"موسم الغضبة":عادة جزائرية قديمة تجسد معاني التسامح عند العرب !!
بقلم : الديار ... 03.08.2015
تتوارث الأجيال المتلاحقة الموروث الثقافي من عادات وتقاليد وقيم أخلاقية مثل توارثها للإرث المادي، ولأن المجتمعات العربية اتسمت عبر العصور بثقافة التسامح – رغم ما طغى عليها الآن من ظواهر العنف والتطرف – فإن المجتمع الجزائري مازال يحافظ على قيم الأجداد الأخلاقية والثقافية ويحتفي بالتسامح كقيمة أخلاقية ثابتة في ما يسمى محليا بـ"موسم الغضبة".
الجزائر - تعد تظاهرة “موسم الغضبة” التي تقام سنويا بإقليم تيديكلت شرق ولاية أدرار في الجزائر والتي يتم إحياؤها في يوم الجمعة (لما له من دلالات دينية وروحية عند جل المجتمعات المسلمة)، واحدة من العادات التراثية العريقة التي تبرز مدى تجذر ثقافة التآخي والتسامح وحل الخلافات بالحوار بين المتخاصمين.
وإلى اليوم يحيي الجزائريون هذه العادة وفاء لما لقنه إياهم أجدادهم من أخلاق الإسلام التي تحثهم على التحلي بروح التسامح ونبذ الخلافات التي تفسد الحياة الجماعية وتخل بشروط التعايش السلمي بين أبناء الحي والبلدة الواحدة. ورغم ما يقدمه العرب اليوم في ظل انتشار الإرهاب والتطرف والتشدد الديني من صورة سيئة عن أنفسهم تجعل الآخر يعتقد أنهم لا علاقة لهم بمعاني التسامح وقبول الآخر إلا أن الاحتفال بموسم الغضبة أو التسامح في الجزائر يقدم صورة مختلفة للأولى عن أخلاق ومبادئ العرب المسلمين المقترنة بعقيدتهم حيث أن الدين الإسلامي دين تسامح وتحابب في الأصل.
وتعود عادة موسم الغضبة إلى قرون خلت وهي من بين العادات الاجتماعية والتراثية التي ترسخت في المجتمع الجزائري وترجع جذورها حسب الحكايات الشعبية إلى قصة خلاف اجتماعي حقوقي؛ عندما عبرت مجموعة من عمال البساتين في مدينة تيط الواقعة في هذا الإقليم عن تذمرها من الظروف الصعبة التي كانت تزاول فيها أشغالها المختلفة بحكم الأوضاع الاجتماعية الرديئة التي كانت تعاني منها في تلك الفترة حسبما يروي عضو جمعية “الإخاء للتبادل الثقافي” بأدرار مفتاحي محمد.
ونظرا لعدم تلقي أي استجابة أو اهتمام من طرف أصحاب البساتين الذين كان هؤلاء العمال يشتغلون لفائدتهم عمدوا إلى القيام بهجرة جماعية من ورشات وبساتين هذه المدينة متوجهين في مسيرة غضب موحدة نحو قصور مدينة أقبلي المجاورة ليشتكوا لأعيانها من وضعهم المزري حيث استقر بهم المقام بقصر المنصور ببلدية أقبلي حيث مكثوا في ضيافته خمسة أيام بلياليها حسب رواية السيد مفتاحي.
وقد أطلق على تلك الهجرة “هجرة الغضب” السلمية وقد حملت أعيان سكان قصر المنصور على اتخاذ كل التدابير والوسائل لفض الخلاف وإعادة الاعتبار لتلك الطبقة الشغيلة حيث تنقلوا رفقة العمال الغاضبين إلى مدينة تيط التي التقوا فيها بوجهائها وأعيانها الذين كانوا بدورهم في انتظارهم عند مداخل المدينة في خطوة تعبر عن ندمهم وعن مد يدهم للصلح ورغبتهم في رجوع الشغالين وعودة أجواء الحياة العادية للمدينة ونشاطاتها.
