رواية احتجاج صارخ وعنيف، رواية خروج عن المعتقدات والسلوكات والمفاهيم، التي في ذاك الزمن، كانت ما تزال مهيمنة بالقسر.
في روايتها احتجّت بعلبكي على كل شيء: الأهل، وبيت الأهل وعاداتهم وقيمهم، كما على الجامعة التي انتسبت إليها بطلتها (لينا) وعلى المؤسّسة الحديثة آنذاك التي انضمت إلى سلك موظفيها، كما احتجّت على الطريق حيث تخرج متنقلّة بين تلك الأماكن الثلاثة، وكذلك على البشَر الذين على الطريق، كما على إيهاب، الرجل الذي تعلّقت به. لا شيء من الزمن البيروتي بقي دون أن ترفضه الكاتبة، ذاك الزمن الذي عرف، في العقود التي تلت، بزمن لبنان الجميل.
قراء حاضرنا اللبناني، القابعون في ظل حروب حدثت، أو حروب ستحدث، يفتّشون في الكتاب عن السبب الذي أدى ببطلته إلى كره عيشها. هؤلاء، الجدد، في كلامهم اليومي وفي مقالاتهم الصحافية، كما في الروايات التي أصدرها كتّابهم، يميلون إلى تعيين الأسباب التي أدت إلى سخطهم. وهي أسباب فعلية تقع الحروب في مقدّمتها. أما ليلى بعلبكي، في نظر هؤلاء، فلا يُعرف سبب احتجاجها في ذلك الزمن الجميل، خصوصا أن بطلتها ابنة لعائلة ثرية، وأنها انتسبت إلى كل ما يشكّل تميّز بيروت وتفوّقها: الجامعة الأمريكية، مطعم فيصل الذي أكثر الأدب من رثائه بعد نحو ثلاثين سنة من صدور كتاب بعلبكي، ثم مقهى الأنكل سامز الذي اتسعت شهرته عربيا لكونه واحدا من معالم بيروت الحديثة آنذاك، هذه هي الأمكنة التي تتنقّل بينها البطلة لينا، الأمكنة الأبرز حضورا في زمن بيروت الجميل. الأغلب أن ذاك الزمن هو زمن السخط الأدبي العام، وإن دون داع خاص يدفع إلى هجوه. ما يجري على لسان لينا يقول كلّه أن لا شيء يستحقّ البقاء في هذا البلد، ناهيك عن التعلّق به. بيروت سجن، وكل شيء فيها يضيّق على الأنفاس، وهذا ما أدّى بلينا، في آخر الرواية، إلى العودة لبيت الأهل، السجن الأول والأخير. كتّاب كثيرون عبّروا ساخطين عن عيشهم في المدينة. كان الأدب في معظمه يدور حول هذا السخط آنذاك، وإن بلا أسباب لذلك. يدّل إلى ذلك أن ليلى بعلبكي لم تأت على ذكر حادثة واحدة في كتابها الغاص بالرفض والشكوى. لا ذكر لشيء واحد حصل. كل شيء كان يجري في داخل شخصية البطلة، وهو يٌقرأ جاريا في رأسها وليس على لسانها.
الرواية جولة في تعداد القرف الذي لا تتوقف لينا عن الشعور بمرارته، الأرجح أن هذا القرف (نتذكّر هنا كتاب الراحل فؤاد كنعان الذي يحمل عنوانه هذه الكلمة ذاتها: «قرف») يرجع إلى موجة عالمية سبقت إذ في كل أدب من آداب العالم هناك رواية مماثلة لتلك التي صدرت لدايفيد سالنجر في 1951 بعنوان «الحارس في حقل الشوفان» وبيعت منها ملايين النسخ، بطل سالنجر رافض لكل ما في عالمه، على غرار لينا بطلة ليلى بعلبكي. علينا إذن أن نفكّر بأن السبب يرجع ربما إلى الخواء الذي أتى به سلام العالم في أعقاب الحرب الثانية. أما في لبنان فلم تفلح الشهرة التي تحقّقت لليلى بعلبكي في أن تبقي كتابها باقيا، كمثل بقاء كتاب سالنجر. كان خبر موتها قليلا ما يُتداول في معرض الكتاب في بيروت، كأن لم يسمع به إلا من تُعدّ أسماؤهم على أصابع اليد الواحدة، وكان قد قضى على وفاتها أربعة أيام كاملة. أما الصحف فاحتاج أغلبها إلى أسبوع آخر لذكر خبر الوفاة. أما من اهتمّوا له فكان عليهم، فيما هم يتكلمون عن رحيل ليلى بعلبكي، أن يعرّفوا سامعيهم بها.
هل يرجع ذلك إلى تكاثف الأزمنة وتزاحمها على بيروت التي تتقطّع حقبها فلا تكون للمابعد صلة بالذي كان من قبل.
www.deyaralnagab.com
|