يا محني ذيل العصفورة!!
بقلم : خالد الهواري ... 07.02.2023
اغلب الظن، وبعض الظن اثم كما كان يقول. الشيخ “صابر” للناس الذين تجمعوا امام باب المسجد بعد ان سمعوا انه يؤجر المسجد للمتشردين الليلة بجنية ونص، الشيخ “صابر” كان يؤكد يبكي ويقول . انه عمل انساني مجانا لوجه الله، و”ام فاطمة” بائعة الليمون تقول. شوفوا ابن النصابه، فاتح الجامع لوكاندة، ويعملها ويبكي، طالع مثل امه الله يرحمها قبل ما تموت بيومين استلفت مني الحلة النحاس وباعتها لبائع الروبابيكيا . هذا ما تذكرته بعد ان انتهيت من صحن الفول بالزيت الحار، والليمون والباذنجان الاسود المحشو بالفلفل الاحمر، وتناولت رشفات من كوب الشاي الاسود، وبوست ايدي “وش وظهر” وحمدت الله على النعمة، في يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر مارس قبل اسبوعين من وصول رسالة من عمي “صالح” يبشرنا بحصوله علي وظيفة كعامل علي ماكينة تقشير القصب في مصنع السكر بنجع حمادي، بعد سنوات من التسكع والبطالة، دفعته في يوم من الايام ان يسرق الحلة النحاس من علي السطوح ويبيعها للست ام عادل العجلاتي، وكانت الفرحة التي بشرتنا بها الرسالة تعم الجميع، وتملئ اركان البيت، وبعد ان دارت اكواب الشربات علي الحاضرين، وبنت عمي “المقروصه” كما يناديها الجميع بعد ان ذاعت قصتها مع الواد”عليوة” صبي المقهي الكبير في الميدان شافتهم جارتنا وهو يحضنها تحت بير السلم، قلعت الشبشب، ولفت الشال علي وسطها ورقصت، وزوجة عمي “سمسم” التي كانت اغلب الايام لاتخرج من غرفتها، وتندب حظها علي اليوم الاسود الذي جمعها بالزواج مع عمي الصايع، تجلس الان في وسط البيت تملئ الاطباق البلاستكية بالارز واللبن لتوزعها بهذه المناسبة التي طال انتظارها علي الجارات اللاتي توافدن علي البيت للمباركة وتقديم التهنئة مع الثناء والحمد وربنا رحمته واسعه ما بينساش حد، ووجه الصبي الصغير بائع الجرائد يبتسم من داخل الكشك الخشب المطلي بلون سماوي فاتح لابناء عمي الذين تدافعوا من فرحتهم لشراء البلالين الملونة، وارتفعت اصواتهم تنشد في فرح يامحني ديل العصفورة، سمسم دائما منصوره .
في صباح ذلك اليوم، وبعد ان اندفعت خارج المحطة بعد ان ظليت ساعتين احاول القط رزقي، يوم الثلاثاء بيكون رزقه واسع وقطار الصعيد فاتحة خير، ومحافظ النقود بتكون عمرانه، وعلي غير المتوقع ان يحدث هذا في وسط الزحام صادفتها وهي تشق طريقها في الاتجاه المعاكس من الطريق، لم استطيع ان امنع نفسي من الاعجاب بها، او بصراحة من القرط الذهبي الذي كان يتدلى من اذنيها، ومتابعة حركة مؤخرتها اللعوب، وهي تتقصع في مشيتها بحذاء كعب عال، ولم استطيع بعد ان زاغت مني في الزحام غير ان اضرب كفا بكف علي الحرمان الذي اعاني من قسوته، وانا اجلس فوق سطح البيت انظر من فتحة صغيرة صنعتها في الجدار، واتلصص علي النسوه النائمات في حر الصيف بملابس النوم القصيرة، قال لي الشيخ “ابراهيم” عندما علم بالصدفة انني ارسلت رسالة رسمت في داخلها قلب مرشوق بسهم لزوجته الحاجة كما وصفها، واشتريت لها بربع جنية حلاوة طحنية منك لله، الحلاوة زغللت عين الحاجة، اما امي رحمة الله عليها التي لا يعجبها الحال المايل، فبعد ان طرحتني ارضا، وانقضت علي بالشبشب، جمعت لي ملابسي القديمة في كيس من البلاستيك، وسحبتني من يدي الي خارج الباب وقالت.
