عن «غيمة أربطها بخيط» لعبده وازن: الأقرب إلى السماء… غيمة تمشي على الأرض!!
بقلم : أمال نوّار ... 30.03.2017
الحلم قنديل المجهول، طاقة الإنسان الخارقة للتغلّب على محدودية إمكاناته، نافذته على الغيب، وسيلته للتجدّد وتغيير جِلْده خارج المكان والزمان، تعويضه الافتراضي عن سماء لا تطالها اليد.
الحلم ينفد الحبر قبل النفاذ إليه. ضربٌ من الحلم التصوّر أنه في الإمكان الإحاطة به وبماهيته. من هنا يأتي الإصدار الجديد للشاعر والكاتب والناقد عبده وازن؛ «غيمة أربطها بخيط» (نوفل- هاشيت أنطوان)، وهو مجموعة أحلام أبصرها الكاتب، بمثابة مقاربة وحسب، تحاكي الحلم بلغته وتأتينا بقبَس من سرّه. هي مقاربة يُجزى عليها وازن بالتأكيد، لشجاعته في طَرْق عالم من عوالم البديهة الأساس، الحاضر في الطبيعة البشرية منذ الأزل. عالم لفرط ما يُرى بات ممحواً، ولفرط تماسه مع الوجود بات غائباً عنه، ولفرط غرائبيته وفتنته بات صنو المألوف ودونه الدهشة والانبهار به، تماماً كأي كذبة. مَنْ فينا لا يحلم؟ مَنْ فينا يستطيع أن يفلت من ظله؟ هذا الحضور اللاإرادي للحلم فينا، أدّى إلى الخفّة في التناول، فهو من البديهيات وخارج نطاق الإبداع. وما سمعنا من قبل بشيء من قبيل «فن الحلم» مثلاً أو مسابقة أحلام يتبارى فيها الحالمون وصولاً إلى الحلم الأبهى والأكثر زُرقةً. أحقاً لا إبداع في الحلم؟ أحقاً لا يكون لشخصية الحالم الفضل في حلمـــه؟ أَيتوازى الناس في اجتراح أحلامــــهم في منأى عن مستوى ثقافتهم ومدى خصوبة مخيلاتهم وعمـــــق مشاعـــــرهم وثراء عالمهم الذهني؟ الجواب يقتضي دراسات متخصّصة بالطبع، وما يعنينا هنا من طرح مثل هذا العبث أننا أمام كتاب يضمّ أحلام شاعر بامتـــــياز، أحلام قارئ مثقف، ومن هذا الباب نجدنا مأخوذين بجمالية مزدوجة، تستمدها هذه النصوص من كونها أحلام شاعر هو أيضاً كاتبها.
نبصر أحلام وازن من خلال ماء ضحضاح، هو لغته الشفّافة التي يعبّر بها عن الطبيعة الهلامية لمادة الحلم. ليس سهلاً تذكّر مادة النسيان؛ الأحلام والأصعب، كتابة ما يشبه الزئبق من صور هائمة في الرأس تراوغ اُولي النُهى والاقتدار كي لا يفطنوا كُنْهها ويهتدوا إلى سبيلها. بسلاسة نسوح في أحلام وازن على أصنافها الشتى، فمنها ذات الطابع الأبوكوليبسي المهيب، كواقعة إعدام الكتب أو موت الشمس أو حلم «النسوة»، ومنها الغرائبي والطريف كحلم «فصول» أو «جريمة»، ومنها العابق بالكوميديا السوداء كما في «القرين» مثلاً، ومنها المتمخّض عن فداحة مخيلة، كأنْ يكون للصحراء باب، وثمة امتحان دموع وعاصفة من زجاج. ومن هذه الأحلام أيضاً ما هو فَقْدٌ خالص ورسالة حنين إلى مَنْ اخترقوا الهواء إلى المقلب الآخر، كما في حلم «نسيان»، ومنها ما هو جنسي ومحض شهوة أو هو محض ذكرى. الطفولة (طفولة الكبار) والطبيعة يحضران بقوة حضوراً شعرياً طاغياً لا يمكن أن يتفتق إلاّ عن ذهن حالم شاعر.
كذلك الحرب بمخلفاتها من دمار وخوف تتمظهر بوحشيتها وبآثار دم لا يجفّ في الذاكرة. هي أيضاً أحلام مضمّخة بالنساء، إنما تتخطّى إيروتيكية الجسد ورغباته إلى ما يشبه سمفونية أنثوية تتردد أصداءها في موجودات الكون وفي الذكورة نفسها، فنجد الحالم «يرمي حجراً في البئر، فيسمع تأوه امرأة»، ونقع على الرجل الحامل وأشخاص مما يسمى بالجنس الثالث. الروحانيات تأخذ حيّزاً واسعاً في أحلام الكاتب، فنشعر بطقس صوفي ومسيحية متأصّلة في اللاوعي، ومثلها بعض القراءات التي تحتفي بأفكار ومواقف فلسفية وبشخصيات كتب وكتّاب، منهم الأصدقاء، دخلوا في نسيج عالم الكاتب الذهني وحفروا فيه. ثم هو الحبّ، ماء الأحلام الذَهبي وأصل الحياة، يتغلغل في سردية وازن على المستويين؛ حالماً وكاتباً لحلمه، توازيه ثيمة الموت، والعودة منه وبعده، في أحلام تتوق إلى الماوراء.
