logo
لو أن معزوزة لم تمت!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 10.06.2022

شدّني أبي من يدي:
تعال نقعد في المقهى.
أبي يجذب يدي، وأنا أمضي معه.
قال وهو يبتسم:
-سنجلس على كرسيين، وكأنك زلمة كبير، وسنطلب كاسة شاي، أشرب أنا نصفها الساخن جداً، وتشرب أنت نصفها، وسأدفع قرشاً ثمناً لكاسة الشاي..كويّس؟
هززت رأسي موافقاً، وابتسمت، فهذه أوّل مرة أقعد فيها على كرسي في المقهى الذي افتتح قبل فترة قبالة مخيم الدهيشة.
جلسنا، فجاء واحد من الشقيقين صاحبي المقهى، ومال وهو يرحّب:
-أهلا بالعم أبورشاد...
-بدّي أشرب كاسة شاي أنا ورشاد...
-حاضر.
قال واستدار وراح.
بعد قليل عاد حاملاً صينية عليها كاستا شاي:
-أنا طلبت كاسة واحدة ...
-أعرف...
قال وهو ينحني ويضع الكاستين أمامنا:
-واحدة لك..والثانية على حساب المقهى ليشربها رشاد براحته..وأهلاً وسهلاً...
دسّ أبي يده في جيبه وأخرج قطعة نقدية، ومدها ليوسف الذي تناولها وهو يبتسم.
ارتشفت بسرعة فلسعت السخونة شفتي:
-على مهلك..اشربها شوية شوية، فهي ساخنة جدا.
أخرج سيكارة من جيب جاكتته وأشعلها وطيّر دخانا من بين شفتيه.
-كان جدّك سلمان يدخن سكائر يلفها بأصابعه، ودائما يجعلها رفيعة، ويخرج من فمه دخانا مثل الخيط. أنا لم أدخن أمامه أبدا. دخنت بعد ما مات. كان نحيلاً واسمرا، وعاش كثيرا.
شفط من الكاسة، ودس السيكارة في فمه وأخرج خيطا رفيعا من الدخان وصوتا كأنه يتنهد.
-لا أعرف كم سنة عاش، ولكنه عاش كثيرا. حارب أيام تركيا، وعلموه أن ينفخ بالبوق..وبعدئذ..هرب أيّام السفر برلك وعاش في النقب عند اصحابه البدو حتى انتهت الحرب. يعني حارب قبل السفر برلك..ومات قبل اشتعال الثورة الفلسطينية.
سمعنا ضجة موتور سيكل يركبها شخص يندفع فوقها على الطريق إلى بيت لحم.
صمت أبي، ولاحق بنظره راكب الموتور سيكل وهو يصل إلى منعطف مدخل بيت لحم.
سألني:
-من الذي يميل: راكب الدراجة..أم المنعطف؟
كان راكب الدراجة قد اختفى في مدخل بيت لحم وراء المنعطف.
-المنعطف يختفي في آخر الطريق..وراكب الدراجة يميل مع المنعطف و..يختفي مع المنعطف.
مسّد أبي على شعري القصير:
-أنت شاطر...
شفطت آخر قطرة في كاستي متلذذا بمذاقها الحلو.
-من أحب استاذ لك في المدرسة؟
-أنا أحبهم جميعا..و..أحب الأستاذ أحمد العجوري لأنه يشبهك يابا...
تأملني وأمسك بيدي على الطاولة الخشبية الصغيرة:
-وأنا احبك كثيرا يا بُني. عندما تكبر ستعرف كم أحببتك...
ارتفع صوت بنات المدرسة وهن يخرجن متزاحمات وأصواتهن تلعلع:
سافر يا باص الخليل أي والله
سافر جيب الست لور دخيل الله
توقف باص الخليل وصعدت الست لور معلمة البنات اللواتي يغنين، وهدر الباص مبتعدا، ومن نافذته لوحت يد الست لور ..وارتفع غناء البنات:
سا فر يا باص الخليل إي والله
سافر جيب الست لور دخيل الله
ضحك أبي:
-البنات شاطرات ..ويغنين لمعلماتهن. أنتم الأولاد لا تغنون.
تراكضت البنات وهن يصفقن ويغنين ودخلن من الشارع الذي يشق المخيم ويصعد حتى الصخور العالية التي تُطل على أرطاس.
-هل تحب أن نسافر إلى الخليل؟ عرفت عنوان جدتك سارة هناك..جدتك أم أمك تسأل عنك وتريد أن تراك.
-متى يابا؟
-غدا..الجمعة.
تبدلت ملامح وجه أبي. صار حزينا وانحنى رأسه:
-لو أننا لم نُطرد من ذكرين! لو أن أمك لم تمت..لو أن أختك معزوزة لم تمت لدخلت المدرسة مع البنات وغنت معهن..لو! آآآآآآآخ يا رشاااااد يا حبيبي.
نهض أبي فنهضت، وتمشينا على الإسفلت.أبي صامت. سألني:
-أنت لا تتذكر أمك؟
-لا...
-ليست لها صورة. لو لها صورة لتذكرت ملامح وجهها.
صمت وضرب بحذائه حصاة فطارت وتدحرجت، وراقبها حتى استقرت بعيدا.
-ألوم نفسي لأنني لم أصورها في يافا عندما أخذناك للعلاج من حبوب ظهرت على جلدك عند الطبيب. لم أتوقع أن تسقط من بين أخشاب بابور الطحين.راحت أمك..وراحت قريتنا ذكرين..راح كل شئ. وبصوت حزين جدا:
-رااااآح كل شئ..ولحقت أختك معزوزة بأمك بعد شهر ونصف.
توقف أبي عن المشي ونظر إلي بعينين باكيتين:
-هذا ليس عدلاً. عندما تكبر ستعرف أن ما جرى لنا ليس عدلاً يا رشاد.
استدار وجذبني من يدي.
-عندما تكبر..ولا أعرف أين ستكبر.. وكيف ستكون حياتك، ولكنك ستكبر رغم الجوع والبرد و..كل ما يحدث لنا.
غربت الشمس، فعدنا، ودخلنا المخيم، وقال أبي:
-سنرتاح و..غدا صباحا نركب في الباص إلى الخليل..وهناك ستفرح بك جدتك سارة، وستحدثك عن المرحومة أمك. نحن لا نستطيع زيارة قبر أمك وقبر أختك معزوزة في ذكرين لأن اليهود يحتلون قريتنا ومن يحاول الرجوع يطلقون عليه الرصاص و..يقتلونه.
اندسست في الفراش.
أستيقظ ثم أعود للنوم، وهكذا حتى ..همس أبي في أُذني.
-صاحي..يا رشاد.
وقفنا على حافة الإسفلت وأبي يمسك بيدي، ويهزها..لأستيقظ، وأنا أُركّز نظري على طريق بيت لحم..و..جاء باص الخليل، فدفعني أبي أمامه..واندفع الباص بعد ما جلسنا..فأخذت أتمتم:
سافر يا باص الخليل أي والله
*مخيم الدهيشةيقع على طريق الخليل، وهو قريب جدا من مدينة بيت لحم، وقريب من بلدة الخضر، وهو أوّل مخيم عشت تحت خيامه...


www.deyaralnagab.com