أدب الأسرى وكتاباتهم!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 15.08.2017
يرتبط الأسر بالحرب، ففي الحروب تتواجه جيوش تتقاتل وتأسر ومع انتهاء المعارك يتم تبادل الأسرى والإفراج عنهم، ويعودون إلى من ينتظروهم ليهنأوا بحياة طبيعية كسرت الحرب تواصلها.
في زمننا العربي الممتد منذ نكبة 1948 وحتى يومنا هذا وإلى يوم نحقق فيه تحرير فلسطين سيبقى الأسر شاغلا من شواغل صراعنا مع عدونا، من وقعوا في أسر عدونا لم يكونوا فلسطينيين دائما، فهناك جنود ومتطوعون من بلدان عربية وقعوا في الأسر، منهم من رُحّل عن فلسطين بعد سنوات، ومنهم من قضى في الأسر وبقي ذووه يجهلون مصيره حتى اليأس التام من عودته إليهم.
قبل هزيمة حزيران 1967 اشتهر أسيران فلسطينيان هما الأسير الأول محمود بكر حجازي، وهو نجّار من فلسطينيي لبنان، والأسيرة فاطمة برناوي من فلسطينيي القدس، ولعل أحد أسباب شهرتيهما أن من دافع عنهما هو المحامي الشهير( جاك فيرجس) وهو من دافع عن البطلة الجزائرية جميلة بوحيرد، وتزوجها بعد الإفراج عنها، وقد نقل لهما رسائل من واحدهما للآخر، ونشرت وقائع محاكمتيهما آنذاك مجلة الأسبوع العربي، وفيما بعد أفرجت سلطات الكيان الصهيوني عنهما في إحدى عمليات التبادل.
منح محمود بكر حجازي لقب الأسير الأول لأنه كان أول أسير فلسطيني بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية في العام 1965.
كُتب عن الأسيرين حجازي وبرناوي كثيرا، ولكنهما لم يكتبا، أو يمليا كما فعل غيرهما تجربة سجنهما.
بعد هزيمة حزيران انطلقت المقاومة الفلسطينية، وتنادى للالتحاق بها طلبة جامعيون ومثقفون إلى جانب ألوف العمال والمزارعين والموظفين الذين تركوا أشغالهم وأسرهم واندفعوا إلى ساحات المعارك مع الاحتلال الصهيوني، وكانت وجهتهم أغوار الأردن حيث أقرب مكان لفلسطين، وما يطلق عليه: الضفة الغربية.
منذ ذلك الوقت بات للأسرى مكان ومكانة في نفوس الفلسطينيين، فقد وقع منهم بعض الشباب في ميادين المعارك المبكّرة، وأغلبهم كانوا جرحى، أو بلا سلاح دخلوا للتسرب في المدن والبلدات الفلسطينية للشروع في أعمال تنظيمية، تحديدا بعد هزيمة حزيران 67 مباشرة.
أول كتاب صدر عن تجربة الأسر كان ( ستة أشهر في سجون الاحتلال) وهو لآسيرين طالبين جامعيين من الجبهة الشعبية هما: تيسير قبعة وأسعد عبد الرحمن.
أدب الأسر يكتبه أسرى من واقع تجربتهم ومعاناتهم، وهذا أدب يختلف تماما عن أدب السجون العربية، ولذا تأخر بروزه، ولعل أكثر من اهتموا بكتابته هم أدباء وقعوا في أسر قوات الاحتلال، ومنهم: توفيق فياض، حسن عبد الله، الشاعر المتوكل طه، ومن بين اللواتي كتبن تجربتهن الأستاذ عائشة عودة التي وقعت في أسر الاحتلال بعد مشاركتها في تنفيذ عملية زرع قنبلة في سوبر ماركت في القدس بتاريخ 22 شباط 1969 وقد صدرت بحقها عدة أحكام بمؤبدات وفوقها عشر سنوات، وتم الإفراج عنها في عملية ( النورس) التي أنجزتها الجبهة الشعبية- القيادة العامة بعد أن أسرت جنديا صهيونيا عام 1979. عائشة عودة كتبت سيرتها النضالية ومعاناتها في الأسر في كتابين: أحلام بالحرية وثمنا للشمس، وقد منحها مركز ابن رشد جائزته تقديرا لها وللأسرى الفلسطينيين عام 2015.
