logo
عن قانون أميركا الدولي!!
بقلم : عائشة البصري ... 14.03.2022

كثر الحديث، في السنوات الأخيرة، عن "النظام الدولي القائم على القواعد". وانتشر المصطلح عقب الغزو الأميركي للعراق، وشاع استعماله هذه الأيام في خطابات إدارة الرئيس جو بايدن وحلفائها الغربيين وتصريحاتهم. أصبح هذا المصطلح الأكثر انتشارا هذه الأيام في المحافل والمنظمات الدولية، بما فيها الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي، ومجلس الأمن والجمعية العامة. ويبدو أن هناك حدّا أدنى من التفاهم بشأن معنى هذا النظام وقواعده، في الدوائر الدبلوماسية على الأقل، بينما يجتهد علماء السياسة والخبراء القانونيون والصحافيون في فكّ شفرته، خصوصا أن واشنطن وحلفاءها يتّهمون الصين وروسيا بانتهاكه.
في أول لقاء له مع مدير مكتب لجنة الشؤون الخارجية الصيني، يانغ جيشي، في ربيع 2021، استهلّ وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، خطابه بالتأكيد على أنّ النظام القائم على القواعد، والذي تسعى إدارته إلى تعزيزه، ليس فكرة مجرّدة، بل هو نظام يساعد بلدان العالم على حلّ خلافاتها سلميا، وتنسيق جهودها بشكل فعّال، والمشاركة في التجارة العالمية. وفي ذلك تأكيد على أن الجميع يتّبع القواعد نفسها. ثم راح ينتقد سياسات الصين في شينجيانغ وهونغ كونغ وتايوان، والهجمات الإلكترونية التي تتعرّض لها بلاده، والإكراهات الاقتصادية التي يخضع لها حلفاء واشنطن، والتي تشكّل جميعها تهديدا للنظام الدولي القائم على القواعد الذي يحافظ على الاستقرار العالمي.
على غير عادته، لم يتسم جواب جيتشي بكثير من اللباقة الدبلوماسية، إذ ذكّره بأن أميركا والعالم الغربي لا يمثلان الرأي العام العالمي، ولا يمثلان العالم بالأساس، وأن الصين والمجتمع الدولي عامة ملتزمون بالنظام الذي تجسّده الأمم المتحدة والقائم على القانون الدولي، على خلاف ما يدافع عنه عدد بسيط من الدول التي تتّبع ما تطلق عليه اسم "النظام الدولي القائم على القواعد". وأضاف إن الغالبية العظمى من الدول لن تعترف بقواعد وضعها قلة من الأشخاص أساسا لنظام دولي.
*يسود القانون الدولي حين تلتزم الدول بقاعدة من قواعد القانون الدولي، وتنضم إلى اتفاقيات ومعاهدات دولية
وردّد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الانتقادات ذاتها في عدّة خطابات ومقالات، بما فيها مقال بعنوان "القانون، الحقوق والقواعد"، نُشر له في صيف 2021، كتب فيه إن الغرب يتعمّد تجنّب توضيح القواعد التي يزعم اتباعها، والغاية من وجودها، في وقت توجد آلاف الصكوك القانونية الدولية. وفي خطابٍ ألقاه أمام جلسة لمجلس الأمن في 7 مايو/ أيار من السنة نفسها، قال لافروف إنه، بدلاً من قبول قواعد القانون الدولي، طوّرت أميركا وحلفاؤها قواعد أخرى في دوائر مغلقة وحصرية، كي يفرضوها على العالم.
ويتفق مع كل من جيشي ولافروف خبراء قانونيون عديدون، قلقون من الإرباك الذي أصبح يُحدثه حديث واشنطن وحلفائها عن نظام دولي قائم على القواعد، خصوصا حين استعماله مرادفا للقانون الدولي. على عكس هذه القواعد المُبهمة، يسود القانون الدولي حين تلتزم الدول بقاعدة من قواعد القانون الدولي، وتنضم إلى اتفاقيات ومعاهدات دولية، وتودع صكوك انضمامها لدى الأمين العام للأمم المتحدة، على أمل أن تلتزم بتطبيقها. ولعلّ أكبر معضلة تواجه سيادة القانون الدولي تكمن في خروج القوى العظمى عنه، وفي مقدمتها أميركا التي ترفض الانضمام إلى اتفاقيات دولية مصيرية، تخصّ قضايا تؤرّق شعوب العالم.
