logo
السمّاعة في جيبي…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 22.09.2022

في الشبكة العنكبوتية توجد مئات آلاف المواد الثقافية، منها مثلاً تعليم لغات مجَّاناً، تبدأ من الصفر ثم تتقدم، أو أنّك تضيف إلى ما تعرفه وترسِّخُه، ومع التقدم في السّن، يفطن البعض لأهمية كل ساعة من أعمارهم المحدودة، لهذا صرت أستغل الوقت بأن أضع سماعة الهاتف في أذني، وأستمعُ إلى برامج معينة خلال القيام بأعمال أخرى لا تحتاج إلى تركيز كبير، مثل حالات الشُّعور بالملل خلال اجتماع فيه عدد من المتحدثين الذين يعيدون الكلام نفسه، أو في سهرة جماعية أكون جالساً فيها مجاملة لا أفعل سوى ردّ التّحية لهذا وذاك برفع اليد، حتى على شاطئ البحر صرت أستغل السَّماع أثناء استلقائي على الرمال أو خلال ممارسة المشي، ورغم حذري الشّديد فقد استجبت لإغراء استعمالها أثناء قيادة السيارة، رغم أنّها مخالفة مرورية، فإذا شعرتُ بسيارة شرطة قريبة مني أسقطتُ السّماعة عن أذني ريثما يمر الخطر، وحتى أثناء الهجوع إلى السرير للنوم، فهناك تسجيلات من بضع ساعات معدة لهذا، ألف عبارة في اللغة الإنكليزية أو الألمانية أو غيرها من لغات العالم، على خلفية موسيقى هادئة للنوم، لا أعرف مدى صحة الادعاء بأنّ السّماع أثناء النوم يرسِّخ في اللاوعي حفظ تعابير اللغة الأجنبية التي تتعلمها حتى تصبح جزءاً من تفكيرك. هكذا صرت أعيش السّاعة الواحدة ساعة ونصفاً، والعام الواحد عاماً ونصفاً.
يوم السبت الماضي كنت مدعواً إلى لقاء في الناصرة أقامه مجمع اللغة العربية-حيفا. يستغرق السَّفر من بلدتي إلى الناصرة حوالي خمسين دقيقة.
أعددت السَّماعة السّلكية بأن لففتها حتى صارت مثل كعكعة صغيرة وضعتها على طاولة مكتبي، ريثما أستحمُّ وأرتدي ثيابي.
ارتديت ملابسي وحملت الهاتف المشحون بيدي، وخرجت من البيت إلى السيارة، شغّلت المُحرك فعمل المذياع معه، كان هناك برنامج على القناة الثقافية في اللغة العبرية عن قناة السُّويس والأزمات التي مرّت بها منذ الخديوي إسماعيل، حتى إعادة افتتاحها عام 1975، بعدما كانت قد أغلقت بعد حرب 1967، مروراً بتأميمها، وذلك بمشاركة أساتذة مختصين. استمعت بحذر، فرائحة التحيّز للدول الاستعمارية واضحة، خصوصاً عند الحديث عن حقبة جمال عبد الناصر.
وصلتُ الناصرة دون استعمال السّماعة في الطريق.
هبطت من السِّيارة وبيدي الهاتف، وكنت مطمئناً إلى أن السّماعة في جيبي الجانبي، جاهزة إذا ما قرَّرت استعمالها، وصلت القاعة حيث توافد المشاركون وتبادلوا التحيات وأطراف الحديث حول مشروب خفيف، وما لبِثَتْ أن بدأتْ المحاضرات، والهاتف أمامي على الطاولة بينما السّماعة في جيبي جاهزة، لكن المحاضرات مهمة ومفيدة فلم أحتج السّماعة.
خلال هذا وصلتني رسالة صوتية، وفكّرت في إخراج السّماعة من جيبي لأسمعها، ولكنني عدلت عن ذلك، وخفَّضتُ صوت الهاتف إلى أقصى درجة ممكنة، ثم قرَّبته من أذني وسمعت الرسالة.
في الاستراحة اقتنيت بعض الكتب المعروضة، كالعادة يَدفع الجميع بأوراق نقدية من فئة مئة أو مئتين شيكل، والبائع لا يملك وحدات نقدية صغيرة لإعادة الباقي، فيبحث عن حلول إبداعية، مثلاً خذ كتابين بخمسين بدلاً من سبعين.
لا وقت لسماع شيء، انتهت الاستراحة، ومرة أخرى سمعنا محاضرات قيّمة، وفي النهاية دُعي الجميع إلى وجبة الغداء.
