تمظهرات الوعي الشعري في ديوان"فقدان المناعة" لعبد السلام دخان !!
بقلم : *محمد برزوق ... 23.01.2015
يكشف ديوان الشاعر المغربي عبد السلام دخان المعنون ب" فقدان المناعة" والصادر عن دار الخليج العربية رهان الشاعر على ممارسة كتابية تذهب بالكتابة الشعرية إلى أقصى ممكناتها ليكسر نمطية القصيدة و يهدم معاييرها المُقَعّدَة و يبعثر بنياتها الجامدة، فيخرج بشعره من هيمنة النموذج. الشعر عنده ممارسة كتابية بحثه تقوم على عمليتا الهدم و البناء، المحو و إعادة التأثيث، التذكر و النسيان. بهذا المعنى، يصبح الشعر لديه وعيا كتابيا .فالنص الشعري لدى عبد السلام دخان ليس تجسيدا إملائيا يتم الاستماع إليه، ليس نظما يمر من الفم إلى الأذن أو صوتا يخضع لقوانين الأوزان. إنه، على العكس من ذلك، "تجسيد صوتي" تصبح معه القصيدة مركبا فضائيا بسواداته و بياضاته، بمنطوقه و مسكوته، بحضوره و غيابه، بامتلائه و فراغاته، بظاهره و باطنه. مع فقدان المناعة، يصبح النص الشعري معمارا (Architecture)، لديه أشكاله النصية و أحجامه المُعَقًّدة و توزيعاته الخطية. إن ما يحكم علاقة الشاعر بنصه ليس الكتابة الصوتية (L’écriture phonétique)، و لكن ما يمكن تسميته مع جاك كودي ب "المنطق الغرافي"(La raison graphique) . في نفس السياق، يمكننا القول أن الشعر عند عبد السلام دخان هو احتفاء ببهاء الحرف و ليس مكانا للصوت، هو نصوص ذات بعد بصري و ليست تركيبة سمعية. في قصيدة الليل و العربة نقرأ ما يلي: "حين يزهر الليل في كفي/ أمتطي صهوة البياض/ أختفي خَلفَ بلاغة الشعراء/ لألون قرميد"أوبيدوم نوفوم./ حين يُزهر الليل في كفي/ أُشعل نار الكلمات/ أنحت ألف حصان لعربة القصيدة. الصفحة 51 من الديوان.في هذه الأبيات يذهب الشاعر إلى أبعد حد، حيث الكتابة لديه ليست فقط احتفاء بالغراف ((Le graphe بمفهومه الدّيريدي، بل، أكثر من ذلك، هي عمل فني تشكيلي. الكلمات تصير ألوانا و أطيافا و خطوطا يخلق بها الشاعر عالما إستيطيقيا رائعا و صورا شعرية بارعة. إن فعلي التلوين و النحت يجعلان من الشاعر رساما أو صباغا أو نحاتا، أدواته الاستعارة و الخيال و الترميز.
و كل من يقرأ الديوان بتمعن، يجد حقلا دلاليا يشير إلى عالم الرسم و الألوان مثل: "تَخضر"، "ألون"، "منقوشة"، "بألوان الفصول"، "وبألوان أكثر ضياء"...إن فعلي الرسم و النحت يشيران ضمنيا إلى المواجهة المستمرة مع مختلف أشكال الفراغ من أجل ملئه، يحيلان إلى الصراع الدائم مع البياض من أجل تأثيثه و إعادة تشكيله و إعطائه بالتالي هذا البعد الفني. والبياض يرمز هنا للعدم، إلى هذا الخواء ما قبل الكتابة الذي كان يهابه مالارميه كثيرا. "ألون" و "أنحث" يؤكدان فكرة فحواها أن عبد السلام دخان يكتب الشعر و ليس القصيدة و أن الكتابة لديه "هي غير الكلام، إنها إثبات و إبقاء. و هي في ذات الآن، وجود فضائي، تتبدى آثاره على بياض الصفحة، فهي تَفضيَة، و توزيع خطي، فيه يتضافر المكتوب بغيره، لتتخذ الكتابة وضع النص الذي يمكن تَلمُّسُه و النظر فيه.
