شعرها أجعد شائب!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 13.05.2019
سمعت ، بعد عودتي إلى عمان، أنها ما زالت تعيش في المدينة..ولكن أين؟ لم أهتد إلى عنوانها.
لملمت من الأفواه معلومات متفرقة عنها، فعرفت أن شقيقيها مات، وأنها تعيش وحدها بعد وفاة والدتها ووالدها، وتقاعدها.
أحببتها ونحن في الصف الثاني الإعدادي.
كانت في مدرسة البنات الواقعة في طرف المخيم الغربي، وأنا في مدرسة الذكور الواقعة في الطرف الشمالي للمخيم، الواقعة على حافة وادي متعرّج يشقه درب إسفلتي يتجه إلى مدينة نابلس، ويمر بمخيم العوجا غير البعيد عن مخيمنا، مخيم النويعمة.
مرّات كثيرة وددت لو المس شعرها المتجعد الذي يهتز على كتفها عندما تسرع في مشيتها، ولكنني جبنت.
لو مددت يدي ولمست شعرها المتجعد لوقعت مذبحة في مخيمنا بين أقاربها وأقاربي، لذا كظمت رغبتي واكتفيت بتأمل شعرها المتدرج الأسود الكثيف.
مرّة فزت بطيف ابتسامة منها، ثم حرّكت أنفها، أو هذا ما هيئ لي، ليس هزءا مني، ولكن كأنها تقول: أعرف أنك تحدق بي..ولست زعلانة منك.
تشجعت ومررت راحة يدي على رأسي – كان قصيرا، فابتسمت ومررت أصابعها على شعرها الأجعد الكثيف، وكأنها تقول لي لتغيظني بود، كما خمنت- لي شعر غزير..وأنت شعرك قصير.
سمحوا لنا بإطالة شعرنا، عندما كبرنا وطالت قاماتنا شبرا، فبتنا ندهنه بزيت الشعر ذي النكهة الطيبة عند الحلاّق وصفي، وصرنا نتباهى به ونحن نتبختر على شارع طرف المخيم في جهته الجنوبية، مترصدين حركة البنات وهن يحملن الجرار من حنفيات في مدخل المخيم، والماء يرشح من الجرار على أعناقهن التي تلتمع في الضوء المبهر، وأجسادهن تميل تحت الجرار بحركات مثيرة متعللات بأنهن يفعلن ما يفعلن حتى لا تسقط الجرار عن رؤوسهن.
هي عندي أحلاهن، وهي كانت بحجة أنها مهتمة براحة أمها، تحمل الجرّة بعد انتهاء حصص الدراسة وتملأها عدّة مرات، ذاهبة آيبة، وأنا أتنهد وأركّز نظري عليها، وأجعل كأنني اقرأ في كتابي المدرسي، وأنا أجلس بقرب جدول الماء الذي يجري بمحاذاة المخيم قاطعا مسافة طويلة بين نبعة عين الديوك والحقول الممتدة حول وشرق قصر هشام بن عبد الملك.
مع الأيام، وإذ اكتشفت اللهفة في نظراتي رشقتني بنظرات سريعات تبدو عفوية، وأنا سعدت بها، وكم رغبت لو أنها تطيلها، ولكنها ، كما يبدو، كانت تخشى انتباه صاحباتها، وملعنة الأولاد المتسكعين الفضوليين.
صرنا فتيانا..ففي الثالث إعدادي أنت بالتأكيد فتى ، وقد طرّ شعر شاربك، ونبت زغب لحيتك، وطال شعر رأسك المدهون بزيت الشعر المُثبّت المُلمّع ، وبت ترتدي بنطلونا طويلاً سابغا، وقميصا بجيب صدر فيه قلم حبر..وبتنا نرسل الابتسامات الحيية، ولكن المكشوفة لمن ترسل لها، والغمزة مع التنهدات حاملة رسائل الشغف.
فجأة وقعت حرب حزيران 67..واقتلعنا من مخيمنا، وفي عمّان، والمخيمات المجاورة، تشتت الأسر..وما عادت أدري أين أقامت أسرة صاحبة الشعر الأسود الغزير المتجعد المهتز على رأسها وعنقها.
تقدمت لشهادة التوجيهي، وانتقلت إلى بيروت وانتسبت لجامعة بيروت العربية..وهناك..هناك..التقيت بمن وجد في شابا مناسبا..فصرت فدائيا، ثم إعلاميا، ثم..صرت أكتب في النشرات، وأهتف في مقدمة الجنازات، و..تركت الجامعة في السنة الثانية.
وبعد أيلول ال70 انتقلت إلى دمشق..ثم بيروت..ثم توالت المذابح، والارتحالات..حتى تونس.
أهي هي؟! ظهر ينحني، وعكّاز تتوكأ عليه، وجسد يرتجف! تتوقف قليلاً على الرصيف أمام فرن ( الأصدقاء) . تتنفس بعمق، وترفع رأسها، وتجيل النظر على بسطات الخضار. ألم ترني؟ ألم تتذكرني؟
تتذكرني ؟! بعد كل هذه السنوات..العقود؟!
وأنا في بيروت، دمشق، تونس..لملمت معلومات عنها: معلمة في مدارس الوكالة..تعيش وحدها بعد أن لم يبق لها أحد! لم تتزوج..لماذا؟ أيعقل أنها انتظرتني؟! كل ما بيننا نظرات، وابتسامات، و..كلمات قليلة عندما التقينا مرات قليلة في مدينة أريحا بعيدا عن نظرات أهل مخيمنا!
أنا تزوجت، فمن غير المعقول أن أبقى بدون زواج وقد بلغت الأربعين..ثم أنجبت..وها أنا ذا أعود بعد أوسلو إلى عمّان.
أكان هذا حبا؟!
في قلبي نبض يرج بدني كله. إذا لم يكن هذا حبا ، فما هو؟!
أيكون ارتجاف قلبي بسبب الضغط، وتقدمي في العمر؟! نيّفت على السبعين..ياااه كم كبرت!
انتبهت إلى أنها حملت رغيفين، ثم استدارت بخطى راعشة ويدها تتشبث بعصاها. توقفت واستندت إلى سيارة تقف بمحاذاة الرصيف خشية أن تقع.
التقت نظراتنا، فارتعشت يدها، وسقط الرغيفان. تقدمت وانحنيت ورفعتهما ونفضتهما، ومددت يدي المرتعشتين بهما وأنا أتنهد، دون كلام.
يداي ممدودتان بالرغيفين وأنا أحدق من وراء زجاجتي نظارتي في وجهها، وشعرها الأجعد الشديد البياض.
ابتسمت بوهن وهي تمد يدها وتتناول الرغيفين:
- شكرا يا سيّد...
وابتسامتها تتسع، وعيناها تتسعان بشيء من الدهشة، وكأنهما فوجئتا بشئ ما لا يخطر على البال..تساءلت:
-أنت؟!
www.deyaralnagab.com
|