"حقل البرتقال" رواية الإقامة في الجحيم !!
بقلم : نجاة الذهبي* ... 02.02.2020
**رواية للكاتب الكندي لاري ترمبلاي تبين كيف يمكن للحرب والكراهية اقتلاع الناس من الجنة ومن أحلام الطفولة ورميهم داخل الكوابيس.
الحروب الكونية التي شهدها القرن الـ20 والثورات والحروب الأهلية التي انتشرت في مختلف أجزاء العالم، جعلت الكثير من الكتّاب يقاربون حكايات الحرب من نواح عديدة، وكأنهم في رحلة لفهم الإنسان من جديد في أشد لحظاته رعبا وألما وهشاشة.
“حقل البرتقال” للكاتب الكندي لاري ترمبلاي رواية قصيرة تميل إلى الخُرافة بما تحمله من بساطة في لغتها والعبر المستخلصة حالما ينتهي القارئ من قراءتها، وقد تحيلنا أحداثها أيضا إلى قصتيْ قابيل وهابيل أو إسماعيل وإسحاق.
إنها من الروايات التي تعد مثالا للاختزال والنجاعة في السرد، نجد فيها الأثر الواضح للحضارات الشرقية وروحانياتها على الكاتب وهو ما يجعله يمنحنا صورة محرفة وسوريالية عن واقع الحرب.
يقدم لاري ترمبلاي، ودون أن يحدد اسم بلد الأحداث، صورة بلد يعيش حربا حيث تقع ثكنة الأعداء وراء جبل. قد تحيلك الأجواء ووصف الأماكن على لبنان أو فلسطين أو العراق أو أفغانستان أو الصومال أو غيرها من دولنا العربية التي تعيش نزاعات أو حروبا وأزمات.
يفتتح الكاتب روايته بالجملة التالية “إذا بكى آماد، يبكي عزيز بدوره. وإذا ضحك عزيز، يضحك آماد بدوره”. كانا قطرتيْ ماء وسط صحراء حارقة ووجهيْن لحرب واحدة، وحقيقة واحدة. يكبر التوأمان عزيز وآماد وسط منزل يقع بجوار حقل برتقال، خضرة غناء تشبه الجنة يتشاركانها مع والديهما وجديهما لأبيهما.
تسقط قذيفة آتية من وراء الجبل على منزل الجدين لتهدمه وتقتل ساكنيه وتخرجهما من تلك الجنة إلى مكان آخر مجهول وموحش. بعد دفن الجدين، يأتي سولاياد أحد قادة الميليشيات المسيطرة على المنطقة ليطلب من رب العائلة ووالد التوأم أن يثأر لشرفه عبر التضحية بواحد من ابنيه، وذلك بحمل أحدهما لحزام ناسف وتفجيره وسط ثكنة الأعداء.
ولكن، من سيحمل الحزام الناسف ويقتل أولئك “الكلاب”؟ يقبل الوالدان عرض سولاياد لكن بمن سيضحيان، هل سيقدمان عزيز الذي يحتضر أو آماد المعافى؟ يندلع صراع بين الأب والأم، يصر الأول على إرسال آماد كي لا يخسر شرفه ومصداقيته وتصر هي على إرسال السقيم حتى لا تخسر كل شيء؟
وحين يفجر أحد الطفلين نفسه، تنفجر العديد من الأسئلة: هل فجر حقا ثكنة للأعداء؟ وما مفهوم العدو زمن الحرب؟ ثم ما هي علاقة التوأم بالمسرحية في نهاية الرواية؟ ماذا سنفعل كقراء لو كنا مكان الطفلين أو الوالدين؟ كيف سنحدد اختياراتنا وكم يصعب علينا الاختيار حين لا نكون أنبياء؟
تقودنا لغة الرواية غير المتكلفة والانسيابية والكثيفة وشعرية الحوارات إلى المزيد من التعقيدات وخلق الكثير من الثنائيات: الخير/ الشر، الحرب/ السلم، الجنة/ النار، الموت/ الحياة، الشرف/ العار، الانتصار/ الهزيمة، الشجاعة/ الخوف…
أما ما نحتفظ به أساسا خلال توغلنا في أحداث الرواية هو أن الحرب والكراهية بإمكانهما اقتلاع الناس من الجنة ومن أحلام الطفولة ورميهم داخل الكوابيس، “إنهما يزرعان في القلب والروح شجرة -تقول الكاتبة الكندية شنتال غي- ثمارها الوجع والغيظ والإثم والهزيمة”.
تحمل الرواية في طياتها تصورات جمالية كونية للحرب وأهوالها، وحاول بها ترمبلاي الاقتراب من حقيقة ذات وجهين متناقضين. حقيقة الحرب المفزعة القادرة على خلق صراعات داخل العائلة نفسها، والانتقال بطفلين توأمين -وبسرعة قصوى- من براءة الطفولة إلى عالم الكهولة وتعميق الانقسام بينهما على كل المستويات.
ساهم تكوين ترمبلاي المسرحي في حبك الرواية جيدا، ويظهر جليا تأثره بأفكار برتولت بريشت، إذ حاول تشريك المشاهد أو القارئ في العمل الدرامي عبر التفاعل مع الشخصيات والتعاطف معها مع المزج بين الوعظ والدهشة. جعل ترمبلاي الحرب مسرحية مركبة تصويريا، وحوّل خشبة المسرح إلى ساحة معركة حربية ممزوجة بالترقب.
نذكر أن رواية “حقل البرتقال” صدرت حديثا عن دار “الصفحة سبعة” بالسعودية ونقلها عن الفرنسية إلى العربية المترجم التونسي شوقي برنوصي.
أما مؤلفها لاري ترمبلاي فهو من مواليد 1954 كاتب ومخرج مسرحي وممثل من مقاطعة الكيباك الناطقة بالفرنسية ومختص في مسرح كاتاكالي الراقص الذي يعود أصله إلى مقاطعة كيرلا جنوبي الهند، أصدر روايات ومسرحيات عديدة ترجمت إلى أكثر من اثني عشر لغة.
تحصل الكاتب على العديد من الجوائز: جائزة المكتبيين في الكيباك سنة 2014 عن رواية “حقل البرتقال” وجائزة أدب طلبة الكليات عن نفس الرواية في نفس العام، تم اختيار نفس العمل سنة 2015 من طرف أعضاء ناد تابع للمكتبة العمومية بمونتريال ليتحصل على جائزة كتاب العام في كندا.
* فنانة وناقدة تشكيلية تونسية
www.deyaralnagab.com
|