وقفت في الدور وفكّرت بوضع السماعة في أذني لأستغل وقت الغداء، لكن من الأفضل أن آخذ وجبتي أوَّلاً، خلال هذا مرّ إلى جانبي أستاذ في النقد الأدبي وبيده طبقه، التفت إليّ وقال: سأحجزُ لك مكاناً على طاولتي، فسررتُ جداً.
أخذتُ طعامي وجلست إلى جانبه، كان حول الطاولة ناقدان آخران وشاعر، تبادل الجميع أطراف الحديث عن الطعام الصِّحي وغير الصّحي وخصوصاً لمن تجاوزوا السّتين من العمر، الجميع ينصحون بالمشي ولو لنصف ساعة يومياً، لا أعرف من يطبّق هذه النصائح على نفسه، فما أراه هو كروش وأجساد مترهلة، أما من يبدون نحيلين، فهم غالباً يعانون من السُّكّري أو أمراض أخرى، ومن بين كل عشرين تجد واحداً فقط محافظاً على لياقته البدنية.
فرغنا من الطعام، وخرجنا من الفندق في اتجاه موقف السيارات، مشيت إلى جانب الناقد الأدبي، سألني هل من جديد؟ نعم على الطريق!
ثم حدّثني عن آخر جولاته الدراسية في ألمانيا، ودقة الألمان في ترجماتهم وطرقهم في البحث والنقد والاستقصاء، حتى زيارة الأمكنة التي كُتب عنها أو فيها رواية ما.
حدّثني أن صادف حيرة عدد منهم في كلمة «جنين» لأن معناها لم يكن واضحاً في سياق الجملة، وذلك أنهم ترجموها إلى الجَنين الذي تحمل به الأنثى، فأخبرهم أن المقصود هو اسم علم لمدينة فلسطينية في شمال الضفة الغربية، فضحكوا، كيف غاب هذا عن بالهم.
ذهب كلٌ منا إلى سيارته وانطلقت.
بعد خروجي من الناصرة بحوالي خمسة كيلومترات، فكّرت في أن أستغل الوقت وأستعمل السماعة لأن صوت الهاتف بدونها لا يصلني واضحاً، مددت يدي إلى جيبي الجانبي فلم أجدها، بحثت في بقية الجيوب، وبحثت تحت كرسي القيادة، مددت يدي إلى الكيس وقلبت محتواه من الكتب على الكرسي، فلم تكن هناك سمّاعة، الأرجح أنني نسيتها على الطاولة في قاعة المحاضرات، أذكر شكلها وهي ملفوفة كالكعكة أمامي، ولا أستبعد أن أكون قد وضعتها على طاولة الطعام لا شعورياً، ولا بد أن العاملين في الفندق سيعثرون عليها، ويسلمونها إلى مسؤول، عسى أن يسأل عنها أحد الزبائن.
صرت بعيداً، ولا ضرورة للعودة للبحث عنها، فللوقت ثمن، وهي ليست خاتماً من ماسٍ، سأشتري واحدة مثلها من الصنف نفسه عندما أصل البلدة.
وصلت، ووقفت أمام متجر لبيع مثل هذه الأغراض، فتّشت جيوبي مرة أخرى، ربّما للمرة العاشرة، ثم تحت كراسي السَّيارة وبين الكتب التي اقتنيتها، نرفض التصديق بأننا فقدنا شيئاً تافهاً كهذا، دائماً يظل لدينا أمل في العثور عليه، قُضي الأمر؛ إما نسيتها هناك، أو أنها سقطت في طريقي من القاعة إلى السيارة، لا أستطيع الاستغناء عنها، خصوصاً في الليل، عندما لا أريد إزعاج أحد من حولي، دخلتُ المتجر واقتنيت واحدة بسعر مُخفّض، لأن البائع ابن شقيقتي.
عدت مرتاحاً ولكن مع شعور بأنني مهملٌ ومشتّتٌ.
دخلتُ غرفتي، وحينئذ توقفت غير مصدّق، فوجئت بالسّماعة على مكتبي كما لففتها مثل كعكة في الصباح!
هل هي نفسها أم أخرى لجهاز آخر؟ هذا مستحيلٌ، لقد أحسستُ طيلة الوقت أنها في جيبي، ولامستها بأصابعي، ولو سُئِلت، لأقسمت أنني رأيتها على الطاولة أمامي في قاعة المحاضرات، بالضبط في الشكل المستدير الذي أراه الآن أمامي، إنها هي بذاتها…


www.deyaralnagab.com