هل يصلح المتدينون للسياسة؟
بقلم : د. فيصل القاسم ... 13.01.2024
علاقة الدين بالسياسة ليست جديدة، بل أشبعها الباحثون بحثاً منذ قرون، وانتهى الأمر بالدول المتقدمة إلى العمل بمقولة السيد المسيح الشهيرة: «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّهِ لِلّهِ». وكل الدول التي عملت بتلك المقولة تطورت وتقدمت على كل الأصعدة. حتى على الصعيد الأخلاقي، ازدهرت الأخلاق في البلدان العلمانية الحقيقية، بينما تدهورت في البلدان التي ما زالت ترفع شعارات دينية، والسبب طبعاً أن الله يزع بالسلطان (القانون) أكثر مما يزع بالقرآن. وهذا قول إسلامي أصلاً، فما فائدة أن تملأ الدنيا مواعظ دينية وأخلاقية بينما على أرض الواقع تتدهور الأخلاق يوماً بعد يوم.
أما في البلدان التي تحكم بسلطة القانون نجد أن الناس فيها أكثر التزاماً بالضوابط والمبادئ والأخلاق، لأن هناك قوانين صارمة تضبط حركة الشعوب والمجتمعات وتقوّمها قانونياً إذا اعوّجت. بعبارة أخرى، فإن الفصل بين الدين والسياسة كانت له فوائد سياسية واجتماعية ودينية أكبر بكثير من استخدامه واستغلاله في القضايا السياسية. وهذا طبعاً لا ينفي دور الدين في الحياة، بل فقط يحدد له مكانه ودوره ويبعده عن لوثة السياسة. وهناك جملة رائعة للشيخ الشعراوي تقول: «أتمنى أن يصل الدين إلى أهل السياسة، ولا يصل أهل الدين للسياسة». وهو بذلك يؤكد بطريقته على إبقاء الدين خارج الحلبة السياسية، فالدين يبقى نقياً حتى يدخل السياسة، فيتلوث بقذارتها. وقد قلنا مراراً إن رجل الدين يبقى «عذراء» حتى يدخل السياسة، فيفقد عذريته فوراً.
واليوم تعود مسألة الدين والسياسة مرة أخرى إلى المجال السياسي والإعلامي، بسبب إصرار البعض على إقحام الدين في السياسة وإلباس قضاياهم ثوباً دينياً. والأسوأ من ذلك، أن كثيرين مازالوا يعتقدون أن العقيدة الدينية دين ودنيا، بينما تؤكد التجارب التاريخية السياسية الناجحة منذ قرون أن ذلك قد يكون صحيحاً في حقبة تاريخية معينة، لكن العكس هو الصحيح منذ ظهور المجتمعات الحديثة وما فرضته من مستجدات كثيرة على عالمي السياسة والدين معاً. لهذا السبب كان الفشل والدمار مصير كل الأنظمة الدينية في العصر الحديث. ويكفي النظر فقط إلى نظام طالبان في أفغانستان الذي أصبح مضرباً للمثل في التخلف والديكتاتورية، لكن هذا لا يعني أن الأنظمة العسكرية أفضل حالاً، لا أبداً، فهي صنو الأنظمة الدينية الاستبدادية المتخلفة، والطرفان يستغلان بعضهما بعضاَ، ولا ننسى كيف تاجر السادات والقذافي وصدام والأسد بالدين لأغراض سلطوية ترويضية، فكانوا يفسحون المجال للمتدينين، بينما كانوا يقدمون أنفسهم كعلمانيين معادين للتدين.
وحتى في هذه النقطة كانوا مفضوحين، إذ لا يكفي أبداً أن تكون معادياً للمتدينين لتصبح علمانياً، فالعلمانية الحقيقية لا تعادي الأديان أصلاً، كما يفعل الجنرالات والطغاة العرب الذين يتشدقون بالعلمانية المزيفة زوراً وبهتاناً، بل تعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله. لهذا نعود لنؤكد اليوم أن أفضل الحلول للبدان العربية إبعاد المتدينين والعسكريين معاً عن الحلبة السياسية، لأنهما وجهان لعملة واحدة، واستفادا من بعضهما البعض كثيراً. وقد قال ديغول ذات يوم إنه حتى الحرب، وهي مجال العسكر، يجب ألا تتُرك للعسكريين وحدهم، فما بالك بالسياسة، وهي أهم وأخطر من الحرب بمرات. وكذلك الأمر بالنسبة للمتدينين، فهم لا شك مقاتلون أشداء، لأنهم يقاتلون بعقيدة وإيمان، ويمكن أن ينتصروا في الحروب، لكن هذا لا يعني أن يستلموا السلطة مطلقاً، فللحكم رجاله، وللمعارك مقاتلوها. ولا ننسى أن الشعب البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية لم يصوّت للقائد العسكري والسياسي الشهير وينستون تشيرتشل رغم انتصاره في الحرب على النازية، لأنه رأى وقتها أن تشيرتشل قد يكون صالحاً لزمن الحرب، لكنه ليس صالحاً لزمن السلم. وهذا ما يجب أن يُقال اليوم للمتدينين الذين يريدون الوصول إلى السلطة لمجرد أنهم يبلون بلاء حسناً في الحروب. وقد شاهدنا كيف استغلت قوى كثيرة المتدينين أو ما يسمى بالجهاديين في حروبها ومعاركها، كما فعلت أمريكا في أفغانستان، حيث نجح (مجاهدوها) بطرد السوفيات، لكنها تخلت عنهم بعدها ولاحقتهم كإرهابيين عندما تجاوزوا حدودهم وانتهى دورهم.
لا يمكن مطلقاً أن يصبح المتدينون (من كل الأديان) سياسيين مهما حاولوا، فهم محكومون في نهاية المطاف بعقائد دينية عدائية إقصائية استئصالية متزمتة ضيقة تتعامل مع الآخرين على أساس عقدي وحتى مذهبي وطائفي، وليس سياسيا، ومهما رفعت الأنظمة الدينية من شعارات ديمقراطية، فهي تبقى غير ديمقراطية، لأنها تنظر إلى الناس من منظور ديني ضيق، وتحاول أن تفرض على المجتمع نمطاً واحداً، وبعضها يتدخل أحياناً حتى في طول لحيتك. العسكري يمارس لعبة التخوين بحق معارضيه، والديني يلعب لعبة التكفير بحق مخالفيه. وأرجو ألا يستشهد أحد بالأحزاب الدينية التي تنافس على السلطة في إسرائيل وتشارك فيها وتفرض شروطها كما يفعل حزب بن غفير (القوة اليهودية). ولعل أسوأ فترة عاشتها إسرائيل في تاريخها هي فترة تسلط بن غفير وأمثاله على السلطة والسياسة، وانظر ماذا حققوا لإسرائيل من مصائب في حرب غزة كمثال حي. وكثيرون اليوم يعتقدون أن السياسة في إسرائيل تشهد أسوأ أوقاتها، وتنحدر بشكل سريع لأنها ابتليت بُحكم المتدينين الذين أصبحوا خطرين جداً، لا على العالم فحسب، بل على الإسرائيليين أنفسهم. لهذا في الختام، نعود ونكرر أن المتدينين من كل الأديان قد يصلحون للحرب، لكنهم بالتأكيد لا يصلحون للحُكم والسياسة.
www.deyaralnagab.com
|