logo
“آخر المحظيات” رواية للكاتبة والإعلامية المصرية سعاد سليمان!!
بقلم : منير عبيد ... 26.06.2014

اختارت الكاتبة سعاد سليمان عنوان روايتها بذكاء ودهاء وحنكة لأنها ترمي إلى مغزى أبعد مما يخطر ببال القارىء للوهلة الأولى. فدلالات العنوان لا تتضح إلا بعد أن نقطع شوطاً كبيراً في قراءتنا للرواية . وتجدر الإشارة هنا إلى أن المحظية في اللغة تعني المرأة التي لها حظوة عند زوجها (وتجمع حظايا). لكن الناس درجوا منذ حقب طويلة على استخدام محظية وتجمع محظيات وهو الاستخدام الشائع. والعنوان يحيلنا إلى عصر الجواري والمحظيات ولكننا نفاجأ بأن الرواية تتناول قصة بسيطة. فبعد خمسة عشر عاماً من الزواج وإنجاب خمسة أولاد تكتشف زينة أن زوجها وابن عمها رامي كانت له عشيقة و أنه كان يعيش قصة حب ملتهبة. ومايزيد من غضبها وغيظها أنه مات فلا مجال لأن تثور في وجهه أو تنتقم منه. ويتضاعف هذا الشعور لأن رادار المرأة لديها لم يلتقط هذه الخيانة أو هذه المرأة العاشقة التي لم يتفوه زوجها باسمها ولو سهواً. إذن هي لا تعرف غريمتها التي سجل رقم هاتفها باسم مجهول وايميلاتها كذلك تحمل اسماً مستعاراً.
اختارت الكاتبة شكل الرواية الرسائلية (Epistolary Novel). وهو نوع من فن الرواية كان مزدهراً في انكلترا و فرنسا في القرن الثامن عشر. وفيه يتم السرد عبر رسائل تتبادلها الشخصيات المختلفة ومن أشهر هذه الأعمال في الأدب الانكليزي رواية باميلا (1740-Pamela) ورواية كلاريسا (1747-8Clarissa) للكاتب صموئيل ريتشاردسون (Samuel Richardson). ويرجع شيوع هذا النوع من السرد في تلك الحقبة إلى المكانة التي كانت تحتلها الرسائل في المجتمع الإنكليزي مما كان له أبلغ الأثر في الرواية باعتباره وسيلة للتواصل بين الشخصيات وربط الأحداث بعضها بعضاً. وهذا بدوره يعطي دفعة قوية لدرامية الأحداث بجعل الشخصيات تعبر عن ذاتها وتفصح عن مكنوناتها.
من هنا فإن صوت الراوي في رواية “آخر المحظيات” يستخدم ضمير (الأنا) مما يعني أنه مشارك في الأحداث وشاهد عليها وهو أكثر إثارة لفضول القارئ. كما أن هذا الشكل الرسائلي يناسب تماماً موضوع روايتنا التي تستهلها الكاتبة برسالة من زينة لزوجها رامي الذي مات فلن يقرأها تقول فيها “لماذا مت؟ وكيف تموت دون أن أشفي غليلي”. منذ رحيله تتابعها الكوابيس: على السرير في غرفة نومهما حيث الفاصل البارز بين جهتي نومهما، رائحة عطره، الأثاث العتيق ، أوراقه وكتبه التي كان محظوراً عليهاالاقتراب منها. منذ فراقه أصبح كل البيت لها: لا ممنوع ولا محظور ولم تعد تخشى ملامسة أشيائه: التليفون المحمول والخطابات والكتب. وتجرؤ زينة على فتح هذه الرسائل فتكتشف رامي آخر غير الذي تزوجته وعاشت معه خمسة عشر عاماً. امرأة تطلب منه أن يردها إلى قلبه، وبدونه لا تكون وتشكو الوحدة حين تنام وحيدة وتشتهي أن يحتضن ظهرها العاري. الصدمة شديدة وتفقدها وعيها. وهنا تقدم لنا شخصية أخرى توظفها بمهارة في البناء الدرامي لهذه الرواية التي تنحو نحو المونودراما. هذه الشخصية هي زهرة أخت زينة، التي تطلب منها رعاية أولادهما حتى تسترد وعيها. في الظاهر تبدو طريقة منطقية وطبيعية لإدخال هذه الشخصية. ولكنها في واقع الحال تقوم بدور هام في إلقاء الضوء على مغزى الرواية، على نحو ما سنبين. وتمضي زينة في الاطلاع على الرسائل الواردة إلى زوجها رامي و المغرقة في الرومانسية وتدرك أنه كان يعيش حياة ملتهبة بالعواطف حافلة بالجنس الذي كان يمارسه مع زوجته في الظلام مرتدياً ملابسه كاملة ودون متعة،وكأنه يؤدي واجباً مفروضاً عليه هدفه إنجاب الذرية. العاشقة أو العاشقات و الزوجة يعانين المرارة والحرمان لغيابه. في حياته كان بليداً شارد الروح معاقراً للخمر متعللاً بالقضايا الوجودية و السياسية. ينام مكدوداً محبطاً ويصحو مرتسماً الجدية و الوقار. يبلغ عند هذه النقطة فضول القارئ ذروته ويتسائل لماذا تزوج رامي زينة وكيف تم ذلك؟ ومن هؤلاء المحظيات؟وكيف تعرف عليهن؟ تجيب الكاتبة سعاد سليمان على هذه الأسئلة وغيرها في حبكة روائية متقنة من حيث ترتيب أحداثها ومسبباتها.