تبعا لذلك، يخترع ديوان فقدان المناعة قارئه الخاص: قارئ يجد نفسه أمام نصوص عصية على الفهم، و يواجه كتابة يصعب استيعابها بشكل مباشر، و يكتشف شعرية لا يمكن فك رموزها دون جهد فكري. قارئ يضطر لقراءة النصوص عدة مرات للقبض على معانيها المتسترة وراء حجاب، وتأويلها، و تفكيك تلابيبها، لأن شعر عبد السلام دخان لا يراهن إطلاقا على قارئ مستمع، وعيه محكوم بالشعر كإنشاد و كخطاب شفاهي. إنه يراهن بالأحرى على قارئ منتج و مبدع، قارئ ذي ذاكرة شعرية و أدبية و فنية و معرفية جد غنية و أكثر خصوبة. بمعنى آخر، عبد السلام دخان يكتب من أجل قارئ يدخل في حوار جدلي مع النصوص الشعرية و يقيم معها علائق دينامكية و يتخذ بذلك وضع فاعل في النص الشعري باعتباره بناءً مفتوحا، فضاء منفتحا على عدة إمكانات و نسيجا تتعدد فيه الأصوات و تتقاطع في ثناياه نصوص أخرى.
ومن خلال دراستي لفقدان المناعة، أعتقد أن نصوصه الشعرية التي تأتينا من تخوم الكتابة الواعية بذاتها و بخصوصياتها، الموغلة في الكتابة كشرط جمالي لوجودها، لا تستطيع أن تحقق هذه الاحتفالية لأنها أولا و أخيرا نصوص من نوع آخر، نصوص لا تخضع للبعد الشفاهي، و تستدعي بالتالي القراءة المُفرَدة، الهادئة، الصامتة، المتأملة، و العارفة...و حده هذا النوع من القراءة قادر على كشف شعرية هذه النصوص التي قد تتلاشى و تضيع بالإنشاد. ما قلته لا ينقص من القيمة الشعرية للديوان، بل يؤكد مرة أخرى على أن الكتابة لدى عبد السلام دخان تندرج في دائرة الحداثة، أي أنها كتابة ذات بعد جمالي و ممارسة واعية بشرطها الشعري. كتابة عبد السلام دخان تذكرنا بكتابات شعراء من أمثال أدونيس و بنيس وهنري ميشو (Henri Michaux) و سان جون بيرس (Saint-Jean Perse)و مالارميه (Mallarmé) و غيرهم ممن لا يمكن قراءتهم شفاهيا، بل توجب قراءتهم كتابيا.
البعد الكتابي أو الغرافي في فقدان المناعة يتمظهر من خلال وجود نصوص شعرية جد مكثفة لا تتجاوز البيتين أو الأربع "للعشق شكل شمعة/ ولجسدي لون البداية "الصفحة 8 من الديوان. و "الكرسي الفارغ قبالة البحر/ ُيقَبّل في صمت وجه الريح "الصفحة 9 من الديوان. و "توهجت الشوارع بالشوارع/ فاحترقت أرصفة الحلم/ في كف عجوز مولع بانتظار/خطوات الريح المتعبة"
إنها نصوص جد قصيرة و جد مختزلة، تذكرنا في بنائها الشظري بالهايكو (Le haïku) الذي أبدع فيه الشاعر الياباني باشو ماتسيو(Basho Matsuo) خلال القرن 17 الميلادي. نتيجة للتكثيف و التشظي، يكون البياض في هذه النصوص القصيرة أكثر هيمنة من السواد. فالفراغ هنا هو الذي يحدد وضع الكتابة و جدل القراءة و المسكوت عنه في ثنايا الأبيات. فراغ يستدعي قارئا جيدا يفهم معانيه، يقبض على تلابيبه، يملأه بتأويلات ذكية و استنباطية. قارئ مُتَمرّس لا يكتفي بالمعنى الأول للأبيات لأنها، في العمق، نسيج من الأصوات و الصمت، تشابك من الامتلاء و الخواء، تقاطع بين الأسود و البياض، جدلية ما يقال و ما لا يقال. كل هذه المعطيات الكتابية و الشعرية لهذه الأبيات تعطي للقارئ هوامش رحبة من الاكتشاف و التفكير. والبعد التكثيفي للغة يجعل هذه النصوص الشعرية أكثر تلميحا و أبلغ معنى و أقوى إشارة لأصداء العالمين الداخلي و الخارجي. إنها نصوص شعرية لا تَصف، لا تَحكي، بل تُلَمّحُ لمعان خفية. يقول رولان بارت في كتابه إمبراطورية العلامات، متحدثا عن الهايكو: "في الهايكو، تختفي وظيفتان أساسيتان في الكتابة الكلاسيكية: الوصف من جهة، و التعريف من جهة أخرى. الهايكو لا يصف و لا يُعَرف، إنه يذهب بالتلميح إلى أبعد الحدود."
