"موت صغير" رحلات صوفية تعري خبايا التاريخ!!
بقلم : ممدوح فرّاج النّابي ... 29.04.2017
لا يخفى على المُتابع للخطاب الرِّوائي في الفترة الأخيرة نزوعه إلى سرد الآخر، أيًّا كانت صفته؛ دينيّة أو سياسيّة أو حتى شخصية ثقافية عامة. الإقدام على مثل هذه الكتابات هو مغامرة جديدة بدأت تطرقها السّردية العربيّة مؤخَّرًا تأثّرًا بالمرويات التي جعلت من شخصيات الآخر، وبخاصة الصوفيين وإشراقاتهم بؤرًا سردية على نحو ما حدث مع شخصية جلال الدين الرومي، أو عمر الخيّام. حضور الشخصيات الدينيّة (الصوفية) في الرواية في تزايد، وهو ما أفضى إلى ظهور مصطلح “الرواية العرفانيّة” التي تجعل من الشخصيات الصوفية موضوعًا لها.
يبدو عنوان رواية السعودي محمد حسن علوان “موت صغير” المتوجة بالجائزة العالمية للرواية العربية البوكر لهذا العام، واحدًا من الألغاز أو الألاعيب السردية التي خلت منها الرواية، فمدلول العنوان لا يتحقّق إلا في منتصفها حيث رحلة الإمام إلى مكة وهناك التقى بنظام ابنة شيخه زاهر الأصفهاني، ويحدث العشق الذي يكون نتاجه كتاب “ترجمان الأشواق”، فيضحي العشق بمثابة الموت الصغير.
النص الرحلي
يجعل المؤلف من شخصية الإمام الأكبر ابن عربي، وكل ما ارتبط به من أحداث أو وقائع في زمنه مادة لحكايته.
الرواية تتحدَّث عن هذه الشخصية الصوفية بل تتبعه منذ ميلاده في ميرسيه وقت حكم ابن مرنديش، وحصار الموحدين له، ثمّ هروبه إلى إشبيلية، ورحلته إلى قرطبة، ومن بعدها إلى المغرب.
ورغم حضور الجانب الصوفي في شخصية ابن عربي إلا أن الكاتب اقترب من الجانب الإنساني لديه، وإخفاقاته في الحب وكذلك الحياة، وهو ما يحسب للمؤلف.
الرواية، الصّادرة عن دار الساقي، تجعل من التاريخ في هذه الحقبة التي عاش فيها ابن عربي حتى رحيله في دمشق إطارًا لها، فيُسهب المؤلف في رصد أحداث التاريخ حتى أنه في مناطق عديدة تغيب الأحداث المُتعلِّقة بشخصية ابن عربي لحساب التأريخ والرصد.
كما ترصد الرواية من بؤرة مهمّة علاقة الخلفاء بالعلماء والنكبات التي تحلّ عليهم عند غضبتهم، فيذكر محنة ابن رشد، وأيضًا الغوث بن أبي مدين، إضافة إلى ما تعرض له ابن عربي من مضايقات ومنع من إقامة الدروس في المساجد.
الرواية على مدار أحداثها، مالت إلى السرد التصاعدي، حيث الأحداث تبدأ من البداية انتهاء بالموت، وإن كانت تتماس في هذه النقطة بروايات التكوين والنشأة في تتبع المدارج والمعارج التي صعد إليها القطب الصوفي حتى وصل إلى حالة الإشراق.
لا يقف الراوي الأنا في سرده على شخصية ابن عربي فحسب، بل يسرد عن كل ما يحيط به؛ فيسرد عن أبيه وعلاقته بالقصر، وحيرته بين الدين والدنيا، وبالمثل عمّه، وتوبته التي جاءت على يديه بعدما رآه يشرب الخمر في نهار رمضان، وحالة أمه وأبناء وبنات عمّه وصروف الدهر التي لحقت بهم، وبالمثل أحوال أبيه وأمه وجارية أبيه دُرّة التي أهداه إياها الخليفة، وكيف تبدّل حاله بعد أن احتواها فراشه.
كما أن الكاتب يتتبع التكوين الفكري لابن عربي وعلاقته بالقشيري ورسالته، ثم في فترة لاحقة علاقته بالحريري الذي كان نافذته إلى دكاكين الوراقين، وعلاقته بفريدريك الذي كان يترجم عن اليونانية ودرسه للفلسفة من كتبه هو وابن الحريري.
يتوقف الراوي وهو يتتبع سيرة ابن عربي عند محطات كثيرة كصلته بالخلفاء وحلقات الدرس وأيضًا تعلقه بأصحاب الكرامات، ورحلاته التي تعدّدت بين المغرب والمشرق، وفي واحدة منها جرَّتْ عليه أهوال الحبس كما حدث له في القاهرة.
ومن المحطات المهمّة ما حدث له في مكة وقصة عشقه لنظام ابنة شيخه زاهر الأصفهاني، وما أعقبه من آلام ليس له فقط بل ولنظام بعدما تعرضت للتشهير بسبب ما كتبه ابن عربي في كتابه «ترجمان الأشواق».
