«أطفال السبيل» للسعودي طاهر الزهراني: الحياة بين موتين!!
بقلم : موسى إبراهيم أبو رياش ... 13.11.2016
أجمل الروايات هي ما لامست الواقع، وتغلغلت فيه، فيجد القارئ نفسه فيها، ويرى أنه أحد شخوصها، أو على الأقل يعرف شخوصها والمكان الذي جرت فيها أحداثها، مما يولد حميمية عند القارئ، وارتباطاً بالرواية، التي يرى فيها سيرة ذاتية أو مكانية.
«أطفال السبيل» من الروايات التي لا تجد نفسك غريباً عنها، فهي تسرد طفولتك، تسرد دروبك، تسرد أيامك الخوالي، وذكرياتك العتيقة، تسرد أحداثاُ نسيتها أو أوشكت أن تُنسى.
رواية «أطفال السبيل» ليست رواية حي «السبيل» في جدة فحسب، بل هي رواية كل الأحياء الشبيهة في كل مدينة من مدن العالم الثالث البائس، وربما نجد أحياء مثلها في دول متقدمة؛ فأحياء الشقاء تتقاسمها الشعوب وإن بنسب متفاوتة. لو غيرت عنوان الرواية إلى «أطفال جناعة» أو «أطفال الشلالة» أو «أطفال الحدادة» (أحياء شعبية في الزرقاء والعقبة وعمان) لما وجدت أي فرق جوهري، فالشقاء ابن حرام لا أب له، تقاسمته الأماكن والشعوب، خاصة المغلوبة على أمرها، المستعبدة بلقمة الخبز، ورواتب تغني بالكاد عن التسول!
ما يُميز هذه الرواية، أنها يُمكن أن تُقرأ بمستويات عديدة، ولكل مستوى دلالالته وإسقاطاته؛ فهي رواية للفتيان، من حيث شخوص الرواية، والفصول القصيرة، واللغة البعيدة عن التعقيد والتقعير، ووجود الغراب أيضاً يُناسب هذه الفئة، حيث يكثر وجود الحيوانات والطيور في القصص المخصصة للفئات العمرية الأدنى.
وهي رواية للقارئ العادي، يجد فيها قصة أطفال في حارة شعبية، وما يلاقونه من صعوبات ومعاناة وتحولات مؤثرة، وفجائع شخصية ومجتمعية، ونهايات مؤلمة، بالإضافة إلى دور الأم المعتاد، والأخ العاطل عن العمل، والصديق المُعتدى عليه، والحبيبة التي فرت ما إن تبرعم الحب في القلب.
وهي رواية لها دلالاتها الرمزية التي يُمكن إسقاطها على الواقع العربي المُزري، فنحن في الحقيقة نعيش في «حي السبيل الكبير» بكل ما في حي السبيل الجداوي من بؤس وشقاء وعفونة وظلمة. وبمنظار الغراب الأعصم نرى أنفسنا ويرانا العالم، حتى الريشة البيضاء أبت إلا أن تفارقه عند سقوطه الأخير، لتبث رسالة سوداودية، وتحذيراً مما هو آت.
ابتدأت الرواية بالغراب الذي صور بكاميرات سينمائية متحركة مشاهد البؤس والفقر والحرمان لبعض الأماكن في جدة، وخاصة حي السبيل، ثم ينتقل إلى الميت المسجى في حوش الدار، ومحاولة نهشه. وتنتهي الرواية أيضاً بمشاهد سينمائية للغراب عندما يُصاب برصاصة، فينتقل من مكان إلى مكان، ومحلقاً في الفضاء مودعاً المدينة وأحياءها التي عاش فيها عمره، فلم تزدد إلا فقراً على فقر، وخراباً من بعد أن كانت عامرة بالمتعبين. وعندما آن له أن يتهاوى، لم تحتضنه إلا بحيرة الطين، بعد أن فقد الريشة البيضاء التي كانت علامته الفارقة الوحيدة. نهاية حزينة ومفجعة لغراب حكيم، خبير بالناس وأسرارهم ومشاعرهم.
عندما يكون الموت والغراب هو البداية والنهاية، فماذا ننتظر؟ وأي حياة نعيشها في الحقيقة؟ وهل ثمة أمل بغد أفضل؟ وهل للريشة البيضاء التي نأت أن تتدنس ببحيرة الطين أي دلالة مبشرة بنور بعيد يضيء من آخر النفق، أو شعاع من ضياء يخترق الحجب؟!
طفولة طلال (طلو) هي الطفولة في كل مكان عنوانها الحرمان، وإن اختلف الديكور المحيط بها، تبدأ طاهرة بريئة حبيبة إلى النفس، ثم ما تلبث أن تتعرض للخبرات الحياتية الجيدة والرديئة، الخيرة والشريرة، لتنضج على نار الحياة التي لا ترحم. فالمدرسة قدر لا بد منه، بغض النظر عن جدواها، وزمالة بعض طلاب الصف أو أبناء الحي ضرورة، والصداقة البريئة مع فتاة الجوار علاقة لا بدَّ منها، ومواجهة مواقف القتل والاغتصاب والسرقة والسكر والصراعات بين الأقران، والصفع والركل، ومن ثم الفراق والصدود والحرمان والفقد، وغيرها، كلها خيوط لا بدَّ أن تتداخل في نسيج الشخصية وهي تنمو وتتفتح وتنضج، لتصل إلى مرحلة تُنكر أنها كانت هناك حيث الطفولة الوادعة المستكنة في حضن الأم.