هذه الأحلام على اختلاف ثيماتها ومكانها وزمانها بمثابة سيرة ذاتية للمؤلف، مكتوبة بحبر النوم، تعبّر عن مسيرته كائناً وكينونةً، في حركته المادية والذهنية. فهي مثله تجوبُ الفنادق، وتسافر في القطارات وتكاد يُغمى عليها من رائحة الكتب العتيقة. هي أحلام كصاحبها تسكنها هواجس الوجود وميتافيزيقيا الكآبة والبحث عبثاً عن المعنى، فنجدها تسرح في متاهة الغموض وغالباً ما يطلّ علينا منها، وجهٌ ملتبس من خلف الزجاج او الغيم، أحياناً هو الوجه نفسه لأشخاص مختلفين، وأحياناً هو بلا ملامح أو هو وجه بثلاثة وجوه أو أكثر. شعور الضياع أكثر ما يتجلّى في رمزية الظلام المتكرر حضوره وداخل غرف النوم ،حيث أناس مسرنمين، وحيث شخص تارةً يحلم أحلام غيره، وتارةً يحلم أنه يحلم، فنتذكّر قصة «الحالمة» للإيطالي ألبرتو مورافيا.
عبده وازن كاتب يحيا في حلم مستديم. وصفه الطيفي لأحلامه كمن يقول: أنا حلم يمشي على الأرض. ذلك الخلط السديمي المحيّر بين حياة النوم وحياة اليقظة، بين الرؤيا والرؤية، بين عالمَي الوعي واللاوعي، يضعنا أمام حقيقة إمكانات النفس الباهرة والخفية. فيكون الحلم لغزا داخل لغز، وجها من وجوه طاقات النفس وأسرارها، مفتاح أساس لكشف المكنون، حتى تكاد مقولة مثل «إعرفْ نفسك» لا تستقيم من دون إعرفْ حلمك أولاً! وهذا مسعى لا يقلّ وعورة وغموضاً.
لا يفوتنا ما للحلم من جاذبية مضاعفة بالنسبة للمبدع عموماً والشاعر خصوصاً. ويصعب أصلاً أن نفصل الكتابة عن الواقع الحلمي للكاتب. من هنا، كان في وسع وازن بلا أدنى حرج أن يقدّم لنا أحلامه هذه على أنها مجموعة قصص قصيرة جداً من نوع «الفلاش فيكشين» أو القصة الومضة، فهي تتوفّر على الكثير من شروطها ولا ينقصها التكثيف ولا المفارقة ولا الإيحاء ولا الخاتمة المدهشة، وهو وإن لم يفعل، سمح لنفسه التصرّف في هذه الأحلام. ولا ينفي الكاتب في مقدمة كتابه تدخّله الواعي في إعادة صوغ أحلامه أدبياً، لاسيما وأنّ بعضها أحلام يقظة. ولئن اعتبر نفسه كاتب أحلام وليس راوياً لها، فقد أوضح أنه لم يكتب نصاً خارج الحلم، والحال فإنّ تدخّله في كتابتها لا يصل إلى مستوى الخيانة. وبما أنّ الأحلام هي أصلاً زاخرة بالمادة الشعرية كما أسلفنا، لا بل قد يُرَدُّ الاثنان معاً: الحلم والشِعر إلى أرومة واحدة؛ المخيّلة، فإنّ صوراً حُلمية مثل «صفعتُ الهواء فسمعتُ قماشاً يتمزّق» أو «كأنني أبصر رائحة الياسمين» أو «إنني أبصرتُ ما ظننته قعر العالم» هي أيضاً بمثابة صور شعرية خالصة لا تقلّ بلاغة عما يكتبه الشاعر يقظاً. ويحصل العكس أحياناً، فيستحضر الشاعر في أحلامه صوراً من قصائده.
