قوسُ قزحٍ على جبلِ الكرملِ!!
بقلم : نمر سعدي ... 18.09.2017
مرايا نثرية7
بين نجوميَّةِ الشاعر وأهميَّتهِ
في الآونة الأخيرة لفت انتباهي جدلٌ حول مسألة أهميَّة المبدع ودور الإعلام والنقد ودور المؤسسات الثقافية وغير الثقافية في تلميع إسمه وصورته وصنع هاله من النجوميَّة حوله، مع وجود فرق شاسع بين النجومية وبين الأهمية، فهناك شعراء عظام لم يكونوا نجوماً بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، عاشوا حياتهم بكل خيباتها وانكساراتها على الهامش، الشعريات العالمية المختلفة تشهد على ذلك ومنها الفرنسية والانجليزية.. لوتريامون..بودلير.. نرفال.. رمبو.. ادغار ألن بو.. ديلان توماس.. شيلي.. ووردزورث.. والقائمة طويلة جدا.. عندنا هناك مثال على ذلك في الشعرية العربية ينطبق على تجربتي نزار قباني وبدر شاكر السيَّاب.. نزار نجم شعري كبير ومتوهِّج.. السياب شاعر مهمٌّ وعابر للزمن.. هنا لا نقلِّل من قيمة نزار ولكن السياب شعريَّا بنظري ربما يكون أهمَّ من كلِّ مجايليهِ بما فيهم نزار، وتحديداً في مرحلة صعود قصيدةِ التفعيلة، وإن افتقرت حياتهُ إلى هالة النجوميَّة تلك، من الممكن أن لا يتفق معي الكثير من النقاد في رأيي ولكن في حينهِ كانَ السيَّاب الشاعر الذي اخترع لغةً مائيَّةً بالغةَ الخصوصيَّة تستندُ على الرومانسية الواقعية من جهةٍ وعلى نزوع إلى التعبير عن خلجات النفس بلغة جديدة ومختلفة، فيها نفس وجودي متدفق من جهةٍ أخرى، هو بكلِّ بساطة ورغم قصر حياته حاولَ اجتراح آفاق مجازية تعبِّر شعريَّا عن حالةِ القلق التي كان يعاني منها الشاعر العربي الحديث، مع أن عمر السياب الشعري لم يتعدَ العشرين سنة.. وامتد عمر نزار الشعري الى ما فوق خمسين سنة فكرَّرَ نفسه في قصائد لا تحصى، السياب توهَّج وانطفأ سريعاً ولكنه ترك بصمةً لا تُمحى وغيَّر مجرى القصيدة العربيَّة إلى الأبد، بينما كانَ نزار شاعر حب جميل ولغة شفافة عذبة تدغدغُ القلوب رغم أنه لم يترك أثراً عميقاً في الشعريَّة العربية كأدونيس مثلاً، أو محمود درويش أو سعدي يوسف، يبقى واحداً من أجمل عشرة شعراء عرب على مر العصور.
***
الشاعر محمد بنطلحة
وأنا أبحث عن صفحة الشاعر المغربي الكبير الصديق محمد بنطلحة على فيسبوك أجدهُ يبعثُ لي طلبَ صداقة وبعد ذلك يردُّ على تحيَّتي برسالةِ محبة هي من أجمل وأرقى وأبهى الرسائل التي تلقيتها من شاعر أحبُّهُ وأحترم منجزهُ الأدبي المدهش، نعم أحبُّ هذا الشاعر المختلف والحائز على جوائز شعريَّة عربيَّة وعالميَّة كثيرة منها جائزة الأركانة، وأُحبُّ قصائدهُ الانعطافيَّة البلوريَّة التي تشكِّلُ جسراً بين الشعرية العربيَّة والشعريَّة العالميَّة لأنها تشبهُ بصفائها المرآة الروحيَّة لكل من يقرأها ولأنها على مستوى عالٍ من الأناقة التعبيريَّة والصدق الفني والتجريب الشجاع ولأن الصديق العزيز محمد يمتلكُ من الشفافية والأصالة والنبل وقيم المحبة والموهبة الحقيقيَّة ما لا نجدهُ عند الكثير من أقرانهِ الشعراء، ما يخوِّلهُ إلى أن يُعتبر في نظر النقد العميق والجاد أحد أجمل الأصوات الشعريَّة العربيَّة الراهنة التي تحتلُ مكانةً محترمةً على ساحة الشعر في العالم والتي تعملُ على مشروع شعري مهم بصمت وهدوء وبلغة شديدة الخصوصية والتميُّز، شاعرَ قلبي محمد أستعيرُ منكَ ما قلتهُ أنتَ...
