نساء الصعيد يروين حكايات لم يسمع بها أحد من قبل!!
بقلم : الديار ... 04.03.2017
قدمت لنا الكثير من الأعمال السينمائية والدرامية والروائية عوالم الصعيد المصري بلهجته وسكانه وتقاليدهم، وتفاصيل كثيرة عنه بات يحفظها القاصي والداني، لكن قليلا من الأعمال التي تتناول الصعيد تنجح في نقل حقيقته، حقيقته التي لا يملكها غير نسائه وأهله.
القاهرة – غلاف أسود ووجه امرأة متشحة بالسواد ملتحفة بغطاء رأس أبيض، تاركة جديلتها الطويلة تتدلى من أسفله على جانب الرقبة، وقد ارتسمت على وجهها نظرة تأمل تعكس الكثير مما يجول في النفس، هكذا هو غلاف كتاب “الصعيد في بوح نسائه”، يقحم من يراه في جو من الخيال قبل أن يفتحه.
من الوهلة الأولى يجذبنا كتاب “الصعيد في بوح نسائه” للكاتبة المصرية الشابة سلمى أنور ويفرض علينا الاهتمام به. ويطرح الكتاب على مدى 236 صفحة موضوعا شديد الجرأة قلما نجده في الكتابات التي تتطرق إلى الزاوية التي تناولتها الكاتبة.
ما كتم في الصدور
يقتحم الكتاب منطقة الصعيد المصرية من أكثر أركانها كتمانا لخوالج النفس ألا وهي النساء. حيث تعتمد فكرته على طرح سلسلة من المقالات أو الحكايات التي نشرتها سلمى أنور عن الجنوب المصري في عيون المرأة الصعيدية على موقع “مصريات”، وقامت بجمعها في كتاب، مع إضافة المزيد من الحكايات.
في الإهداء توجه الكاتبة كلامها لصعيدية تدعى نفيسة، ليتحول الإهداء إلى “النفيسات” الأخريات في أرجاء الصعيد، في دلالة مزدوجة للمرأة الصعيدية بوجه عام، أيا كان اسمها وما تكنه من هموم مكتومة تجعلها “نفيسة الجوهر”.
تتحدث سلمى أنور في المقدمة عن مجتمع الجنوب وكيف أن التلفزيون الـ”قاهري الهوى”، في دلالة على ميل التلفزيون لتقديم مواد مرتبطة بالمدن الكبيرة وأهلها، لم يفلح في نقل صورة واقعية عن الصعيد. وحتى الأعمال الدرامية التي نجحت في نقل واقع صعيد مصر بما يرقى إلى الدقة قليلة جدا، كما ترى الكاتبة، إذ تتحدث الكاتبة عن المجتمع الصعيدي شديد التحفظ المدافع بشراسة عن تقاليده وسماته حتى أن هناك تشابها كبيرا بين مجتمع الصعيد في مطلع القرن العشرين ومجتمع الصعيد المعاصر.
في مقدمة كتابها تروي الكاتبة كيف أنها واجهت ممانعة كبيرة من قبل نساء الصعيد في البوح بمكنون صدورهن “للغريبة البحراوية” كما وصفنها. لكنها تمكنت من دخول أعماقهن واقتناص بوحهن، وحرصت في ذلك على حجب أسمائهن واستخدام أسماء مستعارة.
رغم رصده للكثير من تفاصيل واقع المرأة الصعيدية الصعب، لا يغفل الكتاب الإشارة إلى مكانة المرأة الصعيدية وكيف أنها في الكثير من الأحيان تلعب دور نازع الفتيل بحكمتها وحسن تصرفها، وهو ما منع أزمات عضالا، مثلما فعلت مزيونة التي صارت حكايتها تروى على مر الأجيال.
وجع نسائي
ينقسم كتاب “الصعيد في بوح نسائه” إلى جزأين؛ يحمل الأول عنوان “حكايات النساء في مجالس النساء” وفيه تقص الكاتبة روايات النساء الصعيديات خاصة ما يتعلق بحياتهن الخاصة وتفاصيلها، فكان سرد الحكايات بأسلوب سهل سلس متراوحا في لغته بين فصحى حينا والاقتباس المباشر بالعامية المحلية حينا آخر.
