الصراع بين أهل الناي وحملة البندقية..سيرة البسطاء في كرة النار!!
بقلم : عاطف محمد عبد المجيد ... 20.02.2016
هناك شعراء كثيرون تحوّلوا من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية، منهم من تحول ليجرب عالم السرد، ومنهم لإحساسه بالفشل شِعريًّا، ومنهم من تحوّل عن الشعر ليجني مكاسب الرواية من شهرة سريعة، وتوزيع نُسخ أكثر وحوارات، وما إلى ذلك.
غير أن قلة من الشعراء هم الذين انتقلوا إلى عالم السرد الروائي إيمانًا منهم بقضية ما، ربما وجدوا أن الشعر ليس هو الأسلوب الأمثل لتوصيلها إلى المتلقي، فحاولوا أن يقوموا بتوصيلها سرْدًا، وهناك نماذج كثيرة نجحت في هذا، فيما فشل الذين تحولوا بدون أن تكون لديهم موهبة سردية كافية، أو قضية مُلحة عجز شعرهم عن التعبير عنها.
* * *
«لأكثر من سبع ساعاتٍ متواصلاتٍ، وأنا راكعٌ على أشجار القطن الخضراء، أقلّب أوراقها بيدي ورقةً ورقةً، وأقارن بين إخضرار لونها واصفرار لون النُّوار، وصهد الشمس يكوي قفاي، يأسرني لون نوُّار القطن الأصفر الجميل، وفجأةً يخترقني طيفُ المرحوم أبي بوجهه الأسمر الحافل بالكرمشات، والتجاعيد البارزة، والأهداب المترهلة، وبشفته المتدلية لأسفل كجملٍ عجوز، والدموع تكاد تقفز من عينيه الحزينتين اللتين تغلفهما طبقةٌ من المياة البيضاء». ما سبق هو المقطع الافتتاحي الذي يستهل به الشاعر والروائي ماهر مهران روايته الجديدة «كرة النار» الصادرة عن دار غراب للنشر والتوزيع في القاهرة، التي يرمز فيها بالناي إلى المسالمين الذين يحبون الحياة معترضين على كل ما يسبب أذًى لأي إنسان، بينما يرمز لأنصار الثأر والإفساد في الأرض، الذين يلعبون بكرة النار بالبندقية.
مهران يثبت، روايةً بعد أخرى، أنه لم يدخل باب الرواية من الأبواب الخلفية، بل من بابها الشرعي الوحيد، ليضع بصمته الروائية الخاصة به في عالم الرواية الحديثة، متعاملًا مع كتابتها كما يتعامل مع فعْل الحياة نفسها. مهران يقف في رواياته، كما في دواوينه الشعرية، مع البسطاء، الذين تربّى بينهم، ورأى بعينيه حجم مأساتهم وكَمّ العذابات التي تنهال عليهم من كل جانب، راويًا في روايته «كرة النار» سيرةً ذاتية لكل إنسان بسيط، وربما مغلوب على أمره، تسير الحياة بكل مُتعِها أمامه كقطار سريع، لا يتوقف حياله ولو للحظة واحدة، إنه إنسان يشاهد الحياة على شاشةٍ أمامه، لكنه لا يعيشها، لأن آخرين، بقسوتهم وبجشعهم منعوه من أن يأخذ ولو قسطًا هيّنًا من مَلذّاتها. في «كرة النار» يعيش البطل حالةً من الوجع والحلم، يرمز الروائي لهذه الحالة بأُخْتيّ البطل وجع وحلم، يتوجع من الواقع الذي يعيشه هو وكل من حوله، ويحلم بزمان يتغير فيه هذا الواقع البغيض الذي يُعادي الحياة.
«أبحث وأنا أمشي منكفئًا بخطىً قصيرةٍ جدًّا بمحاذاة رفاقي من الأولاد والبنات، خوفًا من غضب الريس الضبع الذي يمشي خلفنا وهو يمسك السيجارة بيدٍ، وعصًا خضراء من الجريد بالأخرى، لكن رغم انشغالي به، يخترق ذهني طيفُ المرحوم أبي، بيدٍ سوداء وأصابع طويلة كأصابع الشيطان، وهو يسكب السولار في مصابيح الفوانيس النحاسية المعلقة أمام بيوت الأغنياء في قرية الترعة العمياء، يصيح الريس الضبع فيَّ غاضبًا فأنتبه، وأعرف أنه عثر خلفي على لطْعة بها الآلاف من دود القطن».
* * *
هنا يُجيد مهران التصوير الروائي كما يُجيد السرد، مُشكّلًا جُمَله الروائية بعناية فائقة، جاعلًا من لغته بطلًا أولَ لعمله، إلى جانب أبطاله الآخرين: «تغرورق عيناي بالدموع، وتتشرَّب بشرتي السوداء، التي حمصتّها الشمسُ بحمرة الخجل، وتهطل دمعةٌ صغيرةٌ من عينيّ، أمسحها بكف يدي التي يغطيها عسلُ القطن الأسود، وآفة الْمِنُّ، وأطلب منه أن يسامحني هذه المرَّة، وأنا أقاوم الحرائق التي اشتعلت في عيني، وأعده بأن أنتبه في المرَّات الأخرى القادمة». هذه الرواية يمكن أن نُطلق عليها رواية الفقر، أو رواية المُعدَمين، وكمْ يبدو مهران قاسيًا على قارئ روايته هذه، وهو يُصور حالة الفقر المُدقع، التي يُعاني منها بطله، ومثله ملايين الآخرين الذين يسكنون، أقصد لا يسكنون أساسًا، بعيدًا عن أعين المسؤولين وأقفيتهم: «وأنا رغم أنني لا أجد قوت يومي إلا أنني لا أريد الموت الآن ليس حبًّا في الحياة، ولكن أملًا في أن أعمل في جمع دودة القطن، الثلاث مُدَد الباقية، أي الخمسة والأربعين يومًا، وأحصل على الستة جنيهات وخمسة وسبعين قرشًا، أجري في الشهر ونصف الشهر، هذا لأوفِّر لأخي الأكبر خليل وأختيّ حلم ووجع، بعض الدقيقٍ، وقليلًا من الشاي والسُّكر، وربما ادَّخر بعض المال لنشتري مرايل المدرسة، وبعض الكراسات، والأقلام، ويا حبذا لو زاد المبلغ قليلًا، ودفعنا المصروفات المدرسية، التي يُهيننا سكرتير المدرسة إهانة بالغة عندما نتأخر في سدادها».
* * *
كذلك يتعرض مهران للعلاقة بين بعض الأثرياء وبين من كانوا يعملون لديهم من المسيحيين، إذ كانوا يذلونهم درجة أن أحد الأثرياء كان يركب النصراني كأنه يركب حمارًا، هذا النصراني نفسه هو الذي آوى سيده بعدما تبدلت به الحال وهاجر من بلدته إلى إحدى مدن الشمال.
الرواية ترصد انهيارات سياسية واجتماعية إنسانية حدثت، فتصدعت نتيجةً لها جدران المجتمع المصري، كما تُظهر لنا عددًا من الشخصيات الغريبة والعجيبة.وأخيرًا هذا هو ماهر مهران الروائي الذي لم يكتب سوى عن عالمه القروي الخاص، الذي يعرف، عن قُربٍ، كل تفاصيله، وناسه المطحونين بين رحى الحياة وتجاهل المسؤولين، من دون أن يُقلد أحدًا، أو أن يُفكر في دخول عالم غريب عنه، ولا يدرك أيًّا من مفرداته. كاتب مصري..المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|