دعْ لي يا نديمي
جوربَ الدفلى
وشِسْعَ الأرغن الحجريِّ
أو عرِّج على آثار ضرب الخطِّ في سبأ
فإن سريرةَ الممحاةِ معراجي
وإن دمي غريمي.
***
حالةُ نرفانا
حالةُ النرفانا التي قلَّ نظيرها والتي رأيتها بأمِّ عيني في مساء الأحد الخامس عشر من يوليو عام ٢٠٠٧ تؤكِّد أن هذا الرجل الوسيم ذا المسحة الطفولية الحزينة والكبرياء الرومانسي الآسر شخصٌ غير عادي أبداً، كان يبعد عني بضع قبلات ولكنني لم أستطع أن أخلِّص نفسي من مزاحمة الآلاف لاحتضانهِ، كانَ نجماً شعريَّاً بكلِّ ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معانٍ ودلالات، أمسيتهُ النادرة تلك حقَّقت تآلفاً وطنيَّاً حميماُ وإن بشكل مؤقت، مع الاستئثار الرسمي لجهة معيَّنة بالحدث والأضواء، كيفَ استطاعَ درويش جمع كل ألوان الطيف الفلسطيني في قوس قزحٍ يستندُ على جبلِ الكرملِ الأشم؟ كيفَ وحَّدَ تيارات السياسة والأدب المختلفة والمتضاربة تحت سقف واحد في أمسيته الرائعة تلك؟ سرعان ما انتهت النرفانا الشعريَّة وغاب الشاعر في الدهليز العميق بلمح البصر كقمرٍ مصابٍ بالعشق، ذلك الكائنُ الأسطوريُّ المسمَّى محمود درويش كان محاطاً بوهجِ محبَّةٍ يضيءُ القلوب إلى الأبد.
للذين يقولون أن المغني اللبناني مارسيل خليفة كانت له يدٌّ ما في صناعةِ نجوميَّة درويش الشعريَّة أقول أن مارسيل خليفة لا علاقة له بأهمية محمود درويش ودراسات كنفاني وغيرهِ لأدب المقاومة الفلسطيني في بدايات درويش لم يكن لها أهمية تذكر أيضاً في مسيرته آنذاك.. أهميةُ شاعر مثل درويش تستندُ على قوة تجربته وموهبته وكاريزماه الشخصية وقصيدته، الإعلام لا يصنع شاعراً ولكن درويش استفاد من قضيَّة وطنه وعرفَ كيفَ يوظِّفها مجازيَّاً وبأبعاد إنسانيَّة جميلة وراقية في قصيدتهِ، وكان يجدِّد ذاته الشعرية وينقلبُ عليها بعد كل ديوان.. شعره الكوني الانساني أهمُّ بمليون مرة من شعره المقاوم وهذا الشيء جعل طبقة كبيرة من مثقفي اليهود في اسرائيل تقرأهُ بكلِّ إعجاب بقيمته الشعرية الإنسانية الكبيرة، أحمد شوقي والبياتي وقباني والسياب كُتبت عنهم رسائل أكاديمية كثيرة ولا تحصى ولكن هل هناك دراسات جديدة عن البياتي وقباني مثلا؟ محمود كانت شعريته أعمق وأبعد أثراً لذلك فهي ستعيش أكثر وستدعمها الدراسات الأكاديميَّة وستضيء جوانبها، لذلك هو برأيي الشخصي يعدُّ الشاعر الثاني بعد المتنبي من حيث الأهميَّة في الشعر العربي كلِّه، وربما تكون شاعريَّة أحمد شوقي بينهما، فامتلاك درويش الموهبة الفذة وكل مقوِّمات الشهرة والنجومية كشاعر ساعدَ في تكريسِ شاعريَّته لحراسةِ حلم فلسطين وفي أن يصبح آخر الشعراء الإنسانيِّين العظام، هو شاعرٌ آمن بحلمه منذ البداية فتحقق، وتحقَّف كما يريدُ هو، لا سواهُ وكفى.