ومن أشهر المعاهدات الدولية التي ترفض واشنطن الانضمام إليها: معاهدة الأمم المتحدة لحظر الأسلحة النووية، معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، معاهدة تجارة الأسلحة، اتفاقية الذخائر العنقودية واتفاقية الألغام الأرضية المضادة للأفراد. وفضّلت أيضا أن تظلّ خارج نظام العدالة الدولية، برفضها الانضمام لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بل وفرضت على كبار موظفي هذه المنظمة عقوبات تم رفعها لاحقا، وتعتمد منذ عام 2002 قانونا يُجيز للقوات الأميركية غزو لاهاي، المدينة الهولندية التي تستضيف مقرّ المحكمة، إن تجرّأت على مساءلة الجنود الأميركيين. وتغيب واشنطن عن أهمّ اتفاقيات حقوق الإنسان التي صدّقت عليها دول مثل كوريا الشمالية والسعودية وزيمبابوي، بما فيها اتفاقية حقوق الطفل واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
*أصبحت حرب روسيا على أوكرانيا أفضل مثالٍ على عقوبات أحادية مدمّرة، صمّمتها واشنطن بعناية فائقة
تجاهُل واشنطن القانون الدولي وإعاقتها سيادة نظامه يُفقدها الحد الأدنى من المصداقية، خصوصا حين تحاول أن تبرّر سياساتها الخارجية برغبتها في الدفاع عن القانون الدولي. ولقد عرّضت إدارة بايدن نفسها لسخرية بالغة حين اتهمت الصين بانتهاكها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، في بحر الصين الجنوبي، مع العلم أن أميركا ليست طرفا في الاتفاقية، ولا تبدي رغبة في الانضمام إليها. ولعلّ هذا ما يفسّر إلى حد كبير توجّهها نحو "القواعد" بدلا من القانون الذي تخترقه حتى عندما تنضمّ للاتفاقات الدولية.
لكن الخطاب الغربي الجديد عن "النظام القائم على القواعد" ودفاعه المستميت عنه، يصطدم بغموض شبّهه الأكاديمي البريطاني باتريك بورتر بـ"مصارعة الضباب"، ويعود ذلك بالأساس إلى عدم وجود مرجع قانوني للمصطلح. إذ إنه لم يرد في ميثاق الأمم المتحدة، ولا وجود له، بعد، في قواميس المحاكم الدولية، أو قرارات مجلس الأمن، حيث ما زال الاعتقاد، نظريا على الأقل، بوجود نظام قائم على سيادة القانون الدولي. ولا تمنع هلامية هذا المصطلح أنه يبدو أن هناك، من طوكيو وسيدني إلى باريس وواشنطن مرورا بتل أبيب، اتفاقا ما بشأن وجود قواعد وضعتها واشنطن أو قد تضعها مستقبلا، بصفتها القوة العظمى بلا منازع، وغالبا ما تخدم هذه القواعد مصالح الدّول التي تدور في فلكها. وعليه، ينبغي على باقي الدول، كبيرة كانت أم صغيرة، أن تمتثل لها إن شاءت أن تقي نفسها شرّ عواقب تحدّي العمّ سام، أو بالأحرى عقوباته. ولقد أصبحت حرب روسيا على أوكرانيا أفضل مثالٍ على عقوبات أحادية مدمّرة، صمّمتها واشنطن بعناية فائقة، وشارك حلفاؤها في فرض معظمها، في رسالةٍ واضحةٍ إلى الصين وبقية العالم، تذكّر بمقولة ردّدها بايدن: "الرهان ضد أميركا ليس رهانا جيدا".
ويرى الأكاديمي الكوري الجنوبي، كي جي نوه، أن ما تحاول واشنطن القيام به هو تحويل القوانين التي يسنّها الكونغرس الأميركي إلى قانون دولي، يسري على الدول التي لا تحترم قواعدها وتهدّد مصالحها. ويساعد على تدويل القوانين الأميركية، وفرض عقوبات أحادية تؤثر سلبا على حوالي ثلث سكان العالم، حسب تقديره، كلّ من مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC)، وعدد من المحاكم الأميركية، بالإضافة إلى نظام سويفت المالي الذي تحوّل بدوره إلى سلاح من أسلحة الدّمار الاقتصادي الشامل.
ويتفق نوه مع خبراء قانونيين في أن العقوبات الأحادية تشكّل انتهاكًا للقانون الدولي، وأن "النظام الدولي القائم على القواعد" هو في الواقع فوضى قانونية، وأنه ليس دوليا على الإطلاق، وأن دائرة الدول الرّافضة لقواعد واشنطن آخذة في الاتّساع. ولعلّ في صرخة حليفها التقليدي، الرئيس الباكستاني، عمران خان، في وجه الضغوط الغربية لإدانة روسيا، "لسنا عبيدا لكم"، مؤشّرا بأن عهدا جديدا قد بدأ، يشهد أزمة ثقة في أميركا ونظامها وقواعدها، أو ما يمكن أن نسميه "قانون أميركا الدولي".
*المصدر : العربي الجديد


www.deyaralnagab.com