تسترجع زينة شريط الذكريات حين كانت طفلة يكبرها رامي بخمس سنوات يحضر إلى بيت أسرتها و يلعب مع إخوتها. بينما أبوها و أبوه يتسامران. وصار رامي شاباً نابغاً يكتب الشعر وهو مازال طالباً بالجامعة وتنشر الصحف قصائده. تمرد على المحاماة مهنة أبيه وقرر العمل في السلك الديبلوماسي. ولا عجب في ذلك فالشعراء والفنانون متمردون بطبعهم . وكانت بنات العائلة يحلمن بالزواج منه. وكان نفس الحلم يراود زينة إذ كانت ترى في نفسها زوجة مثالية جديرة به متفوقة عليهن. وكبرت أحلامها و رأت نفسها حرماً للدبلوماسي الشاب الذي يتدرج في الوظيفة وتصبح معه حرماً للسفير وتلتقي بالسيدة الأولى في كل دولة يعين فيها و تشارك في الاعمال الخيرية مع نخبة سيدات المجتمع. لكنها كانت أضغاث أحلام فلم تبرح زينة جدران منزلها وكانت صدمة بنات العائلة وأخواتها حينما حادث والده من فرنسا يطلب خطبتها. كان متلهفاً على الارتباط بها حتى إنه لم ينتظر لحين عودته.
لم تكن هناك فترة خطوبة ولا حب ولا قبلات يختلسانها في خلاواتهما. ومرة أخرى يتسائل القارئ على ما هذه اللهفة والعجلة وهو لم يبد لها في أي وقت مضى دليلاً على اهتمامه بها.
تتسم البنية السردية في رواية “آخر المحظيات” بأنها تسير على خطى شهرذاد في ألف ليلة وليلة من حيث إنها تقدم لنا قصة داخل قصة تتحدث فيها كل شخصية عن نفسها. وتتجلى براعة البنية السردية عند سعاد سليمان في أنها تعود بنا بعد هذه التشعبات إلى القصة الإطار. فمثلاً حين يُعجب القارئ من سلوك رامي تجاه زينة وإصراره على إتمام الزواج بدون مقدمات ولا غرام ولا حتى شهر عسل ولا حب بعد الزواج عندئذ تحيلنا الكاتبة إلى الإطار الاجتماعي التاريخي الذي تدور فيه أحداث الرواية وكما يستشفه القارئ من الرسائل التي تتضمنها فأثناء إقامة رامي بباريس التقى ذات مرة في حدائق لوكسمبورغ بسيدة منهارة تنهمر دموعها على خديها وهي تجلس بين أشجار الحديقة فخطى نحوها. كان رامي ممسكاً بوردة بيضاء فمد يده إلى السيدة و أعطاها إياها فقبلتها منه. بدا وجهه مألوفاً لديها وتذكر أنهما كانا يلتقيان بالصدفة في شوارع وسط البلد في القاهرة. وكأن الحظ شاء أن يلتقيا في باريس لينتشلها من محنتها بعد أن طردها زوجها. ولكنها تفيق ذات صباح لتجد وداعه مكتوباً على ورقة وردة بجوار سريرها. لقد احتواها في أحضانه من برد باريس وبرد الوحدة والضياع اسبوعاً كاملاً وكانت نظراته المنبهرة بها تشعرها وكأنه لم يشاهد في حياته إمرأة سواها. طلبت منه أن يمنحها طفلاً يشعرها بالأمومة ولكنه رفض.وعاد إلى القاهرة.
