القبلة عالم من الاتصال الروحي يسمو فوق الغريزية!!
بقلم : ملهم الملائكة ... 08.04.2017
التقبيل فعل يقتصر على اثنين ولا ينجز إلا باجتماعهما، فلا معنى للتهديد بأنّي سأقبّلك ما لم تقبلني لأنه تحصيل حاصل، وهذا يسمو على الفعل الجنسي.
لعل القبلة هي أقرب تعريف للغة الروح التي يروق للبعض أن يسميها “لغة القلب” رغم أنّ القلب ينبض ليضخ دما لا يفيض مشاعر. ولو شئنا تتبع مسار القبلة فسنجدها تنوس من منطقة غامضة في ثنايا الجسد تدنو كثيرا من تعريف الروح ويزداد الغموض بجواب القرآن الكريم “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي”.
الفم هو منفذ الغذاء الحقيقي إلى الجسد، وفيه الذائقة موزعة بين اللسان وبين الغدد اللعابية والصماء، وفيما يشارك اللسان بلا هوادة في عملية النطق وإطلاق الكلمات والأصوات والتعبير عن المشاعر فإنّ وظيفة الشفاه تبقى موزّعة بين التذوق والتفوه والتلذذ والتقبيل.
عندئذ تختلط لغة الجسد بلغة الروح. فلو شئنا أن نعرّف القبلة فلن نقول سوى إنها لثم الجزء الآخر بالشفاه، فهل يقبِّل المرءُ نفسه؟ قطعا لا، فالقبلة تشترط وجود آخر ولا تقبل القسمة على ثلاثة، إنها محاولة البوح دون كلمات بين اثنين أو سمِّها بين روحين.
عالم القبل المقدس والحميم
ليست مصادفة أنّ منفذ الغذاء إلى الجسد والروح هو نفسه مصدر القبلة والتقبيل، فالتلازم بين الأهميّتين يلزمه تلازم الدلالتين، الروح لا تسمو إلا بمشاركة الأرواح والمشاركة هنا جسرها قبلة، وحين نقف عند بيت ابن الملوح “أمر على الديار ديار ليلى/ أقبل ذا الجدار وذا الجدارا”.
تتراجع القبلة إلى عنوان عذري عاطل عن الوصول إلى الآخر فيكتفي برمزه “ذا الجدار وذا الجدارا” وهنا غاب عنصر التلامس المطلوب حسيا في القبلات. ومثل هذا يقول سعدي الشيرازي بترجمة عربية “من قال إن القبلة تنمو بعيدا عن شفاه الروح؟”.
أهو من روّج لأسطورة أنّ حلو المذاق لا يصدر عن السكّر؟ وكيف نعزل القبلة عن الشفة، ألا تقود إحداهما إلى الأخرى، هل توجد قبلة بلا شفة، وهل توجد شفة لا تحب التقبيل؟ وفي التلازم هنا تفسير مجزوء، إذ كيف نفسر تقبيل أستار الكعبة، وتقبيل الحجر الأسود، وجدار المبكى عند اليهود وتقبيل الصلبان وطرف جبة البابا عن المسيحيين، وتقبيل الأعضاء الجنسية للأصنام عند بعض الهندوس. كيف نفسر تقبيل الكتب المقدسة في مختلف الأديان؟ ولماذا يقبّل كثيرون الكتب المقدسة ويعانقون بها جباههم بعد التقبيل؟ هل هو إعلاء لكلمة الرب؟ أم تنزيه للكتاب وكلام الرب الذي فيه عن دنس محتمل صدر عن قبلة طالما اختلطت باللذة؟
القبلة تقول كل شيء
لأربعة عقود خلت صادفت درويشا يتعبد في تكية “خان مولوي” بمنطقة غلاطة في إسطنبول، وهي الآن متحف للأدب العثماني الكلاسيكي. كان جاثما على أرض التكية المفروشة بالسجاد الملون وقد غلب عليه لون أحمر متداخل بصفرة الريازة وبياض الكراكيش المؤطرة للسجاد.
وما برح الدرويش الناسك يصلّي، ثم يتلو في قرآن ملفوف بقطعة قماش خضراء وضعه أمام جبينه ويغلق القرآن فيقبله، فيرفعه إلى جبينه ثم يرفعه إلى أعلى ويتمتم أدعية ويعيد الكرة. لا أدري كم مضى عليه من الوقت وهو يفعل ذلك، وبقيت أرقبه مسحوراً وفي جوفي أسئلة، وحين انتهى جلس متربعا ليبدأ طقسا آخر في نسكه، استأذنته في سؤال، فأذن لي وعلى شفتيه تلك البسمة الغريبة المتدلية من شفاه النساك والقساوسة والعباد في كل العالم. فسألته بعربية فصحى عن معنى ما كان يفعله “لماذا تقبّل القرآن ثم ترفعه إلى جبينك، ثم ترفعه إلى السماء؟”.