النَّص في ظني هو أقرب إلى النصوص الرحليّة، حيث اعتمد المؤلف وهو يتتبع رحلة ابن عربي بحثًا عن أوتاده الأربعة ما بين بلاد المغرب والمشرق، على الوصف، فمال السرد في الكثير من المواضع إلى وصف الأماكن التي مرّ بها الشيخ في رحلته بحثا عن أوتاده الأربعة، بل إنه في دمشق يقدم لوحة فنية غاية في الشاعرية والجمال عن المدينة وعذوبتها ونظافتها وروائحها، وهو ما فعله مع بغداد وغيرها من المدن الكثيرة التي تنقل إليها الكاتب.
تتوازى رحلاته في المكان مع رحلاته في الكشف والوجد، فابن عربي في جميع الأماكن التي مر بها التقى شيوخًا له من كبار الصوفية ونَهَلَ من كراماتهم وسار على دربهم كالحريري والخيّاط، وزاهر الأصفهاني وإسحاق، وفخر النساء وغيرهم بما في ذلك بدر الذي كان ملازمه.
ومع أن الراوي قدَّم لنا الكثير من كرامات ابن عربي وكشوفاته على نحو ما حدث مع موت ابنته زينب ثمّ رحيل زوجته مريم، إلّا أنّه حُجبت عنه أشياء، على نحو فشله في التعرُّف على أوتاده على الرغم من قربها منه.
مخطوط ابن عربي
على الرغم من الصورة التي أظهر بها السّرد ابن عربي، فإن المؤلف قدم شخصية أخرى لابن عربي عبر المواقف التي اختُبر فيها، خاصة في علاقته بالخلفاء والحكام. فشخصية الصوفي الكبير لم يفصلها عن طبيعتها البشرية وصفاتها التي تبدو في نظر الآخرين سلبية، ولا أعرف هل لها علاقة بحقيقة الشيخ أم هي من وحي خيال المؤلف، فابن عربي على مدار النص بدا مترددًا خائفًا ومن الممكن أن أقول بصراحة جَبانًا في مواجهة الخلفاء الذين ارتبط بهم. ولنا في حادثة صديقه ابن رشد خير شاهد، فقد وقف موقف المتفرج وهم يسمع الوشاية التي كان هدفها أن توغر صدر الخليفة عليه، وبالمثل تكرّر الأمر عندما حدثت الوشاية للغوث بن أبي مدين.
عمد المؤلف إلى المزاوجة بين حكايتيْن عن ابن عربي، الأولى هي التي يروي فيها الراوي بلسان ابن عربي نفسه سيرته منذ مولده والمحن التي اُبْتلي بها، والثانية عبر المخطوط الذي كان يتنقل من بلد إلى بلد على يد حامليه بداية من أذربيجان
عام 1212 وصولاً إلى بيروت عام 2012، راصدا الظروف والحروب والصراعات التي مرت في هذه البلدان، في رحلة استغرقت ألفا ومئتي عام.
جعل علوان الحكاية عبارة عن مجموعة أسفار تبلغ حوالي إثني عشر سفرًا في مئة وحدة، باستثناء الوحدة الأولى وهي عن المخطوط جاءت خارج الأسفار.
ويختتم المؤلف كلّ سفر من الأسفار بحكاية من المخطوط، وانتقاله من مكان إلى آخر. كما أن كل وحدة من الوحدات يتصدرها استهلال بعبارة لابن عربيّ، والعبارة تأتي متناسقة مع موضوع الوحدة، وكأنّها رمز أو مفتاح لفهم الوحدة.
تتوازى رحلات ابن عربي مع رحلة المخطوط وإن كانت قد بدأت بالعكس؛ فالمخطوط بدأ من الشرق حيث أذربيجان في حين أن الأسفار العادية بدأت من إشبيلية، وانتهى المخطوط في بيروت ورحلة ابن عربي في دمشق. ليست المصادفة وحدها التي جعلت رحلة المخطوط تمرُّ بهزائم وانتكاسات حدثت في العالم الإسلامي وصولاً إلى النكبة السُّورية حيث اللاجئ السّوري الذي وصل إليه المخطوط من أخيه، بل هي تتوازى مع الوقائع التي حدثت في رحلات ابن عربي نفسه، فالعالم الإسلامي مُنِي بانقسامات وحروب وهزائم كثيرة سجّلها ابن عربي وهو يروي سيرته.
واحدة من جماليات رواية “موت صغير” هي اللغة تلك التي جاءت متنوعة وعلى أكثر من مستوى. لكن الشيء المؤسف حقيقة أنه غابت عن المؤلف الإشارة إلى مصادره ومراجعه التي اعتمد عليها في كتابة سيرة ابن عربي، فالمادة متوفرة ومصادرها متعدِّدة، لذلك كان من باب أولى أن يذكر مصادره!! المصدر : العرب
www.deyaralnagab.com
|