فضحتنا غور في ستين داهية. كانت وحيده، شارده، هائمه علي وجهها في سوق القرنفل، او هكذا رسمت بهجة الالوان رؤيه وجهها البشوش وشفتيها المكتنزتين، وتتمدد مثل خيال الظل من خلف نافذة الروح المحلقه في زمن قديم اخر، كانت وهي دائما مات شعر بنفسها وحيده ومعزوله عندما يتحول الحديث عن الاهل والابناء، تتذكر زوجها الذي سافر الي العراق وعاد بعد سنوات في نعش استلمته بعد ان وقعت علي اوراق كثيرة في مخزن البضائع في المطار، وقال. لها امين الشرطة، بعد ان مال عليها . المرحوم مات بسرعه، في حد يموت ويسيب الحلاوة دي، وفتح فمه فظهرت اسنانه الصفراء وقال. احنا في الخدمة، والحي ابقي من الميت، شاهدتها بعد ذلك بسنوات في مكتب البريد، وهي تستلم معاش زوجها امين الشرطة، نحس اتخن راجل ما يعمرش معها سنتين، عندما ابتسمت لي اطلقت ساقاي للريح وانا من الهلع اردد استر ياستار .
كانت تشق طريقها الي مكان تتحرر فيه، وتغسل بذراعيها النحيلتين شعرها بماء المطر علي الرصيف بجوار باعة اوراق اليانصيب والسريحة، والاطفال الصغار خرجوا من تحت الكوبري ليطاردون المارين في الطريق، ويعرضون عليهم بضائعهم رخيصة الثمن، كانت وكأنها شخصية مجهوله الهوية في قصة خرافية هاربه في عمق البنفسج والياسمين والزعفران وتراب الحنة، ورائحة الكباب علي اطباق مفروشه بالجرجير الاخضر في ميدان العتبة عند “القصيري” صاحب محل الكباب الذي كنت اتردد عليه يوميا، وبعد ثلاثة سنوات اكتشفوا انه كان يبيع لحم الحمير، فظليت لمدة اسبوعا كاملا اقاوم رغبة ان انهق، واشعر برغبة شديدة في ان اعانق الحمار الذي كان يجر العربة الكارو، يقولون دائما الدم بيحن.
كانت تعرف بالخبرة التي اكتسبتها اني اتابعها منذ ان خرجت من الحارة، وشعرت بي وانا اتعثر اكثر من مرة، فكانت تتعمد ان تهتز الي الامام والي الخلف، وتتقصع وهي بالجلباب الاسود الطويل حتي الارض، وتلف على راسها طرحة سوداء تظهر خصلات من شعرها علي جبهتها مثل قبس من بقايا اسلافها السماويين المعقوده بالبهجة في سوق اعراس قصور الفرح الازلي عند مقام سيدنا الحسين، وصوت همهمات الدراويش، والقسيس “بطرس المصري” طويل القامه الذي اتضح بعد ذلك انه كان هربان من الجيش، والمخبر ضربه علي قفاه، كان يلملم اشلاء الضوء الشارد على برج كنيسة العذراء، وكأنه كان يطلق نشيجا مسرحيا غارقا في الحزن ليلفت نظر البنت “دميانة” بنت عم حمزة الجزمجي، “دميانة” اه من “دميانة” وانا في خمارة جورج، وبعد ان لعبت الخمرة “جناكليس” في راسي خطر علي بالي ان ادخل الدين المسيحي لا تزوجها، وبعد ذلك اسافر الى الحج واتوب، واعود مسلم، وربنا غفور رحيم. كانت وكانها سوسنة سقطت من علياءها بشهوة كسوف خسوف اشراقات العربة الزرقاء التي تطل من داخلها اوجه المخبرين، وهي تجوس علي وجوه العابرين بارواحهم على جرف نهر اعماق الدهشة في الازقة العامرة بالمعجزات خلف حراس الريح المرسله لعمائم حراس انبلاج الصبح حين يتنفس، مصادفة علمتني المرور كالضوء من ثقب الجدار في عمق القوارير في زنزانة في الدور الاول، كان رفيقي في السنوات الاولي من السجن يحكي لي دائما عن زوجته التي كانت تحتفظ في خزانتها ببدلة رقص شرقي، فكنت احلم بيها كل ليلة وهي ترقص لي، واشتري له كل يوم سيجارتين من كانتين السجن هم كل ما املك يوميا مقابل العمل في ورشة النجارة في السجن ليواصل الحكايات عن زوجته، التي عشقتها وتزوجتها في خيالي، واخلد للنوم مبكرا لاحلم حلم جديد. هذا هو بيتي الان في الطابق الاول داخل معطفي الشتوي الذي قايضت عليه بائع الروبابكيا بحنفية نحاس سرقتها من ميضة الجامع، كنت انظر اليها وهي تتحايل على النوم بقميص نوم يكشف عن فخديها السمراوان، كانت تعرف اني اتلصص عليها من الثقب في جدار السطح فتتحرك ذات اليمين تارة وذات الشمال تارة اخرى، وكانت نافذتها تستقبل هبوط اسراب البنفسج. ماتت امي رحمة الله عليها، فمات الطفل في صدري.
*عضو الاتحاد السويدي للامم المتحدة وعضو منظمة العفو الدولية ” الامنستي” وعضو نادي القلم السويدي
www.deyaralnagab.com
|