أنهت كل شيء يربطها بالحياة في فرنسا و عادت إلى القاهرة تسبقها أحلامها بالعيش تحت سماء تعرفه.بحثت عنه طويلاً في حانات وسط البلد و أخيراً التقته. أذهلها فزعه حين نقرت أعلى كتفه ولكنها عرفت السبب حينما رات دبلة الزواج في إصبعه. ويقول لها إنه لا يستطيع قبول وجودها في حياته لأنه يحترم التزاماته نحو زوجته و إنه يكره الازدواجية. إذن هو يقبل هذه الازدواجية فكرياً ولئن يرفضها فعلاً.
وهدية – محظية باريس – تلقى مصير أمها المأسوي حين التقت بطبيب قلب ارستقراطي مشهور وظل حبها الأول و الأخير وعذابها الأبدي. أحبته و أنجبت منه ابنتها “هدية” لكن الطبيب الأرستقراطي أبى أن يتزوج أمها التي كانت تعمل ممرضة تحت إدارته. كانت شابة جميلة ذكية ذات جسم يجمع بين الجسم الأوروبي والوجه المختلط المصري والأوروبي وشعر أحمر طبيعي ونمش يملأ الوجه بجاذبية خاصة. وقد ورثت هدية جمال أمها وموهبة أبيها في الرسم الذي كانت تتعيش منه في باريس وكان سبب توطيد الصلة بينها وبين زوجها حسام. تخطى الطبيب الحاجز الاجتماعي و الطبقي حين حركت فيه الممرضة الحسناء (المريمية) كوامن الشغب. فكانت ثمرة العواطف الملتهبة الابنة هدية. كانت المريمية تراودها الأحلام بأنها ستتزوج هدايت الطبيب الارستقراطي وتدخل جنة جاردن سيتي وتركل بيت أهلها في السيدة زينب. واعتبر الدكتور ما حدث نزوة.واكتفى بأن عقد قرانه عليها .و أعقب ذلك شهادة الميلاد لابنة لم يرها ثم قسيمة الطلاق وضاع الحب الذي توهمته وتبددت الأحلام التي راودتها.
الكاتبة لا تقف عند حد مأساة زوجة اكتشفت بعد وفاة زوجها أنه كانت له عشيقة ربما حظيت معه بقدر كبير من السعادة التي حُرمت منها طيلة خمسة عشر عاماً ثم نالت حظها من التعاسة والشقاء بعد أن لفظها ليتزوج من فتاة تليق بمكانته الأدبية وطبقته الاجتماعية. ولكنها تنطلق في دهاليز التاريخ لتدلل على قدم جذور المشكلة.فالجدة الأولى نجمة صانعة سلالة المحظيات التعيسات يقولون إنها جاءت من البوسنة ولكن المريمية يختلط عليها الأمر فتارة تقول إنها من صربيا وأخرى إنها من مالطة اشتراها أحد بكوات المماليك من تجار الرقيق. ولكنه هرب مذعوراً عندما دقت مدافع الحملة الفرنسية فأصابها الذعر في بلد لا تعرف لغته ولا تفهم ما يدور حولها فتلقفتها سيدة جميلة وأسمتها نجمة وصارت عشيقة لعسكري فرنسي وفر لها الماكل و الملبس وترك لها قليلاً من المال وكثيراً من الحزن والألم. ووصمها الجبرتي في تاريخه بالعار لأنها أقامت علاقة مع الاحتلال.
بهذا التسلسل التاريخي المنطقي شبه الوثائقي تقودنا الكاتبة ببراعة وذكاء إلى جذور المشكلة الضاربة في تاريخنا الاجتماعي. المرأة تباع في أسواق النخاسة وتصير عشيقة أو محظية أو تصبح تعمل راقصة في المقاهي و الحانات أو تستجدي المحسنين أمام المساجد وفي الشوارع . فالمرأة دائماً تعيش تحت رحمة الأقدار. وتتكرر القصة المأسوية بأسماء جديدة لبنات يولدن محظيات عشن في أزمان مختلفة إلا أن مصائرهن تتشابه مع مصائر نجمة وهوى وهدية ومريمية وأخريات كثيرات.
بعد أن تلح الكاتبة على عرض تاريخ عبودية المرأة تعود بنا إلى القصة الإطار: رامي وزينة. فتقدم لنا رسالة يبدو أنها رد من رامي، ولأمر ما لم يبعثها إليها. وتكمن أهمية هذه الرسالة في أن شخصية رامي تتحدث بضمير الأنا. ولم تغفل الكاتبة جانب الشعر عند رامي إذ صدرتها بأبيات من قصيدة له يقر فيها بحبه لهدية و ألمه لإنكاره إياها ويعترف بتألم قلبه الذي ينزف من الصدأ وهي لا تكف عن نثر ملحها بابتعادها.