***
شعراء الفضاءِ الأزرق
لا أكاد أُحصي عدد الشعراء والكتَّاب على مواقع التواصل الاجتماعي، أن تُحصي عددهم فتلك مهمَّة مستحيلة كأن تعد ذرَّات رمل في صحراء شاسعة أو تحصي محاراً في محيط متلاطم، المشكلة الحقيقيَّة في المواقع الاجتماعيَّة أنها ساهمت ولو بصورة غير مباشرة بتضخِّم الأنا الوهميَّة حتى حدود الغرور لدى الكثير من الشعراء والكتَّاب، فنادراً ما تجدُ شاعراً أو كاتباً يقرأُ لزميلهِ قراءة متبصِّرة أو متأنيَّة بهدف معرفة الآخر وتتبُّع خيوط تجربته الكتابية والوقوف على منابعها الحقيقيَّة، ربما يكونُ الانغلاق على الذات السمة الغالبة التي لا أستطيع استبعادها من تفكيري وأنا أتابع صفحات أصدقائي على مواقع السوشيال ميديا، هذه السمة هي التي تؤدي في النهاية إلى القطيعة الشخصيَّة وحتى إلى العداء الصريح.
***
رائحةُ أيلول
لأيلول رائحةٌ تشبهُ غموضَ رائحةِ الحُب، هو من أجملِ الأشياءِ التي يصعبُ تفكيكها، أجملُ القصائد هي تلك التي تولدُ في أيلول، هناكَ براعمُ غير مرئيَّةٍ في الهواء الطلق، هناك نسيمٌ أنثويٌّ يغسلُ الصباحاتِ والعشيَّاتِ بمرورهِ العذب الأنيق، أيلولُ أرجوحةُ الشهور، عاشقٌ تغرَّبَ في صحراء الكناية، امرأةٌ تحلُّ ضفيرتها على مرأى خضرةِ الزيتون، لو لم يكن أيلول في الأرض لاخترعته خيالات الشعراء.
***
صداقةٌ افتراضيَّة
أن يكون لديك 5000 صديق على أحد مواقع السوشيال ميديا أغلبهم من خارج فلسطين، ليس معناه أنك سوبر ستار وهمي أو نجم افتراضي أو فقاعة شخصيَّة تظنُّ نفسها مهمَّة في أحد المجالات التي تحبُّها، فالكتابة على الحائط الأزرق مجانية إلى حد السخافة وتشبه الحرث في البحر، والصداقات الافتراضية بقدر ما تبدِّد العزلة والوحدة فإنها تكرِّسها وتعمِّقُ هوَّتها مع الزمن، للصداقة في هذه الفضاءات وجهان، ظاهرٌ يريك الابتسامة والتودُّد والجمال الإنساني، وخفيٌّ متجهِّم موغل في الأنانية والازدواجية والخصومة، صداقتك التي بنيتها خلال خمس أو ست سنوات مع الآخر من الوارد جدا أن تنتهي بضغطة زر واحدة وفي أي وقت يشاء الطرف الآخر.. فكيانك محكوم بمزاجيتهِ ونرجسيتهِ الافتراضيَّتين.. وإلا فما معنى أن تنتهي صداقةُ من كان من أقرب أصدقائك إليك ولا يمرُّ يوم أو يومان إلا ويكلِّمك؟ وما معنى أن تؤدِّي كلمة تودِّد واحدة إلى محو علاقةٍ استمرَّت لأكثر من خمس سنوات مبنيَّةً على الثقة والعفويَّة والصدق، حافرةً في التفاصيل الإنسانية البريئة والصغيرة جدَّاً، من دون أن تلتفت لحظةً واحدةً لصوت الرغبة أو لفحيح النزواتِ العابرة؟
***
صبرا فتاةٌ نائمة
كانت ليلةً غريبةً جداً وهادئةً، كانت السماءُ مضاءةً بالقنابل الضوئية وكأن المخيَّم تحوَّل إلى مدينة أشباح، لم ندرك حينها أن مجزرة من أفظع مجازر التاريخ البشري الحديث تُرتكب هناك، عندما شاهدنا الذي حصل لم نكن لنصدِّق أعيننا) كانَ هذا مقطعاً من شهادة أحد الصحفيين الأجانب عن مجزرة صبرا وشاتيلا التي حصلت في السادس عشر من سبتمبر عام 1982.