الأم في الرواية اتسمت بالصبر والحكمة والحزم ممزوجة بالحنان والحب. ربطت أولادها بالله منذ اللحظة الأولى ليتمهم، وأن عليهم أن يلجأوا إليه في الملمات، وأن يخافوه ويتقوه. كانت مرشدة واعية لطلال، تعظه بالحكمة أو بالقصة والحكاية كأسلوب الجدات، في توصيل المراد بطريق غير مباشر، وبأسلوب مقنع محبب للنفس الطفولية.
ناجي الشقيق الأكبر لطلال، وقمر اليمنية وإدريس السوداني والحجة عيشة، وكاملة وسعدية وسالم عنبر، جميعهم لعبوا دوراً مؤثراً في حياة طلال وتطورها، سواء كان دوره إيجابياً أم سلبياً، فلكل دور أهميته وخبرته المتولدة منه. وكل دور لبنة مهمة في بناء الشخصية.
توظيف الغراب الأعصم في الرواية، ضربة موفقة من طاهر الزهراني، لسببين: الأول: توظيف الحيوان والطيور ربما يكون محدوداً في الأدب العربي المعاصر، والثاني: أن يكون الطير غراباً فهذه أيضاً مفارقة ربما أراد منها الزهراني تغيير النظرة الاجتماعية نحو هذا الكائن، هذه النظرة التي تميل للتشاؤم والتطير من الغراب وذكره، على الرغم من حكمة الطائر التي تفوقت على قابيل يوم تملكته الحيرة في دفن أخيه هابيل بعد أن قتله، هذا الطائر الذي ضحى بطائر آخر كي يُعلِّم البشرية درساً ربما هو الأكثر شيوعاً، وما زلنا نمارسه اقتداءً بالغراب. ولولا حكمة الغراب ومبادرته لتكدست الجثث وملأت رائحتها الفضاء وتعفنت الحياة.
الرواية جميلة وأدت رسالة مهمة، ولغتها سلسلة تلامس الشعر أحياناً، ولكن ثمة ملاحظات يجدر الإشارة إليها: أشارت الرواية صفحة 24 إلى وجود أخت طفلة لطلال «ثم جثت الطفلة على فخذها الأخرى»، ولكن هذه الطفلة اختفت تماماً، ولم يرد لها ذكر بعد ذلك لا رسماً ولا إسماً.
الفضاء الزمني للرواية يبدأ من موت الأب في حادثة اقتحام الحرم سنة 1979 وينتهي بعد احتلال الكويت 1990، أي حوالي 12 سنة. هذا المدى الزمني أطول من التطور التدريجي لشخصية الطفل طلال، الذي يتوقع أنه كان بعمر 5 أو 6 أعوام عند وفاة والده.
معظم فصول الرواية جاءت في صفحتين أو ثلاث، مع إمكانية دمج كثير منها، من دون إخلال ببنية الرواية، ولا تفسير لذلك إلا رغبة الكاتب في رفاهية القارئ وراحته، أو هو أسلوب يختطه الزهراني لنفسه. وهو بالتأكيد ليس سيئاً، ولكنها ملاحظة جديرة بالذكر.
على الرغم من أن الزهراني اعتمد على صوتين في السرد وهما صوت طلال وصوت الغراب الأعصم، إلا أن المدقق يُلاحظ أن الكاتب تدخل هنا وهناك، فلا تفسير للعبارات الناضجة والحكيمـــــة على لسان أو تفكير طلال إلا أنها تدخلات من الكاتب، ومن أمثلة ذلك، يعلل طلال سبب إنزعاج إدريس من زيارته بعد حادثة اغتصابه «لأن الإنسان يمقت كل من شهد امتهان كرامته»، إلا إذا كان طلال يسترجع سيرته، وهذا ما لم تُلمح إليه مجريات الرواية، أو أني لم أنجح في التقاط الخيط.
الصفحات البيضاء أو شبه البيضاء كثيرة في الرواية إذ بلغ عددها 28 من 160 وربما هي ضرورات الطباعة والإخراج، أو هي رغبة الزهراني في تبديد السواد الذي نعانيه ونعيشه ونقرأه ببعض البياض وإن على الورق!
وبعد… فالرواية مهمة في موضوعها، وعرَّت الواقع البائس الذي لم تنجُ منه حتى الدول النفطية، فالنفط ليس مصباح علاء الدين، ووجوده لا يعني العيش الكريم، فهو ذهب أسود، قد يكون ذهباً في مكان، وسواداً في مكان آخر!
الرواية طلقة كاشفة تحذيرية، تُبصرنا بالواقع من دون رتوش ومن دون ماكياج وتحسينات وتزييف، وتحذرنا من الآتي إن لم نتدارك الأمر، ونُسارع في إحداث التغيير المطلوب قبل أن يعم الظلام، وتفيض بحيرة الطين لتبتلع المدينة! ٭ كاتب فلسطيني
www.deyaralnagab.com
|