من أكثر من كتبوا عن الأسرى وأدبهم وصحافتهم الصحفي والأديب الدكتور حسن عبد الله، حتى لتكاد حياته تكون وقفا على التعريف بإبداعات الأسرى ومعاناتهم، وما ينتجون من فنون في معتقلات وسجون الاحتلال.
الشاعر المتوكل طه كتب تجربته في الأسر والاعتقال في عدّة أعمال أدبية، وهو كشاعر عبّر عن معاناته ومعانة غيره، فهو كتب عن ظروف الأسر، وأساليب قوات الاحتلال في محاولات قهر الفلسطينيين في الأسر أفرادا ومجموعات.
الأسير البطل حمزة يونس، وهو بطل ملاكمة دولي، يحمل جنسية الكيان الصهيوني، فهو من فلسطينيي ال48، تحديدا من قرية عارة جنوبي مدينة حيفا، تواصل مع الثورة الفلسطينية وعمل مباشرة مع القائد خليل الوزير، وهرب أسلحة عبر البحر المتوسط، وقبض عليه ثلاث مرّات وتمكن من الهرب كتب سيرته المدهشة بعنوان( الهروب من سجن الرملة).
لقد عرفته وكتبت عنه ودهشت بتواضعه وروحه المرحة الساخرة، وتمتعه بالثقة بالنفس وبإيمانه بحتمية الانتصار على العدو وتحرير فلسطين مهما امتد الزمن وطال الصراع.
لعل ما يبرهن على فشل كل محاولات الاحتلال مع الأسرى الرامية لتدمير نفوسهم، وتحويلهم إلى كائنات مفرغة محبطة، أن الأسرى هم الذين حضروا بشكل بارز في الانتفاضتين الكبريين: الانتفاضة الكبرى الأولى التي تفجّرت مع آخر عام 1987 وحتى العام 1993 أي حتى أوسلو، وانتفاضة الأقصى التي تفجّرت في أيلول عام 2000 عندما اقتحم شارون الأقصى بتاريخ 28 أيلول، وما زالوا هم الوقود الذي يؤجج نار الثورة بين فترة وأُخرى.
لعل آخر منجز لهم هو الإضراب عن الطعام الذي امتد طيلة واحد وأربعين يوما حتى أشرف بعض المضربين على الموت، هم الذين جسّدوا شعارهم البطولي المفعم بالكرامة والكبرياء: الموت أو الحريّة.
هناك أسرى دونوا تجربتهم بأنفسهم لما يتمتعون به من قدرة على التعبير، وهكذا قرأنا كتاب الأسير البطل مروان البرغوثي ألف يوم في الزنزانة، والذي أشرف عليه وقدم له الشاعر والإعلامي زاهي وهبي.
مروان اعتقل منذ نيسان 2002 وما زال صامدا في زنازين الاحتلال، وهو سرد لنا وعلينا بعضا من معاناته المرّة والصعبة، والتي مع ذلك لم تفّت في صلابته وروحه وبقي صامدا، وقاد إضراب الأسرى الطويل والقاسي الأخير ، ولفت هو وهم الانتباه إلى معاناة الأسرى في سجون ومعتقلات الاحتلال، ولمعاناة ذوي الأسرى ومكابداتهم من أجل زياراته أحبائهم.
قلت بأن الأسرى لم يكونوا ينتمون لفلسطين وحدها، بل وجد بينهم دائما من يؤمنون بعروبة فلسطين ويضحون في سبيل تحريرها، ولعل أكبر اسم التمع في سماء فلسطين هو عميد الأسرى العرب سمير القنطار، والذي قضى حوالي ثلاثين عاما حتى أفرج عنه حزب الله بعملية الوعد الصادق.