وكأن الكاتبة أرادت أن تبعث رامي حياً يتكلم عن نفسه حتى ينال نصيبه العادل بين باقي الشخصيات في عرض وجهة نظره. ولأن الرواية رسائلية فمن الطبيعي أن تعثر زينة على رسالة كتبها رامي تطلعنا بما يشبه المذكرات على عالم الرجل ومقومات شخصيته ومناحي سلوكه .كانت لرامي مشاعر وعواطف. يحب ويفرح ويتألم ويحزن. فرسائل هدية تضعه في مواجهة قاسية مع نفسه وتجعله يتساءل عن مواطن الخلل في سلوكه وخلو حياته من الفرحة وشعوره بالتعاسة رغم امتلاكه لكل مقومات الحياة الكريمة . كان طفلاً دللته أمه التي أفنت حياتها في الاهتمام به. ترك أبوه النجع في صعيد مصر بعد إتمام دراسته الثانوية. وأراد حسن أبو عبده جده أن يدخل ابنه عادل حسين أبو عبده كلية الحقوق ليحجز مكانه بين الوزراء. ومن ثم عاش أبو رامي في القاهرة حيث أسكنه أبوه في شارع القصر العيني المتاخم لجاردن سيتي، سكن الطبقة البرجوازية .وعاش حياة ماجنة ملؤها المغامرات التي لا تعد ولا تحصى متنقلاً بين حانات ومقاهي وسط البلد.ولم يحقق حلم والده في الوصول إلى كرسي الوزارة. المهم أنه بعد أن جاوز الثلاثين من عمره أمره أبوه بالزواج ولم يمنحه أي فرصة لإبداء الرأي وجاؤوا بفتاة لم تتجاوز السابعة عشر عاماً. وتمسك أبو رامي بحريته القصوى التي ربما زادت بعد الزواج بمشاركة ابن عمه تاجر الفاكهة جابر خليل أبو عبده ووالد زوجة رامي ،أو مع اصدقائه من الكتاب والشعراء او منفرداَ. ومن شابه أباه فما ظلم.
ومقابل هذا المجون والاستهتار يفاجئنا رامي بتناقض شخصيته. فرغم أنه متورط في حب هدية إلى حد الانتحار فإنه يرفض الزواج بها فقد أفزعته جرأتها وتحررها وبساطتها لأنه يخشى أن يجازف بعائلته التي قد تتهمه بجلب العار إليها إن هو تزوجها فهرب . وتكتشف زينة مظروفاً تلو آخر و تعرف المزيد عن عاشقة زوجها الفنانة هدية التي كرست له لوحاتها ومعارضها الفنية. وتكتشف أن العشيقة تعرف كل شيء عن حياتها الزوجية بأدق تفاصيلها.
لقد عرضت سعاد سليمان ثنائيات التضاد في العلاقة بين الرجل و المرأة فهي ظالمة ومظلومة. فزوج هدية دللته أمه وكانت تتدخل في أدق تفاصيل حياتهما الزوجية. لقد كرهت زوجة أبنها وألحت عليه أن يستخدم العنف معها فانتهى الزواج بالطلاق. وأم رامي قامت بالدور الذي رسمه لها المجتمع . حياة الزوجية شيء خلف الجدران أما الزوج فله حياته الخاصة التي يحيط بها ستار السرية والكتمان.
والقارئ لا يسعه إلا أن يعجب من أنه مع انتشار التعليم وشيوع الثقافة وقيام حركات تحرير المرأة والجمعيات النسائية و المجلس القومي للمرأة فإن المجتمع يرد المرأة إلى ما كانت عليه في عصر المماليك. كما بينت الكاتبة في تتبعها لوضع المرأة منذ أيام الجبرتي ونظرته التي تعد غاية في التزمت إذا ما قيست بنظرة رفاعة الطهطاوي الذي التزم لبنت خاله حين تزوجها في رسالة كتبها إليها “أن يبقى معها وحدها دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية أياً ما كانت ، كانت بنت خاله بمجرد العقد عليها خالصة بالثلاثة . كذلك إذا تمتع بجارية ملك يمين . ولكن وعدها وعداً صحيحاً لا ينتقض ولا ينحل مادامت معه على المحبة المعهودة مقيمة على الأمانة والحفظ لبيتها ولأولادها… ولا يتزوج بغيرها أصلاً ولا يتمتع بجوار أصلاً…..”.
لقد حقق الطهطاوي العدالة و المساواة للمرأة لكن المجتمع في عصره لم يتقبلها وعجزنا نحن عن تحقيق ذلك في مجتمعنا اليوم رغم مرور ما يقرب من قرنين، ورغم انتشار التعليم وحركات تحرير المرأة منذ زمن قاسم أمين.

إعلامي وباحث في الأدب العربي

www.deyaralnagab.com