الباحثة اللبنانية باسكال لحود: لا يضير الفلسفة أن تقيم في الهامش !!
بقلم : كه يلان محمد ... 08.10.2021
تهيمنُ الأفكار الخرافية على العقول، وتسودُ ظاهرة التبعية وهشاشة الإرادة نتيجةً لغياب الفلسفة في الأوساط الثقافية، إذ يرى البعض في هذا النشاط العقلاني ترفاً نخبوياً وقد يتم الإعلان عن الكراهية الموروثة لمفاهيم فلسفية، لأنَّ النقد ليس جزءاً من منظومتنا المعرفية، القائمة على مسلمات محددة لمدار التفكير، والتطلعات المستقبلية، غير أنَّ الأزمات الخانقة قد تكونُ فرصة لانطلاقة فكرية، ودافعاً لإعمال العقل، من أجل تشخيص مكامن الخلل، حول دور الفلسفة في العالم اليوم، وعلاقتها بشكل الأنظمة السياسية، وما أضافته مشاركة المرأة من الكشوفات إلى الحقل الفلسفي، كان لنا حوارُ مع باسكال لحود الباحثة اللبنانية المتخصصة في فلسفة العلوم، حيثُ أنجزتْ بحوثاً ومؤلفات باللغتين العربية والفرنسية منها «فلسفة العلوم بتوقيت بيروت» و«على الشفير».
.□ تفاجئ الأزمات المتعددة على المستويات البيئية والصحية والاقتصادية الإنسان المُعاصر. برأيك ماذا يمكنُ للفلسفة أن تقدمهُ في الأزمنة المتأزمة؟
■ لم تعد الأزمة مفهوماً قطاعياً في عصرنا، بل إننا نعيش زماناً الأزمة سمته الأساسية. في القطاعات المختلفة، يُنظر إلى الأزمات على أنها مراحل استثنائية في مسار التطور، «مختبرات» داخل التاريخ تُعالَج فيها احتمالات قصوى، وتنتج عنها خيارات حاسمة تجعل ما بعدها غير ما قبلها. في عالم اليوم، التطور عبارة عن أزمة مستمرة، لشدة تسارعه وكمية اللايقين واللاانتظام التي يفرزها، لذا لا مفر للفلسفة المعاصرة من أن تكون «كريزولوجيا» وفق تعبير إدغار موران.
□ يرى كثير من الباحثين أن الفلسفة هي عبارة عن مزاج وفي ذلك لا تختلفُ عن الرياضة والأدب، هل يكونُ لهذا النشاط العقلي مزيدُ من الفعالية إذا تم تحريره من حقل الاختصاص الضيق؟
■ يتجاذب الفلسفة منذ الحقبة اليونانية مفهومان: مفهوم «عالِم»، نخبوي معرفيًّا وفي بعض الأحيان اجتماعيّا، وآخر شعبي. المفهوم النخبوي يفترض تأهلا تدريجيا للدخول إلى الجماعة، وحقوقًا في القول والتلقي الفلسفيين، مختلفة لمن هم داخلها وخارجها. يأخذ التوتر بين الرؤيتين أشكالا متنوعة في الحقبة الحديثة مع نزوع إلى مساءلة مفهوم الفيلسوف «المحترف»، الجامعي، الاختصاصي. فهو في رأي كثيرين، منهم نيتشه ودولوز، أسير تاريخ الفلسفة وسلطة المؤسسة الجامعية، خاضع مسبقا لهيبة كبار الفلاسفة الذين لم يمارس التفكير سوى تعقيب عليهم أو تحليل لنصوصهم.. ونجد هذا التوتر حاضراً بكثافة أيضاً في الأدب والفكر اللبناني المعاصر: شخصية موسى العسكري عند ميخائيل نعيمه، الفلاسفة الذين يبيعون رؤوسهم ليطعموا قلوبهم عند جبران، أساتذة تاريخ الفلسفة أصحاب السلوك التبعي إزاء الغرب والتراث عند ناصيف نصار، دكتور الفلسفة ذو القباقب الثقيلة عند رينيه حبشي…
شهد تاريخ الأفكار حدوسًا فلسفية عظيمة أتى بها أفراد من خارج «الجماعة» الفلسفية، وفي بعض الأحيان خارج المفهوم السائد يومها للفلسفة. إن ثقافة تتيح التفكير المستقل ستلتقي بالأسئلة الفلسفية لا محالة، في كل المجالات الثقافية: في الدين، والعلم، والفن، والسياسة إلخ. مع ذلك، صحيح أنّ حضور الفلسفة الاجتماعي دليل على حيوية ثقافية، ولا مفر من النظر إليه في إطار تقييم شروط إنتاج القول الفلسفي في مجتمع معين، لكنه لا يستنفد الفلسفة. يمكن لعصر أن يتسم بـ«عودة الفلسفة» فتزداد المبيعات وتنتشر المقاهي الفلسفية والعيادات الفلسفية والسينما الفلسفية، كما حصل في تسعينيات القرن الماضي في فرنسا، من دون أن يعني ذلك حكماً تطورا فلسفيا عظيما.