تحت عنوان «الحلم حارس النوم والنوم أرض كنوزه» تأتي دراسة في ختام الكتاب يعرض فيها وازن رؤيته للحلم ومدى تأثيره في نسيج حياته منذ الطفولة. ويطلعنا على بعض ما قرأه عن الأحلام في المعتقدات القديمة والأساطير والأديان وأيضاً في العلم المعاصر، ملقياً الضوء على نبذات من أفكار علماء متخصصين. وهو يثني على يونغ في منحه العقل الباطن قوى خارقة تتعدّى الغرائز والرغبات والماضي إلى قدرته على التنبؤ والحدس بالمستقبل من طريق الأحلام، ما يحملنا على الظنّ بأنّه ربما من أحلام وازن ما كان نبوءات صغيرة، وحبّذا لو كان أطلعنا على تقاطع أحلامه مع أرض الواقع، ربما في كتاب مقبل. يحفل التاريخ الإنساني بما يؤكّد على أهمية الحلم كمصدرٍمن مصادر المعرفة ووسيلة في استشراف المستقبل والغيب. وكما ينوّه وازن، كان الحلم في الحضارات القديمة ساحة اتصال الآلهة بالبشر وبَعْث رسائل إليهم. وقد جاءتنا الأقاصيص عن حلم الملك البابلي نبوخذنصر الذي فسرّه دانيال، وعن رؤيا فرعون مصر وتفسير النبي يوسف لها. وفي الأديان كان الحلم يتبدّى وَحْياً ورسالة سماوية عبر رؤى الأنبياء. ويلفت الكاتب إلى الفرق في استخدام مصطلحَيْ الحلم والرؤيا من المنظور الإسلامي. وهنا، يجدر التنويه بأنّ كلمة «حلم» بصيغة المفرد وردت في القرآن بمعنى النضوج الجنسي، إذ يُشار إلى سن البلوغ بسنّ الحُلم. وثمة في القرآن مصطلح آخر غير الحلم والرؤيا، تندرج تحته معاني الرؤى كلّها التي يبصرها الناس والأنبياء في نومهم على حدٍّ سواء؛ وهو كلمة « مَنَام»، والمنام بالمعنى القرآني هو غير النوم! بل هو ما يحصل أثناء النوم.
ومما يذكره وازن في خاتمة كتابه أن بعض البدائيين كانوا لا يفرّقون بين الموت والنوم، باعتبار أن الروح في كليهما تغادر البدن أكان لمدة محدّدة أم للأبد. ونتساءل، أتكون أفكار كهذه بدائية حقاً؟ أهو من باب الصُدَف أن نجد في القرآن آية تبيّن هذه العلاقة المتوازية بين الموت والمنام. ففي آية 42 من سورة الزمر نقرأ عن حال تماثل وفاة النفس في موتها وفي منامها، سوى أنها في الحال الثانية فقط يمكنها العودة إلى عالم الحياة واليقظة. والحال، هل يكون ما تختبره النفس في المنام تختبره في الموت أيضاً؟ يحلو لنا أن نرى إلى الحلم في وصفه تمريناً على الموت. لِمَ لا؟ الحلم تمرين على الموت، تمرين لا يبرع فيه إلا الأشدّ يقظةً في منامهم. يقارب وازن هذه الفكرة بشكل أو بآخر في حلم «الميّتة» حيث نجد فتاة تقول لنسوة كنّ يبكين من حولها ظناً منهن أنها ميّتة «هل تسمّين الحلم موتاً؟» هو التباس مبرّر بحقّ. وفي حلم آخر نقرأ عن مدينة ينام فيها الناس في أسرّة أشبه بالتوابيت من أجل التمرّن على الموت.
ويتساءل الكاتب عن جدوى تفسير الأحلام، مُشكّكاً في صحة فَهْم مفرداتها ومفاتيح رموزها، وفي مدى صلاحية استخدامها على الناس كافة على اختلاف شخوصهم طبائعَ وكينونات. تبقى اللقيَة في الحلم ذاته وداخل صَدَفَته. أما تلك التفاسير التجارية، فهي تصيب الأحلام في مقتل، ولا عجب أن نرى الكاتب في أحلامه دائم الفرار من البصّارات. اليوم مع التقدم المتعاظم للعلم والمعرفة وتنوّع مصادرهما وأدواتهما لم تعد للحلم حظوظ كبيرة في أن يكون مصدراً للمعرفة، فضلاً عن ساحةِ تواصلِ السماوي بالأرضي. إنسان اليوم لا يعير اهتماماً بالغاً حين ينظر في مرآة ذاته لكَوْنِه الداخلي ولا لسماواته السبع، ولا يجتهد من لدن حدْسه ولاوعيه ما دام محرّك غوغول تحت ضغطة إصبعه، حتى أن البعض بات يظنّ أنه لا يحلم، مع ذلك، نقول لن يكون في وسع ديناصورات التكنولوجيا مَحْو أثر الفراشة؛ الحلم وإن لم يكن يُرى، فقد أخبرنا شاعرنا درويش بأنه لا يزول.
نختتم بفكرة رائية للغزالي أوردها وازن في كتابه، عن أنّ لا فرق بين النوم واليقظة إلا في ركود الحواسّ وعدم انشغالها بالمحسوسات. فالنائم يعايش يقظة ذهنية عميقة تتجاوز تلك التي منبعها الحواسّ. بكلام آخر، لو أنّ السماء لا تُطْفئ عينها الكبيرة لما كان يتسنّى لنا رؤية عيونها الصغيرة والمتناهية البُعد، كذا النائم، يضيء من الداخل عند انطفائه. المفارقة أنْ تضيئنا أحلام عبده وازن من الأعماق رغم أننا لم ننم. ٭ شاعرة لبنانية
www.deyaralnagab.com
|