حكايات مخفية
وبين حكاية ورد ذات السبعة عشر عاما التي تحلم باستكمال دراستها وتطمح في حياة مختلفة عن قريناتها ونهر التي تحكي عن جدتها حميدة المتعطرة دائما، وعزيزة التي لم تجرؤ على لقاء الكاتبة بنفسها بسبب القيود التي تفرضها أسرتها، لذا تحدثها خلسة ليلا عبر هاتف تخفيه، جاء الجزء الأول زاخرا ببوح نساء وفتيات من أعمار مختلفة وخلفيات متباينة بما يعشنه وما يطمحن إليه في حكايات تمتزج فيها القسوة بالحلم بالأفضل.
ويحمل البوح وجعا نسائيا خالصا في مجتمع محافظ تكبل قيوده المرأة التي تتكيف بصلابتها وحسن تدبيرها، وبأسلوب يمس وجدان القارئ ويقرب إليه الصورة كثيرا، حتى تبدو وكأنها واقع مرئي وملموس، وزاد من هذه الواقعية التجاء أنور إلى الاقتباس المباشر من النساء بلهجتهن الصعيدية المميزة.
في إحدى الحكايات التي تقصها الكاتبة تروي نواعم كيف علمت أن زوجها وأبا أبنائها الأربعة يهاتف صديقة عمرها فيهامسها ويدللها بما لم تعهده منه هي نفسها من عبارات الغزل والهوى. وحين واجهته لم ينكر بل زاد في إحراق قلبها بأن أكد أنه سيتزوج عشيقته، ونكاية فيها سيتزوجها على “خشب أوضة نومها”، أي على نفس سريرها، ثم بدأ أمام عينيها الباكيتين في فك دولاب غرفة نومهما ليهديه لعشيقته وعروسه المقبلة.
وتحكي كيف اتصلت بخالتها لأن أمها لا تملك شخصية تمكنها من مواجهة هذا الأمر، وهنا تتغير ملامح القصة لتنقل صورة أخرى عن المرأة الصعيدية غير صورة المنكسرة والضعيفة والمغلوبة على أمرها، فالخالة تصفها نواعم بأنها “ممتلئة وقوية، عندما تقف تسد عين الشمش”.
إلى جانب خيانات الزوج تتنوع هموم الصعيديات ما بين العنوسة والزواج التعيس هربا من مجتمع لا يعتبر المرأة كاملة إلا بزواجها وإنجابها الذكور وفتيات يحملن في قلوبهن الغضة أحلاما ربما تبدو مستحيلة في عالمهن المغلق وشديد الصرامة.
يرصد الجزء الثاني من الكتاب الذي يحمل عنوان “حكايات الصعيد التي لا يملكها أحد” سمات اجتماعية متنوعة ومميزة، لا توجد خارج مجتمع الصعيد.
تتواصل الحكايات على ألسنة النساء أيضا، وتورد أنور في هذا الجزء قصصا عن عالم السحر والأعمال السفلية ونظرة المجتمع إلى المصابين باضطرابات عقلية وتعامله مع الحسد والأشباح وحتى “الغولة”. كما تتطرق إلى طقوس الصعيد في مناسبات مثل الزواج والوفاة والولادة والختان، ولا تخلو نصوص هذا الجزء من بعض الأغاني الصعيدية المميزة التي يصدح بها الأهالي في هذه المناسبات.
يوثق “الصعيد في بوح نسائه” تراثا يتواتر شفهيا في المعتاد ومن ثم يكون عرضة للضياع بمرور الزمن. وقد استغرق جمع حكاياته عاما كاملا. وصدر لسلمى أنور من قبل رواية “نابروجادا”، وكتاب “الله.. الوطن.. أما نشوف”، وديوان “سأعيد طروادة إلى أهلها ثم أحبك”.
المصدر : العرب
www.deyaralnagab.com
|