أملى سمير القنطار رحلة بطولته على الصحفي والكاتب اللبناني حسان الزين، وبعنوان قصتي، والتي صدرت عن دار الساقي عام 2011.
من يقرأ قصتي لسمير القنطار وألف يوم لمروان البرغوثي يجد أن حياتيهما في زنازين الاحتلال تتداخل، وتخطيطهما للإضرابات ينسج معا، فهم لم يكونوا معزولين عن بعضهما رغم قسوة الاحتلال وثقل أبواب وجدران زنازينه، ودائما أوجدا سبلا للتواصل، هم وغيرهم من الأسرى، وهذا شكل من أشكال الإبداع يكسر به الأسرى العزلة المضروبة حولهم.
في وقت مبكر التقى المناضل الكبير صالح برانسي أحد أبرز مؤسسي حركة الأرض بالمفكر الدكتور هشام شرابي في العاصمة الأمريكية واشنطن فسجّل له الشرابي عدّة أشرطة وأصدرها في كتاب صغير بعنوان النضال الصامت عام 1981 .
عندما التقيت بالأستاذ برانسي في لندن اتفقنا على كتابة تجربته في حركة الأرض، وقضائه عشر سنوات في سجون الاحتلال الصهيوني، ولكن ظروف الحياة عاكستنا، وقد رحل قبل أن نشرع في كتابة فصول التجربة بالتفاصيل.
الأستاذ برانسي من الطيبة عاصمة المثلث، وهي احتلت مع بلدات وقرى في العام 1949 بموجب اتفاقية رودس!!
يكتب حسن عبد الله في كتابه رام الله تصطاد الغيم: وأصارحكم أنني انتصرت في بعض الجولات على الاعتقال حين كان خيالي يخترق الأبواب الموصدة، ويسافر مستغلا أجهزة الإنذار المبكر ليحملني إلى رام الله.
كتب حسن عبد الله نصوصا أدبية خالصة مثل: حمامة عسقلان، عاشق الزيتون، عروسان في الثلج، ناهيك عن عديد الكتب والدراسات مثل: النتاجات الأدبية الاعتقالية، صحافة تحت القيد،علاقة الفرد بالجماعة في تجربة المعتقلين..وغيرها.
هناك أعمال قصصية وروائية كتبها أسرى في المعتقلات وهربوها إلى الخارج وصدرت في طبعات خاصة على نفقاتهم غالبا، ولذا وزعت بشكل محدود، وتعذّر وصولها إلى القارئ الفلسطيني والعربي عبر المكتبات، وهذا ما يعقد أمر الحصول عليها للاطلاع عليها والكتابة عنها.
إذا كان قرابة المليون فلسطيني رجالا ونساء وأطفالاً، قد زُج بهم في معتقلات العدو الصهيوني المُحتل، ومنهم من يقضون سنوات بأحكام مؤبدة ولم يكتبوا عن تجاربهم الاعتقالية أفلا يدفع هذا للتساؤل عن وسائل لتشجيع الكتابه، فشعبنا كله يعاني هذه المحنة، من هم في الأسر ومن يحملون همومهم من خارج جدران وأسلاك السجون.
لقد بلغ إبداع الفلسطينيين وتحديهم أن ( يُهربوا) نطفهم لتحمل زوجاتهم منهم وينجبن لهم أبناء وبناتا، لأنهم بهذا يتحدون كل مخططات آسريهم الهادفة إلى إلغاء حياتهم وتحويلها إلى موتى مدفونين في الزنازين.
من تجربة الأسر تخرّج باحثون فلسطينيون أتقنوا لغة العدو ووظفوها بهدف معرفته، والتعريف به، والاطلاع على أساليب تفكيره ومخططاته، ولقد برز كثيرون منهم خرجوا من الأسر أمثال نواف الزرو، حلمي موسى، عادل سمارة، أحمد قطامش، تحسين الحلبي..وعشرات غيرهم.
