أحزان الغياب!!
بقلم : فاطمة عطفة ... 16.05.2022
في لحظات الشوق والحزن والفراق نلجأ للشعر، وكأن العربي لا عزاء له إلا بترديد قصائد الأسى والحنين التي يحفل بها ديوان العرب من أيام أمير كندة وشاعرها القائل: “وليل كموج البحر أرخى سدوله … عليّ بأنواع الهموم ليبتلي”. وامرؤ القيس هذا أنهى حياته لاجئا في بلاط الروم طمعا في أن يساعدوه على أبناء قومه، لكن البكاء كان بداية تلك الرحلة: “بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه … وأيقن أنا لاحقان بقيصرا” لكن الفراق الأبدي كان خاتمة تلك الرحلة”. وهو لم يكن النادب الأول ولن يكون الأخير في ميادين الذكريات والأحزان. وربما كان الشعر المهجري، ومن قبله الأندلسي، أكثر وجعا وحسرة من غيره عند فراق الأحباب، سواء كان سفر هجرة أو رحلة أبدية في حضن التراب. ويخطر على بالي أبو البقاء الرُّندي، وهو يعزي نفسه وأبناء قومه قائلا: ” لكل شيء إذا ما تم نقصانُ … فلا يُسر بطيب العيش إنسانُ. ثم أتذكر الشاعر حسني غراب وهو في البرازيل يناجي قلبه الطافح بالحنين إلى حمص مرتع صباه وأحبابه:
لم يبقَ فيك لغير الشوق متّسعُ
يا خافقا يسعُ الدنيا وما تسعُ
لكن الحاضر المؤلم يشدني إليه، وتعتصر الحسرة قلبي حزنا وتفجعا على سلسلة المآسي التي ما زالت سوريا وفلسطين تعاني منها يوميا، وقوافل الشهداء تغطي نشرات الأخبار، حتى صار الدم السوري والفلسطيني خبرا يوميا ولن يكون مقتل شيرين أبو عاقلة آخر الشهداء ما دام الاحتلال قائما. ومن هذه الأحداث المؤلمة أعود إلى حكايتي، فأرى أن الأمهات من أكثر ضحايا الأحزان ومعاناة فراق الأحباب وبعادهم. لكن شهر رمضان المبارك أسعدني بزيارة ابنتي ندى، حشاشة الروح، وقد جاءت لزيارتي من بلاد هجرتها في أقصى جنوب كوكبنا الأرضي. وقبل سنوات، توزع أبنائي في شتى بقاع الأرض من كندا حتى أستراليا، مرورا بإنكلترا وألمانيا، وأحمد الله أن واحدا منهم بقي مع أسرته الغالية قريبا مني، في دبي. وفي غياب الآخرين، لم أجد إلا الشعر مسعفا للتخفيف من وحشة البعد وأحزان الفراق. وفي 19-3-2001 كتبت:
انقطع خيطُ الحرير
تناثرت حبّاتُ اللؤلؤ
دخلت العاصفة
وتصدّع مركز الدائرة.
ورغم وحشة الغياب وآلام الفراق، تشعر الأم السورية بشيء من العزاء والسلوان، إذا كان أولادها وفلذات كبدها يقيمون في بلاد آمنة مستقرة، بعيدا عما حدث في مهد الأبجدية من كوارث وأوجاع. كانت سوريا جنة الدنيا وأم الفقير وحاضنة كل عربي يتوجه لزيارتها أو الإقامة في ربوعها، ولم يكن مطلوبا من أي عربي أن يراجع السفارة السورية في بلده ليضع في جواز سفره تأشيرة دخول، كان قلب بلادي مثل قلب الأم مفتوحا لكافة أخوتنا العرب، مرحبا بقدومهم بكل حب وترحاب…
لكن ذلك صار من الماضي، بعد كل ما لا قته سوريا من عدوان وخراب. مدينة الرقة التي كان يصطاف بها هارون الرشيد احتلتها ودمرتها عصابات داعش، وتدمر عاصمة الملكة زنوبيا، غزتها قطعان داعش وقتلوا، على طريقتهم الهمجية، عالم الآثار ومدير كنوزها الأثرية خالد الأسعد، وقد تجاوز الثمانين من عمره. وإلى جانب الرقة وتدمر وحلب وغوطة دمشق ومخيم اليرموك وحمص والقصير وغيرها، وخاصة أن قوات الاحتلال الأميركي ما تزال تحتل أغنى سهول القمح والبترول في الجزيرة السورية.
لم أكن أفكر أبدا أن يجرفني تيار الذكريات الحزينة والمؤلمة إلى كارثة بلادي، وأنا لا أحب البكاء على الأطلال، لكن كارثة سوريا أفظع وأقسى بكثير مما يتصور الخيال. لكني حين أتعب من قراءة الرواية، ألجأ إلى الموسوعة الشعرية. وفي سهرة أمس وأنا أتنقل عبر صفحات الموسوعة ألح علي الشاعر متمم بن نويرة بزيارته، فتوقفت طويلا عند تلك الأبيات الطافحة بمرارة الأسى، وهو يرى في كل تربة قبر أخيه:
لقد لامني عند القبور على البكى
رفيقي لتذراف الدموع السوافكِ
فقلت له إن الشجا يبعث الشجا
فدعني فهذا كله قبر مالكِ
www.deyaralnagab.com
|