□ بعد انهيار الأيدولوجيات الخلاصية والخيبات الناجمة عن الصراعات الدينية هناك من يعقدُ الرهان على الفلسفة، هل يمكن للفلسفة أن تحل مكان الدين في تلبية الاحتياجات الروحية؟
■ التدين المعاصر هو تدين علماني إن جاز التعبير. شئنا الاعتراف بذلك أم أبينا، نحن ننظر الآن إلى الإيمان بوصفه قناعة تنتمي أكثر إلى مجال الميل الذاتي منها إلى مجال المعرفة. المؤمنون منا يطالبون باحترام مشاعرهم الدينية وليس باحترام «الحقائق» الدينية التي بها يعتقدون. لذا لا مفر للإنسان المعاصر المؤمن من «تفلسف»، يحاول به بناء توليفة تتسع في الوقت عينه لإيمانه، ولركونه المتزايد يوما بعد يوم إلى العلوم والتكنولوجيا في تدبير معظم ما كان المؤمن في القرون الوسطى يعهد به إلى العناية الإلهية. لأن الإيمان لا يأتيه كتلة متراصّة تعفيه من التفكير، ولا يسعه أن يتغاضى عن واقع أنَّ أجزاء كبيرة من حياته قادرة على الاستمرار بكفاءة، دون الحاجة إلى تفسير ديني. هذا لا يعني أن الملحدين أو اللاأدريين لا يواجهون بدورهم تحدّياً فكرياً، أو أن بإمكانهم الاكتفاء بالسردية العلمية، فهذه الأخيرة لا تجيب على أسئلة المعنى. الدافع إلى التفلسف عندهم هو تحدي بناء روحانية «من دون إله» أي صوغ معنى للوجود الإنساني وللقيم الإخلاقيَّة من دون ضمانة إلهية ومن دون فكرة يوم أخير، تصحح فيه العدالة الإلهية نقص العدالة الدنيوية. باختصار، المؤمنون منا وغير المؤمنين متروكون أمام فراغات في تصورهم للوجود، هي دافعهم للتفكير. ولعل الشكل الملتهب الذي تأخذه التساؤلات الحالية في مجال مستقبل البشرية والكوكب، يضعنا وجها لوجه أمام تعاظم قدراتنا التقنية وهشاشة إنسانيتنا. من هنا، الحاجة الماسة إلى «حكمة» تؤطر إجاباتنا على سؤال: ماذا يجوز لنا أن نرجو من هذا العالم؟ وتتقصى أثر الفعل الإنساني في ما يجوز بعد أن نرجوه وفي كيفية بلوغه.
□ لم تنشأ المشاريع الفلسفية بمعزلِ عن تجارب شخصية لأصحابها، وما يقدمهُ الفيلسوف هو حصيلة معايناته وتأملاته في الظواهر الوجودية، هل تنطبقُ هذه المعادلة الجدلية على ما أنجز في سياق الفكر العربي؟
■ «المعاناة» المؤسسة في الفكر العربي المعاصر هي المسألة الحضارية: مسألة التخلف، والتمزق بين التراث والمعاصرة، إلخ. من هنا الاهتمام القليل نسبياً ـ في نتاجنا الموسوم فلسفياً – بالأخلاقيات والجماليات وفلسفة المعرفة. المسألة الاجتماعية السياسية هي الطاغية. الفيلسوف العربي يكابد الوجود من خلال المأزق التاريخي لمجتمعه بشكل أساسي، أما الإشكاليات الوجودية والميتافيزيقية من نوع الموت، والزمن، والذات والآخر، والمعنى والمصير والله فأظن أن الأدب كان أكثر تعبيراً عنها.