بهذا المعنى، هذه النصوص، في علاقتها التناصية مع الهايكو، تدعوا إلى التفكير و التأمل، و ليس عبثا أن عنوان إحدى هذه الأشعار هو "فلسفة". البعدين المعرفي و الفكري اللذين تنطوي عليهما هذه النصوص الشعرية لا يَحجُب العلاقة التي تقيمها مع المعيش (Le vécu )، إذ تشير إلى أشياء مرئية، تجعل من المحسوس جوهرها، و تحطم القيود، ليتم اتحاد صميمي بين الشاعر و الطبيعة. بكلمات قليلة، موجزة، أكثر تكثيفا، يقبض الشاعر على اللحظة الهاربة، على الشيء العابر، على المتغير، على الفوري (اللون- الصوت- الزمن- الخطوة، الحركة...)، ليثبته في صور خالدة و يخرجه بذلك من النهائي إلى اللانهائي. في هذا السياق، تظل الصورة كمفهوم أداة إجرائية لقراءة هذه النصوص الشذرية، حيث يجب فهمها في دلالاتها الواسعة و الشاملة. هكذا يمكننا الحديث عن الصورة الفنية و الصورة الذهنية و الصورة الرمزية و الصورة الواقعية و الصورة الاستعارية...
القارئ للنصوص الثلاثة المذكورة أعلاه تترسخ في ذهنه هذه الصور: شمعة تحترق، كرسي فارغ، عجوز تنتظر. إنها صور ذات بعد رمزي تتخذ دلالات عدة. و ليس من قبيل الصدفة أن يُبَوّب الشاعر الجزء الأول من الديوان بعنوان مثير:"صور مختلفة". إنها صور عارية من التوصيف، لا تميل إلى الحكي، ، ألوانها و أصواتها مستوحاة من الطبيعة (البحر- الريح). مثل شعر الهايكو، تحيل هذه النصوص الشعرية القصيرة إلى الطبيعة و تحقق ما تم الاصطلاح عليه في شعرية الهايكو ب"الكيكو" (Le kigo)، أي هذه الإشارة (المفتاح) الضمنية أو الصريحة للطبيعة أو لمكون من مكوناتها أو لفصل من الفصول الأربعة.
يتجلى مرة أخرى الملمح الغرافي لديوان عبد السلام دخان في بعده التناصي. فنصه الشعري فضاء واسع، منفتح على نصوص أخرى حاضرة عن طريق التصريح، أو التلميح، أو الكناية، أو الاستعارة، أو الرمز، أو الأسماء. هذه الميزة أتاحت لشعرية فقدان المناعة أن تتناسل مع نصوص مختلفة، سابقة أو قديمة، معاصرة أو مجاورة، تُحاورُها، تُشَكلها، تُحَولها، "تَقرأها و تُعيد كتابتها و تُقوم بتوزيعها داخل فضاءها"، حسب تعبير فيليب سولرس. بهذا المعنى، يصير ديوان عبد السلام دخان نسيج ممتد في مخزون و ذاكرة نصوص أخرى يقيم معها علائق و تداخلات و تقاطعات. هذا الحقل يأخذ تمظهرات عديدة: شخصيات مُتَخَيلة، أسماء أعلام، عناوين كتب، جمل مأثورة، أحداث تاريخية الخ.
