قرية أشباح لبنانيّة: مات سكانها في عرض البحر هل سمعتم بقرية الأشباح؟!
بقلم : مريم مشتاوي ... 14.01.2021
هناك فوق تلة بعيدة. وحيدة. ملتفة حول نفسها حيث تتكاثر الرياح، وترقص بمفردها في الحقول. تعقد يديها الطويلتين حول أعناق الشجر. تشدها بقوة. تهزها بجنون. تعنّف أطرافها. فتحني رؤوسها منكسرة فوق ظلالها الشاحبة.
في قرية الأشباح ليل متمدد ينقر بأصابعه على أطراف شبابيك منسية منذ زمن طويل. زمن لا يشبه سكانه. ربما يعود للحرب العالمية الأولى.
شبابيك قرية الأشباح مفتوحة على أسرار أصحابها. على ثرثراتهم الماضية. على ظلم أطفأ القناديل العتيقة فاحتشد فيها سواد يتسحب عند المساء ويتكاثر في الزواريب ليزيد من ضيقها ضيقاً.
الفجر؟ لا تسألوني عن فجر تلك القرية.
لا أحد يعرفه. قيل إنه هرب مع السكان وركب معهم باخرة متجهة إلى المكسيك. لكنه تاه معهم في عرض البحر.
اليوم، لا طريق تصل إليها. وكأنها وقعت يوماً على غفلة من الفجر وسط الحقول واختبأت هناك في مكان لا تراه الشمس.
لا.. لست أهذي.
إنها ضيعة بجرين اللبنانية. ضيعة صغيرة تقع في قضاء جبيل. هناك تتكلم الحجارة. تصرخ بأوجاع سكانها. تعرق من شدة الشوق إلى أحبة مضوا ولم تبق منهم سوى خطوات منسية يسميها البعض أشباحاً. فيها بئر عميق. لا ماء فيه. بل دموع معتقة تقاطرت من وجوه متعبة.
تمشي على صخورها فتتعثر بمدافن محفورة في الأرض. لا زهر عليها ولا صلوات. مدافن وحيدة يخرج أمواتها كل ليلة باحثين عن أحبابهم ويعودون مهزومين إلى مثواهم الأخير. فهزيمة فراق الأحبة أقوى بكثير من هزيمة الموت.
يقال إن سكان الضيعة هجروها سنة 1915، أي منذ أكثر من مئة سنة. لقد وضعهم الجوع والحصار والظلم أمام خيارين: إما الموت أو الهجرة.
في ليلة من ليالي الشتاء الباردة اجتمعوا تحت سقف ساحة كنيسة مار الياس وجلسوا حول حلقة كبيرة من نار. في تلك الليلة قرروا الهجرة معاً. وفي اليوم التالي استيقظوا فجراً. جمعوا أغراضهم وأقفلوا أبواب منازلهم على أمل أن يعودوا يوماً إلى قريتهم.
ركبوا السفينة. ومن يومها لا أحد يعرف عنهم أي شيء.
بجرين اليوم خالية تماماً. لا أحياء فيها. ولكن أمواتها لا يملون أبداً من البحث عن وجوه أهلهم وأصدقائهم وجيرانهم.
يقال إن هناك عاشقا استفاق من موته وراح يدور في الحقول ويصرخ بملء صوته «سلمى».
هو ناسك أو راهب أو جثة نابضة بالحب. لا أعرف. ولكنه تغلّب بعشقه على الموت.
كل قرية يهجرها أبناؤها تسمى بقرية الأشباح. ربما بفعل التعلق بالأرض. فلا أحد يغادر أرضه ووطنه من غير أن يترك فيها شيئاً من روحه. تلك الأرواح هي التي تخرج باحثة عن أجسادها.
*الطاغية
بجرين تابعة لشيخ يدعى كاثدراجي نعمي. كان يملك تلك الضيعة وضيعا كثيرة حولها. كان رجلاً غنياً جداً وقبيحاً جداً يعجز الشر عن وصفه. لقد جعل من سكان الضيعة عبيده. يعملون ليل نهار. في عز الصيف وزمهرير الشتاء ولا يعترضون بفعل الخوف. فهم لا يملكون حق الاعتراض أو حتى التعب. كانوا يفلحون الأرض ويزرعونها بالقمح والخضروات.
أما ذلك الديكتاتور فكان يملك أيضاً حارة جعل منها كلها بيتاً له. يقف على شرفة منزله يراقب العمال في ضيعة بجرين.