□ هل تعتقدين بأنَّ تهميش الفلسفة في البيئة الثقافية العربية مرده غياب الاتجاه العقلاني وهمينة الرؤية التقليدية على آليات التفكير؟
■ تمسك الصفحات بهوامشها، يقول غودارد. لا يضير الفلسفة أن تقيم في الهامش، وليس تبوؤها صدارة الجامعة، أو كثرة التداول الاجتماعي بأسماء أعلامها في ذاتهما ضمانة لأدائها الفلسفة دوراً فاعلاً في المجتمع. لا تحصل الفلسفة على رضى السلطة وامتيازاتها ما لم تقلّم راديكاليتها وتستدخل تابوهات السلطة بوصفها تابوهاتها النظرية الخاصة، لذلك، قد يكون الهامش، أو العراء، القفر، مكانها الأنسب. مع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن ضمور حضور الفلسفة في الثقافة عندنا هو جزء من أزمتنا الثقافية العامة. فعلى الرغم من غزارة الإنتاج الفني، أو الموسوم كذلك، وتكاثر الحديث عن الابتكار والإبداع في شتى الميادين، وتكرار الشعارات حول التعليم والثقافة، نحن في أزمة ثقافية عميقة وشاملة: إن كنت تعتقد أن الأخلاق مسألة دينية حصراً، أو مجموعة يقينيات لا قلقاً ومكابدة، وأنَّ المعرفة تقتصر على استيراد النماذج والتطبيقات من دون مساءلتها، وأن الفن هو اكثار نسخ الموضة الرائجة لا التجريب خارج الرائج وضده، فلا مكان للسؤال الفلسفي في عالمك! ولا ننسى أن ما سميته «هيمنة الرؤية التقليدية على آليات التفكير» ليس مشكلتنا الوحيدة، فنحن ضحايا حداثة استهلاكية سطحية، ما فتئنا نلهث وراء شكلياتها، دون تكبد مشقة مساءلتها والتفاعل الخلاق معها.
□ ما دور الفلسفة في التأسيس لعقليات ديمقراطية؟ هل الخروج من القصورالعقلي لدى الشعوب سيكونُ عاملاُ حاسماً في تحول شكل الأنظمة الحاكمة؟
■ أوافق كاستورياديس في اعتبار الفلسفة والديمقراطية وجهين لفكرة واحدة، محورها الاستقلال. خلافا للمجتمعات الأخرى التي تبحث في أفضل السبل لتطبيق القوانين، تتيح الديمقراطية مساءلة القوانين نفسها، لأنها مجتمعات تعترف بأنها هي من خلقت قوانينها ومؤسساتها، ولا تختبئ من هذه المسؤولية خلف أي سلطة غيبية أو تاريخية أو سوى ذلك. هناك صلة رحمية بين الفلسفة بوصفها تساؤلاً لا يقبل حدوداً مسبقة، وهذه الجرأة التراجية لدى الجماعة الديمقراطية في تحمل أعباء يتمها الميتافيزيقي. لقد كانت المحاججة الديمقراطية أول تمرين فلسفي: نقاش في عدالة القوانين استدعى نقاش ماهية العدالة نفسها، الفكر. هذا على الصعيد المفهومي، أما التغيير الاجتماعي والانتقال إلى الديمقراطية الفعلية فيحتاج وجود كتلة اجتماعية تحمل هذا المشروع، وهذه الكتلة لم تتبلور بما يكفي. الرغبة التغييرية عندنا تحتاج مشروعا مفكّراً فيه، مشروعا تتبنى كتلة مجتمعية وازنة مفاعيله على مستوى الأنثروبولوجيا والاقتصاد والاجتماع والثقافة، وليس على مستوى شكل النظام وحده.