قال بعربية سليمة ولكن تشوبها لكنة تظهر خاصة بمنحنيات التأنيث والتذكير والفتح والكسر “أقبّله، لأنه أسمى قديمٍ يجدر بنا تقبيله، فهو كلامُ الله الذي لم يخرج من أيّ فم، ولم تلفظه شفاه ولم يكتبه أيّ يراع. وأرفعه للجبين لأنه لا يجوز السجود والركوع على كتاب الله، فهكذا أرفعه للتعظيم إلى جبيني، ثم أرفعه إلى السماء لأني أريد أن تصل قبلتي للكتاب خالصة إلى خالق الكتاب، وهذا الرفع محاولة تنزيه لها عن قُبل أهل الأرض”. كتبتُ كل ما قاله، وما زلت أحتفظ بدفتر أسفاري الصغير بتلك العبارة الشفوية الخالدة من ناشط صوفي مولوي لأبثها إلى من يبغي الإفادة منها.
تهديد غوته
يأخذني حديث القبلة إلى أبيات الشاعر الكولومبي المعاصر أنريكو ألبيرتو هورتادومينوتا.
“قبّلني حتى يحل الفجر
قبّلني بشوقٍ لا حدود له
قبلني… قبلني لا أكثر من ذلك،
ولا تقل شيئا”.
وهو يؤكد لغة الروح فالقبلة تقول كل شيء وتبوح بكل شيء، ليس فقط للآخر بل تحت سماء الليل الزاحف إلى الفجر ألا يذكّرنا كل ذلك بشوق فلسفي أطلقه الرومانتيكي الألماني الكبير يوهان فولفغانغ فون غوته؟ “قبّلني وإلا قبّلتك أنا”.
القبلة تبوح بكل شيء ليس فقط للآخر بل تحت سماء الليل الزاحف إلى الفجر
والمفارقة هنا أنّ التقبيل فعل يقتصر على اثنين ولا ينجز إلا باجتماعهما، فلا معنى للتهديد بأنّي سأقبّلك ما لم تقبلني لأنه تحصيل حاصل، وهذا يسمو على الفعل الجنسي هنا، إذ يمكن أن تتمّ الممارسة الجنسية منفردة بأخيلة العادة السرية، أما التقبيل فهو أقدس من أن يسقط في لثم الأكف، ولا بد له من آخر يسقط عليه.
قبلة نطبعها على جباه وأكف أمهاتنا فيها من البكاء أكثر من الوقوف على قبور أحبتنا، وننسى خلالها كل التغضن والتجعد والزرقة التي تعم خطوط ظاهر كفوف الأمهات ونحن نغمرها بقبلات أرواحنا.
أخصّ أنواع القبل هي قبلة تتعانق فيها شفتان وهي ليست بالضرورة قبلة مرتبطة باللذة الجسدية، فللروح لذة، ودعني أسألك كيف تغالب رغبتك في تقبيل فم الطفل الجميل الذي يلهو في مهده، أو في حجر أمه، أو فوق سجادة غرفة الاستقبال لدى بيت تزوره؟
هذا الفم الذي لم ينشف الحليب فيه والغارق برضاب الطفولة البريئة النظيفة يغري كل الناس بالتقبيل، ومن لا يجد في نفسه تلك الرغبة فعليه أن يسأل بحماس عن سبب هذا الغياب الجائر.
قبلة من شفة طفل لذيذة كثمرة سقطت توّا من الفردوس إلى الأرض، وهي لذة تخلو من لذة الجسد، ألا يليق بها أن تلقّب بلذة الروح إذن؟ لكنّ هذه اللذة المطلقة تنغّصها نصيحة طبيبة نفسانية متخصصة بالأطفال تدعى شارلوت هريتسنيك قبل عامين من خلال صحيفة ديلي ميل البريطانية وحذرت فيها من تقبيل الأهل لشفاه أطفالهم مهما كانت أعمارهم. سبب التحريم النفساني هو ”حين يبدأ المرء بتقبيل بنيه على شفاههم لا يدري متى يجب عليه أن يتوقف عن ذلك؟ فحين يبلغ الطفل أو الطفلة الخامسة أو السادسة من العمر، قد تكون قبلة الشفاه سببا لهياج مشاعره الجنسية”. ونتيجة لتلك النصيحة كما يبدو انهمكت صحف ووسائل إعلام دولية وعربية كثيرة في التحذير من مخاطر تقبيل الأطفال في أفواههم.