قيل إنه كان يضع جواسيس على العمال من ضيعة أخرى مجاورة لبجرين. ليعلم من يعمل بجهد ومن توقف ولو للحظات عن العمل. عندها يأمر رجاله بدفن العامل حياً في نفس المكان الذي يقف فيه!
يحكى أيضاً أن راعياً كان يمر مع ماشيته من تلك الضيعة بعد أن هجرها وسمع أصوات الغائبين. رأى أشياءهم تتحرك كما لو كانوا ما زالوا موجودين في بيوتهم. مرة رأى سطلاً يُملؤ بالماء ثم يمشي بمفرده نحو بيت لا سقف له لتخرج من شبابيك البيت رشفات عالية توحي بأن سكان البيت كانوا عطاشى.
وكان يرى جرس الكنيسة يدق على رأس التلة. ولا أحد يشد حباله.
إنها كنيسة «مار الياس» التي ما زالت موجودة حتى الساعة.
أما شجر الخروب فكانت محاصيله تجمع نفسها بنفسها وتجلس في سلال متفرقة على الأرض لتصيب ذلك الراعي بالذهول.
لقد عاش أهل بجرين بسلام لمئات السنين قبل مجيء الطاغية واستيلائه على أراضيهم. كانوا يعتاشون من زراعة الحبوب وزراعة التبغ. ما زالت هناك بيادر من القمح.
اليوم تمشي في حقول القرية فتتعثر بقطع من الفخار مكسرة لطالما استخدمها الأهالي قبل هجرتهم. قطع ٌلو جمعتها لأعدت ترتيب الماضي بفصوله المضيئة والمظلمة كلها.
نجد جرناً أبيض من حجر قديم ينادي على عنب الماضي. لقد كان السكان يضعون فيه محاصيل عنبهم ويدوسونها بأرجلهم لينزلق العصير في جرن آخر ملاصق له.
كل السقوف المسطحة في القرية هبطت. ربما بفعل الحزن على أصحابها. ما عدى تلك التي عقدت قناطرها للقاءات أحبة فرقهم ظلم طاغية.
عرضت قناة «أم تي في» اللبنانية منذ أيام قليلة رويورتاح عن هذه الضيعة المهجورة لتلقى ضجة كبيرة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي. منهم من انتقد القناة، متهماً إياها بتلفيق أخبار كاذبة طالباً منها التحقق من أولاد المنطقة وأصحاب الأراضي.
وعلق واحد منهم بحدة قائلاً:
«مع احترامي لمحطة «أم تي في» ولكل مشاهدي هذا الفيديو.أنا كإبن بلدة «غرفين» لا ولن أسمح بالقول عن رجل من رجال بلدتي ديكتاتوري. فمن أنتم؟ ومن هو الذي أخبركم بذلك؟ وأين حكم القاضي، الذي استحصلتم عليه لتصفونه بما وصفتهم؟
«بجرين» بوقتها أي خلال حقبة الحكم العثماني كانت ملك أهلها وليست لمن وصفتموه بالديكتاتوري.
80 بالمئة من معلوماتكم خاطئة».
كما كتب أحدهم: «على فكرة عادة الحكومات في الشرق الأوسط تنشر إشاعات عن مناطق بهدف نهب أو تهريب أو تمرير شيء غير قانوني، عندنا بسوريا مرة قالوا لنا في زلزال. كل الناس تركت البيوت. طلع عبد الحليم خدام أخذ نفايات نووية ليدفنها في تدمر. في العراق أسطورة «أبو الطابور» الساطور يعني كمان شغل مخابرات. لك عندا بسوريا في درعا تحديداً بيقولولك كل الأراضي مرصودة وبتروح بتشوف كل آثارنا هربها باعها حافظ ورفعت لأوروبا. الدعاية المخابراتية دائماً حاضرة شوف بكرا بيكون شي مسؤول بدو يحفر الضيعة وياخذ أثاراتها»!
تبقى كل القصص مشرعة على خيالات أصحابها. وتبقى بجرين أسطورة في قلب أرض نحبها وكم نتمنى العودة إلى أحضانها. إلا أن الطبقة السياسية الفاسدة تصر على صد الأبواب.
طاغية من الماضي تجرأ وشرّد سكان قرية وطغاة اليوم يعملون «بجهد» لتشريد أبناء الوطن كلهم!
٭ كاتبة من لبنان..**المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|