الظلم والكبت والرذيلة والانتقام في رواية تونسية !!
بقلم : يسرى وجيه السعيد ... 17.05.2016
الكتابة عن المشاكل الوجودية والنفسية والاجتماعية الكبرى من خلال عالم بسيط في ظاهره سلس في مكوناته لهي أمر بالغ التعقيد، لكن السر يبقى لدى الكاتب الحقيقي الذي يتمكن من المزج بنجاح في خلطة ساحرة ما بين البساطة والعمق.
قرأت مرة “تغفر للصغير خوفه من الظلام، لكنك لن تستطيع أن تغفر للكبير خوفه من الضياء”، وداهمتني هذه العبارة مع قراءتي لرواية “شارلي” للكاتب التونسي نبيل قديش، حيث أينما ولَّيت وجهك بين الأسطر، والحكايا الصغيرة التي وزع الكاتب أسماءها كفصول متلاحقة ومتتابعة للرواية، ستلاحظ كم السواد الماثل بين كل تلك التفاصيل، فالكاتب يفجر داخلك كل ماعشته أو سمعت به عن الظلم والاضطهاد والكبت والرذيلة، والانتقام، والألم، والوجع، والذل.
يدخلك قديش إلى روايته، الصادرة مؤخرا عن دار فضاءات للنشر، من أبواب جمالية مختلفة، يمتعك حينا بجمالية المكان في الريف التونسي، لكن عبر التقاطات أدبية مميزة، وتتجول مع أبطال الرواية مدركا تركيز الكاتب على تفاصيل دقيقة يتخذها لبوسا لحكايته دون أن يذكر ذلك على الإطلاق، فنراه يؤكد على أثر الأسرة والتربية الحميمة على شخصية الإنسان، ودفء العائلة الذي يمنحك اتزانا في شخصيتك، ويسلبك فقدانه كل توازن أو رحمة بحق نفسك حيناً، وبحق الآخرين في معظم الأحيان.
يمكن لنا تشبيه رواية قديش بالمتاهة السوداء التي تستمر عمرا كاملا، تتناقله أجيال الرواية من الأب إلى الإبن، فهذه السوداوية طغت على مجريات الرواية، وبدأت بها ولما تنته بنهاية الرواية أيضا.
رواية “شارلي” محاولة ناجحة إن حق لنا القول في تتبع متطلبات الروح الإنسانية، ومطباتها معا، وإن كانت لغة الجسد عكازا صلبا استند إليه الكاتب في توصيف بعض المواقف، وبالغ في التركيز عليها، إلا أننا ندرك أنه استطاع أيضا الولوج إلى أعماق الروح عبر لحظات وردّات فعل بعض أبطال الرواية، ولم يغب عن الكاتب أن جعل شخصياته موزعة بين الرجال والنساء فلا غالب بينهما، بل الجميل أن الجميع كان بخندق واحد من المعاناة والتعايش، رغم أنه في بعض المواقع لاحظنا أن كلا من الطرفين يمكر ويمقت الآخر، ولكن الممتع أن هناك زوايا في شخصية أبطال شارلي تسرّك بردات فعلها تجاه لحظات يمكن للقارئ أن يمجد من خلالها حرف الكاتب الذي استطاع الإحاطة بكل أفراد روايته وكأنه كبير تلك العائلة الذي أدرك كل مكنوناتها وخبايا روحها أيضا.
ربما كانت فكرة الرواية قديمة، بل ومكررة، فطالما قرأنا عن فكرة السيد والعبد، الإقطاعي والفلاح، الرأسمالي والعامل الكادح، الغني والفقير، الضعيف والقوي، قصص كثيرة من هذا القبيل دونتها كتابات كثيرة، وإن كان قديش قد كرّس الرواية لعرض حال تلك القرية التي رزحت تحت نير فرعونها اللقيط، إلا أن كاتبنا قد تميز بمعالجة هذه الفكرة بابتكار دافق في صوره وتحليلاته التي كشفت أعماق الشخصيات وأعماق الحكاية الخفية.
استطاع الكاتب أن ينقلنا بين الشخصيات من سي عبدالجبار الفرعون اللقيط الذي انتقم لطفولته المعذبة ويتمه المر، ومعاناته التي اشتدت بالإصلاحية التي أفسدت ما أبقى له القدر من صلاح لديه، لشارلي العجوز الذي لخص ماضي وحاضر رجل اختصر مجده بهروب شجاع يخفي معه كل أخطاءه كما اعتقد، محاولا خلق عالمٍ جديد خاص به يميزه ويجلب له الحظ عبر شخصيات أحبته وأحبها.
ولم تكن مريم ولا حياة ولا عواطف المنجمة أقل حظا، فقد وجه الكاتب أسهم النقد اللاذع لأخطائهن، وتبدو المرأة في الرواية ذلك الكائن المتمرد على ظلمه والمنتقم لنفسه بنفسه، حتى أنها لن تنتظر لحظة عتب، فالمرأة لدى نبيل قديش شعارها “لن يصلح التسامح ما أفسدته الخيانة”.
رواية شارلي من الروايات التي تحركك من العمق والسطح معا، فلا بد أن تجد نفسك ضاحكا عند بعض محطاتها، كما لا بد لدموعك أن تنهمر عند محطات أخرى.
بلغة بسيطة حينا، معقدة حينا آخر، وبمفردات بالغة حينا ومبالغة أحيانا، كُتبَت رواية شارلي مطلقة العنان لذاكرتك وثقافتك، وتركتك في نهاية الرواية بزاوية التأمل لتشعر بحلاوة الارتواء من كتاب اختزل هموم وشجون وكبت النفس البشرية بلغة تحليلية قوية وصور طافت بخواطرنا قبل أن نقرأها.
وما يربكك النهاية المفتوحة التي شاء الكاتب أن يختارها لروايته تاركا لخيالك اختيار النهاية التي ربما يريدها لمن صادقهم عبر قراءة الرواية.
www.deyaralnagab.com
|