في قصيدة عنوانها "هدية"، يتم الحديث عن عزلة إميل. إنه اسم يحيل إلى كتاب جون جاك روسو و يذكرنا بشخصيته الشهيرة، التي عبرها يقدم الفيلسوف الفرنسي أطروحته الفلسفية حول الإنسان الوحشي (L’homme sauvage)، الخالص والبريء الذي أفسدته المدينة و دمره المجتمع المتحضر. فإميل هذا النص الشعري، مثل إميل روسو، يحاول كتابة تاريخه البهي و تدوين حياته المُشرقة كما كانت عليه في الماضي. و لكن عبثا، إذ تتحول هذه الشخصية إلى خشبة، أي إلى شيء فقد إنسانيته. الشاعر لا يكتفي باستحضار شخوص لكتاب و شعراء آخرين داخل نصوصه الشعرية. إنه، زيادة على ذلك، يعيد بناء هذه الشخصيات، يعطيها بعدا مخالفا لما اعتاد عليه القارئ في الكتب المأثورة. فهو يُحَولها و يُجَنسها، ليُضفي عليها دلالات جديدة. في قصيدة "فراق"، يتحول إميل إلى فتاة يودعها الشاعر قبيل وفاته، فيطلب منها أن تمسح على جبينه عرق الموت. إميل تصير، بهذا المعنى، أمله الوحيد في الحياة، الخيط الرفيع الذي يربطه بنبضها. نفسها الفتاة تفتقد قدسيتها و جمالها في آخر قصيدة من الديوان.
ونحن نقرأ هذه النصوص الشعرية، يطالعنا اسم شاعر أو كاتب أو مفكر: "لم ُأعجب بستار كونديرا/لأني منحاز لرائحة التخوم"، "أنا نسيان فرجينيا وولف أنا من ضاعت يداه/إكليل الزمن/وصلى درويش/صلاته الأخيرة في دمه/ وألهم إدوارد السعيد/أنشودة الشرف". وتصادفنا مقولة مأثورة أو عنوان نص تراثي أو مصطلح قرآني أو عنوان كتاب أو مقتطف شعري. نقرأ مثلا: "لا يَستَحم في العتمة/مرة أو مرتين./تساقطت أوراق قلبي/و التين والزيتون./سُلَّماَ لكائن منعزل/حطه السيل من عل"، "أجد في احتمالات "ماتريكس"/خلاصا لصراع التأويلات./ خريف المتكئين/على فرش من هواء". وهذه الأمثلة و غيرها دليل واضح على أن النص الشعري عند عبد السلام دخان هو استحضار لنصوص عديدة، استرجاع لقصائد قرأها جيدا، فتمثل أبعادها الجمالية، و المعرفية، و الفلسفية، و أفرد لها موقعا للحضور داخل فضاء شعريته. هذا الأخير يصبح إذن بناءً مفتوحا يكون فيه الآخر حاضرا باستمرار، يسمح بتوالجات بين أشكال أدبية مختلفة، يؤدي إلى تقاطعات أجناسية... وعبد السلام دخان، قبل أن يكون شاعرا هو قارئ جيد لنصوص شعرية و نثرية، عالمية و محلية، يأتي إلى الكتابة و ذاكرته حبلى بمرجعيات متعددة تحضر عن قصد، أو خلسة في نسيج أشعاره.
إن فقدان المناعة يبقى، في هذا الإطار، نصا طرسيا(Textepalimpsestique)، شعريته عارفة، لغته حاملة لكتابات قادمة من المجهول و المعلوم. هذه الخاصية التناصية جعلت من فقدان المناعة فضاء مفتوحا، شاسعا، رحبا، متعددا، ديناميا، تتمازج فيه الأساليب الأدبية، تتناسل فيه أصوات عديدة، يلتقي فيه البعد الجمالي بالبعد المعرفي، تؤثث مساحته إيقاعات مختلفة بين مرثي، وغزلي، وتأملي، وخطابي. النص الشعري لدى الشاعر عبد السلام دخان هو "غابة من الرموز" بتعبير شارل بودلير. فلنفكك إذن شفراتها. * كاتب من المغرب
www.deyaralnagab.com
|