وبعد تفاوض وتشاور تم التوصل إلى حل توافقي يرضي الطرفين وتُليت سورة الفاتحة لترضية النفوس وتهدئتها وقد ارتبطت هذه السورة من القرآن بمباركة الاتفاقات وتمني الأفضل اتكالا على الله وتم استدعاء العمال للرجوع إلى مدينة تيط بعد أن قاموا بالمبيت على مشارفها في انتظار الدخول إليها في وضح النهار. وجرى استقبال العمال في جو احتفالي وأخوي ومشهد تظهر فيه مشاعر “الندم” التي كانت تطغى على أصحاب البساتين مثلما أضاف ذات المصدر.
وقد حرص أعيان وسكان مدينة تيط في خضم ذلك المشهد الأخوي والتضامني على استضافة سكان قصر المنصور من بلدية أقبلي في مدينة تيط لمدة خمسة أيام نظير إسهامهم الكبير بالحكمة والتبصر في فض ذلك النزاع وبث روح التسامح وأواصر الأخوة والتكافل بين سكان المدينة.
ومنذ تلك الفترة ولأجل استرجاع معاني تلك الحادثة الاجتماعية كرس سكان المنطقة عادة سنوية تسمى “موسم الغضبة” يتم خلالها تنظيم زيارات سنوية متبادلة بين سكان مدينة تيط إلى قصر المنصور في شهر سبتمبر وأخرى يقوم بها سكان قصر المنصور إلى مدينة تيط في شهر يونيو. ويتم المكوث في المناسبتين خمسة أيام تقام فيها عدة أنشطة واحتفالات دينية وفلكلورية وثقافية ورياضية متنوعة.
وساهمت هذه العادة التراثية القديمة التي يحتفل بها في الوقت الحاضر بمنطقة تيدكلت في إشاعة قيم التسامح وتوطيد أواصر التراحم وعلاقات المصاهرة بين سكان المنطقتين لما تحمله من أبعاد اجتماعية وثقافية أخلاقية تعكس مدى تشبث المواطن العربي بقيم الحرية والعيش الكريم وحسه الواعي بتكريس مبدأ حل الخلافات خاصة منها الاجتماعية بالطرق السلمية بعيدا عن كل أشكال العنف كما ذكر رئيس جمعية “الإخاء للتبادل الثقافي” بأدرار.
واعتبر الشيخ صباري الحاج ناجم وهو أحد أعيان منطقة تيديكلت أن هذه العادة التراثية اللامادية التي مضت عليها قرون لازالت تشكل مصدر استلهام لسكان المنطقة لقيم التسامح والتآخي وهي المعاني السامية التي لا زالت متجذرة في الحياة الاجتماعية المشتركة التي لا يتميز بها سكان تيديكلت فحسب بل سائر سكان المنطقة العربية.
ومن جانبه حث السيد مفتاحي الحاج لحسن أحد وجهاء بلدية أقبلي شباب المنطقة على ضرورة المحافظة على هذه العادة القديمة المتوارثة لتحقيق التواصل مع تراث الأجداد وجعله موروثا للأحفاد. كما دعا في الوقت ذاته إلى منح هذه التظاهرة التراثية الدعم المادي “اللازم” من طرف الجهات المعنية بما يسمح للقائمين عليها بتنظيم مختلف الأنشطة التي تصاحبها حتى تتخذ أبعادها الدينية والثقافية في ظل توافد عدد لافت من الشباب والأطفال للاستمتاع بطقوسها المميزة.
من جهتها شرعت المصالح الثقافية بالمنطقة في جمع الشهادات الحية لمن عايشوا الاحتفال بهذه العادة المتجذرة في تاريخ سكان إقليم تيديكلت إلى جانب إنجاز وسائط معلوماتية قصد إتاحة الفرصة أمام الباحثين للاستفادة منها في إعداد بحوثهم المتعلقة بتراث المنطقة.
www.deyaralnagab.com
|