أدب السجون العربي يختلف عن كتابات الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني، فهو أدب روائي غالبا يفضح ظلم وعسف الأنظمة المستبدة وقمعها للإنسان العربي، وتغريبها له في وطنه.
هناك من كتبوا رواياتهم عن تجاربهم، منهم الطبيب المصري الدكتور شريف حتاته صاحب رواية ( العين ذات الجفن المعدنية)، وفي الخصوصية هنا تعميم فالحال العربي الرسمي من بعضه!
الدكتور عبد الرحمن منيف كتب روايته – الصرخة الفاجعة شرق المتوسط، وإذا كان قد عمم على القطار العربية شرقي المتوسط فلأنه يرى ، وأنا معه، أن كل هذه الدول تتشابه وتتناسخ في ظلم واضطهاد وقهر الإنسان العربي.
العلامة الفارقة في أدب الأسرى هي رواية ( المجموعة 778 ) للروائي والقاص الفلسطيني توفيق فياض، وهو أسير محرر، ومن فلسطينيي 1948.
لم يكتب توفيق فياض تجربته الخاصة في الأسر حتى اللحظة، ولكنه كتب تجربة تلك المجموعة التي عرفت بهذا الرقم 778 والتي دوّخت العدو الصهيوني في سنتي 1968 و1969 بالانفجارات التي توالت داخل المدن المحتلة قبل العام 1948، وأربكت ودوخت أجهزته، ولامفاجأة أن من قاد تلك المجموعة كان رقيبا في جيش( الدفاع) وهو عربي بدوي.
في مقدمة كتابه الصغير الثمين ( اثنا عشر عاما في الأسر الإسرائيلي) يكتب الأسير المحرر تحسين حلبي، وهو خبير بشؤون العدو، ناهيك عن إنه شاعر وصحفي وإعلامي: إذا كانت تجربة الأسر والبدايات في العمل الفدائي والمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني تتعلق وترتبط بهذا المعتقل أو ذاك، وبهذه المجموعة أو تلك، فإنها ليست ملكا للفرد أو المجموعة، بل هي ملك للثورة والتاريخ والمرحلة النضالية المحددة في مكانها وزمانها، وللشعب في كل مراحل حياته ووجوده ومستقبله.
الأسرى الفلسطينيون يميلون لكتابة تجاربهم التي تبدأ خارج جدران المعتقلات والزنازين وتتواصل داخلها، وهم لا يكفون عن الحلم بالحرية، لا الشخصية حسب، بل بحرية شعبهم ووطنهم: فلسطين.
السيرة يمكن أن يكتبها أي إنسان قادر على التعبير عن نفسه، أمّا الرواية فتحتاج للموهبة والرغبة في الكتابة عن مواضيع خارج اهتمام الأسير بشكل عام، ولذا تندر الرواية السيرة وتزدهر كتابة السيرة، والسيرة الشفوية المدونة من قبل آخرين، بحيث يتم إقناع الأسير بالحكي والإفصاح لأن التجربة لا تخصه وحده فهي مُلك لشعبه وأمته وللأجيال القادمة من بعده.
من متابعتي أعرف أن في سجون العدو أخوة لنا وأخوات يبدعون/ ويبدعن، بالتطريز الفلسطيني، وبرسم اللوحات الفنية المعبّرة، وبارتجال أعمال مسرحية، وبكتابة أغان وأناشيد وتلحينها وهذه المواهب وغيرها هي التي تسهم في تغلب أبطالنا وبطلاتنا على قسوة السجن والسجان فكم حري بنا أن نُعرّف بهذه المنجزات الفنية.
آمل أن تكون كلمتي هذه دعوة للكتابة ، دعوة للأسرى، ولكل من تعنيهم كتابة تجارب الأسرى وفاءً لتضحياتهم وبطولاتهم.
* كتبت هذه المقالة بطلب من موقع (الميادين) نت في شهر آب 2017
www.deyaralnagab.com
|