□ طغى حضور الذكور في تاريخ الفلسفة، ولكن المرحلة المعاصرة شهدت صعود فيلسوفات مجلِّيات استكشفن مناطق جديدة من البحث الفلسفي. أي إضافات جئن بها، ويمكن أن تسهم في تعميق مسار تاريخ الفلسفة؟
■ لا أحبذ أخذ الفيلسوفات على أنهنَّ «نوع» قائم بذاته له إضافاته الخاصَّة المرتبطة بسمات «نسائيًّة» ما. لا شك في أنَّ بعض الفيلسوفات انكببن على مناطق جديدة من التجربة الإنسانية، مسائل كانت على هامش التفكير الفلسفي أو في نقاطه العمياء، ولكن ذلك دأب الفلسفة. عندما يفعل فيلسوف ذلك، يكون فيلسوفا، وعندما تقوم فيلسوفة بذاك نراه تعبيرا عن أنوثتها. في هذه الطريقة في النظر إلى الأمور استمرار للّاتناظر المؤسس للقضية النسوية: الأنوثة هي الجنس «الموسوم»، أما الذكورة فليست جنسا، بل هي المقياس. هذا لا يمنع أن التأريخ هو رواية (mise en intrigue)، والخيط التأويلي/ الدرامي الذي نختاره في تأريخ الأفكار يتيح إضاءات معينة. فهل إن نحن استنطقنا ما أتت به النساء في قراءة التراث الفلسفي مثلاً، نجد أسلوبا خاصا، ونتائج معينة، لا نجدها عند نظرائهن من الرجال؟ هل في قراءة ملابو لهيغل، أو قراءة إيميليين نايرت لليبنتز، أو بربارا كاسين للسفسطائيين فرق يميزهن عن الذكور الذين قرأوا النصوص نفسها، ولا يميز هؤلاء بعضهم عن بعض؟ لا أجزم بأن لا. أكتفي بالقول إن قيمة مفاتيح تأويليَّة كهذه تكمن في ما تتيحه من إضاءات، وخطرها يكمن في اعتمادها بشكل دوغمائي، غير نقدي، ما يفضي إلى إعادة إنتاج الأفكار الجوهرانية التي نريد تفكيكها، كالقول إن هناك عقلا أنثويا له سمات جوهرية خاصة. وبالتالي يكون المشروع التحرري قد نقل النساء من منفاهن خارج «اليونيفرسال» إلى محميَّة خاصة بهن داخله (أي خارجه أيضًا).
□ هل أسهمت أعمالهن بتصويب نظرة الفلسفة إلى المرأة؟
■ أفضل القول إنَّها أغنت مفهومها للإنسان، والعقل ولنفسها. ما كان مرميًّا خارج إطار التفلسف لم يكن المرأة، ولو وُضع تحت هذا المسمّى، بل جزء من إنسانيَّة الإنسان: العاطفة، الحدس، الباثوس، الجسدانية… في محاورة الفيدون، التي تروي لحظات سقراط الأخيرة، يطلب سقراط اصطحاب زوجته إلى المنزل ما أن تبدأ بالنواح. في إشارة إلى أن لا مكان لمبالغات النساء في محاورة فلسفيَّة تجابه الموت بتجرد من يحل مسألة رياضية، لأنَّ الفلسفة هي ميدان العقل والاتزان. هذا الإقصاء نفسه يمارَس في المحاورة نفسها ضد أبولودور، الرجل الذي لا يستطيع ضبط انفعالاته وحزنه، فيبكي «كالنساء». أبولودور هذا يرمز إلى استحالة اجتثاث «الأنثوي»، وإلى أنَّ المعضلات الفلسفية الكبرى لا يستنفدها العقل البرهاني.
□ هل خدمت التيارات النسوية هذا التوجه؟
■ لا متَّسع هنا لعرض أهمية تجربة النسوية، بتياراتها وتلاوينها ونسخها (الفرنسية والأمريكية…)، ولو باختصار. أكتفي بالتساؤل (أسوة بدو لا كازا وأخريات) لماذا تفضِّل نساء كثيرات اليوم عدم الإحالة إلى النسوية؟ لماذا لا تشعر الكثيرات من جيلي، ولاسيما في الغرب، ببنوة ما إزاء ممثلات النسوية؟
هذا «النسيان الجزئي» للمسألة النسوية دليل نجاح المشروع التحرري. عندي، إنه تعبير عن حقنا بأن نفكر بشيء آخر، حقنا بألا يصبح موضوع التحرر قدرا نظريّا، حقنا بأن نسكن أصقاع الفلسفة جميعها لا أن نبقى في محمية قضايا المرأة. وهذا التماسف يسمح بتطوير المشروع النسوي نفسه، ولاسيما من خلال التفكير بمصير مفهوم الجندر، أو في ضرورة أن نركز على الإبداع بعدما استنفد تحليل ميكانيزمات السيطرة والإخضاع الجزء الأكبر من مجهود مفكري النسوية، وهذا ما تقوم به جنفييف فريس مثلا، أو التجرؤ على تناول الأمومة تناول إيجابيّا، وهنا أفكر في جوليا كريستيفا. إذا كان رهان النسوية ذاتها هو التنوع ولا قابلية الاختزال، فدور اللواتي من بيننا ما عدن يجدن أنفسهن في موقع الضحايا، أن يفكرن بمن ما زالوا فيه. نحن الوافدات حديثا إلى موقع الذات، المعترف حديثا بإنسانيتنا كاملة، واجبنا أن نبقي الباب مفتوحا أمام من هم في الخارج بسبب أعراقهم، أو خياراتهم الجنسية، أو خصوصياتهم من أي نوع كانت. *المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|