من باريس إلى العالم
لقد طور الفرنسيون مطلع القرن العشرين قبلة خاصة بين الشفاه باتت تعرف بـ”القبلة الفرنسية”، وعندهم تعرف بـ”قبلة اللسان”، وخلاصتها أن يدسّ كلُّ طرف لسانه بفي الآخر ويرتشف منه ما يعرف بـ”رضاب القبلة”. وقد ابتدع الفرنسيون ذلك ضمن ثورة الفن والجنس والخروج عن المألوف التي شاعت في فرنسا منذ مطلع القرن العشرين، وقنّنتها الفلسفة الوجودية في ما بعد.
وزحفت القبلة الفرنسية من باريس إلى كل العالم لتصبح إعلان التقبيل الجنسي الأكثر إفصاحا عبر العالم. والمحطة الأغرب التي كشفت عنها القبلة الفرنسية أنّ الفم هو منطقة التوتر الجنسي الأشد في الجسد البشري، واستدل علماء الجنسولوجي على التماس الحيواني الفموي المتلازم بالاتصال الجنسي ودرسوه في حلقات موسّعة وتأملوا أثره فوصلوا إلى تلك النتيجة.
وشاعت في فترات متباعدة من القرن العشرين دعوات مفادها أن التقبيل فماً لفمٍ سبب لانتقال أمراضٍ خطيرة أهمها الأمراض الجنسية ومنها نقص المناعة المكتسبة، إلا أنّ نشرة المجتمع الدولي لعلاج الإيدز التابع لمنظمة الصحة العالمية أكدت أنّ التلامس الفموي ليس سببا لعدوى الإيدز ما لم يكن فم أحد الطرفين فيه جرح مجتمعا مع إصابته بفايروس السيدا. وفي قبلة الفم المفعمة بالعطر والرضاب على مخمل الشفاه الأنثوية الحمراء أنشد نزار قباني
“لما تصالب ثغرانا بدافئة
لمحت في شفتيها طيف مقبرتي
تروي الحكايات أنّ الثغر معصية
حمراء، إنك قد حببت معصيتي”.
يتحدث نزار عن سياحة ثغر فوق ثغر، وفي هذه السياحة محطات للأسئلة؛ أين نضع التقبيل في تجارة الجنس؟ أعني في المواخير حيث يدفع الرجال أموالا لصناعة لقاء جنسي، فأين تكون القبلات هنا، هل هي لغة الروح أم أنها أسوة باللقاء برمته، صناعة؟ أين نضع هذه الأبيات التي كتبت على عمود جسر أقفال الحب القديم في مدينة كولونيا بألمانيا، وكولونيا تعد عاصمة المثليين في العالم
“شفتي تدنو إلى شفتك
بحثا عن العشق
بأمل أن تكون هذه القبلة
بطول كل عمري”.
قبّلني وإلا قبّلتك أنا
وفي مثل ذلك أنشد جلال الدين الرومي في غزله
“في الطيف لاح لي زورق
كنتَ في قلب الزورق
وكنتُ أنا البحر
فاض اليمُّ إلى الزورق
فوجدت
فيكَ في فمي يغرق
وعيني بعينك تعلق”.
ومع عصر السرعة والعولمة والاتصالات ظهرت قبلة بلا تلامس، وهي قبلة قديمة، ربما بقدم الحضارة البشرية، حيث كان الناس يقبلون أكفهم ويضعونها على جباههم لإظهار الاحترام لملوكهم وأمرائهم، بل حتى لشيوخ قبائلهم أحيانا.
لكنّ الأمر تطور إلى قُبل هوائية ترسلها الأمهات لأبنائهن عبر زجاج السيارة وهم ينزلون إلى مدارسهم كل صباح، وقبل تعانق سماعة الهاتف المحمول لتصل إلى الحبيب الذي يبعد عن صاحب القبلة 10 ألاف كيلومتر، وقبل أن تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد تصبح من رموزه قريبا، وقبل لا يصل الباحث عنها إلا صوتها عبر غوغل ومحطاته الصوتية وأشهرها يوتيوب.
ختاما، نذكّر بسؤال لم يجب عنه أحد حتى الآن، لماذا تُغلق الأحياء أعينها حين التقبيل، ويحدث هذا حين يقبّل الناس حيواناتهم الأليفة، بل وحتى حين تقبّل الحيوانات بعضها؟
www.deyaralnagab.com
|