ولكنك عندما تستذكر تاريخ مجزرة رهيبة كمجزرة صبرا وشاتيلا في ذكراها الخامسةِ والثلاثين فإنك تنسى أسبابها ولا تفكِّر بكلِّ تلك الحيثيات السياسيَّة والتفاصيل الدقيقة، لا تعنيك الوثائقيات التي شاهدتها أكثر من مرَّة على يوتيوب ولا النصوص الأدبيَّة التي خلدَّت قسوةَ الإنسان على أخيه الإنسان وفظاعة الانتقام ووحشيته، لا تتمثَّلُ شيئاً الآن يعيدُ ذاكرتك إلى رمل ذلك المخيَّم المسربل بالدماء، لأنك فقط تريدُ أن تحتفظ برائحة لبنان البحريَّة في نفسك، لبنان وطن الجمال الذي لم يكن يعني لك شيئا سوى الرحابنة وفيروز وجبران والشعراء الذين فُتنتَ بهم، وصوت زغلول الدامور المعجون بالآس، وغنج النساء الساحرات، ولأنك تعرف أن هناك أسراراً مخفيَّة رهيبةً ما زالت طيَّ الكتمان حول هذه النقطة السوداء في تاريخ لبنان الحديث، ما الذي سيعيد توازنَ روحك أمام هذا الخراب الإنسانيِّ الصاعق.. لا شيء.. فأجملُ القصائد لو اختبرتها حتماً ستنطفئ أمام فوضوية الموت ومجانيَّة الفظاعة والوحشيَّة، كم حياةً نحتاجُ حتى ننسى صبرا وشاتيلا ونحنُ نصرخ بملء أرواحنا: لماذا؟!
***
خذ من تحبُّك
قلتُ في إحدى قصائدي (قيلَ لي في قرىً في شمالِ فلسطينَ
خذْ من تُحبُّكَ لا من تُحبّْ) وهذا مجرَّد قولٍ نقلتهُ إلى قصيدتي كما هو بعدَ أن سمعتهُ خلال نقاشٍ رجلين حولَ علاقةِ الرجلِ بالمرأة، لاحظتُ بعد نشري القصيدة تفاوت وجهات النظر واختلاف بعض النساء عليها وامتعاضهن منها ولهنَّ الحقُّ في ذلك، مع أني على الصعيدِ الشخصيِّ لا أقفُ ضدَّ فكرةٍ محدَّدةٍ مسبقةٍ كما أقفُ أمامَ سذاجةِ هذهِ الفكرة التي تبدو لي عمياء، أو خاليةً من المنطق.. إذ كيفَ يتزوَّجُ الرجلُ من لا يحب؟ كم من الساديَّةِ تدخلُ في تجربةِ الحبِّ التي من طرفٍ واحدٍ؟ والأنكى من ذلك أن أسمع أحد اصدقائي المثقفين يبرِّرُ لي هذه الفكرة دائماً بقولهِ: أن تحبَّكَ امرأتك خيرٌ من أن تحبَّها أنتَ فتستغلُّ هذا الحبَّ المفرط لتحقيقِ رغباتها ومطالبها.. أن تحبك فمعناهُ أنها ستتنازلُ عن أنانيَّتها وتتعلَّقُ بك إلى الأبد.. وكأنَّ المرأةَ كائنٌ قُدِّرَ له أن يبذلَ ويخلصَ ويحبَّ ويضحِّي من غيرِ انتظار مقابلِ، وفي هذا استحالةٌ لا يقبلها عقلٌ ولا يرضاها قلب، أيُّها الرجل تزوَّج من تحبُّها.. من تحبُّها بقوَّةٍ ودعكَ من خرافاتِ التقاليدِ البالية.
***
www.deyaralnagab.com
|