الصفقة أم حربُ الاستنزاف؟!
بقلم : سهيل كيوان ... 01.02.2024
هنالك أصوات إسرائيلية تطالب بإتمام صفقة التبادل المقترحة لتحرير الأسرى الإسرائيليين وإنقاذهم قبل فوات الأوان، مقابل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، وحجّتهم أن إسرائيل قادرة على إعادة اعتقال الفلسطينيين مرّة أخرى، وهو ما يحدث عادة إذ يعاد اعتقال الأسرى المحرّرين لأتفه الأسباب، أو حتى قتلهم!
إسرائيل لن تعدَم حُجّة لنقض أي التزام توقّع عليه، فهي صاحبة تاريخ في هذا، وقد تنصّلت من اتفاقات أوسلو واتّهمت حتى محمود عباس وجهاز التعليم والإعلام الفلسطيني بدعم الإرهاب، لتبرير ضم الأرض الفلسطينية والتنصُّل من التزاماتها في اتفاق أوسلو، رغم ظُلمه وإجحافه.
كذلك فهي لا تعدم تفهُّما من الدول الكبرى الداعمة مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرها، ولن تعدم اكتفاء المسؤولين الدوليين والعَرب بالتعبير عن قلقهم من «تعثّر مسيرة السّلام»! نتنياهو يدرك أنَّ الصفقة تعني فشله، رغم الدّمار الهائل غير المسبوق ومقتلة الإبادة المُعلنة والمحاكمة الدّولية التي ستكون وصمة تاريخية، تحمل في عمقها الكثير من الإشارات، ولو من بعيد جداً، إلى مستقبل شبيه بما حدث في جنوب افريقيا، الصفقة تعني أنَّ المقاومة نجحت في الصمود أمام أضخم آلة عسكرية في المنطقة، مدعومة بآلة الدمار الأمريكية الأحدث في العالم.
الصفقة مخزية لنتنياهو وحلفائه الدوليين والعرب، لأنّ صمود المقاومة يأتي بعد حصار طويل، واحتلال فعلي للقطاع منذ عام 1967، والمُخزي أكثر هو أنّ سلاح المقاومة من الصناعات المحلّية، ويجري تصنيع الكثير منه من مخلفات جيش الاحتلال والقنابل والصواريخ، التي لم تنفجر وفاضت عن حاجة القتل والتدمير، ويجري هذا خِلسة، وتحت رقابة طائرات استطلاع وأجهزة تجسّس غاية في التطوّر! المقاومة ليست مدعومة لا من روسيا ولا من أوروبا أو الصين، وحتى مِصر العربيّة، الجارة الباب بالباب، شدّدت الحصار عليها منذ انقلاب عبد الفتاح السيسي على السُّلطة، وحلوله رئيساً مكان الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي. الصّفقة تضع النرجسية الاستعلائية عند نتنياهو ومن يؤمنون به وبطريقه في وضع مُحرج ومُخجل، فكيف لهؤلاء الفقراء شبه العزّل خرّيجي سجون إسرائيل، أن يتَحدّوا وأن يصمدوا وأن يفرضوا شروطاً بعد كل هذا الدمار والقَتْل. إذا وُقعت الصفقة وهذا على الأرجح ما سيحدث، فهي تأتي بعد تلقين أجيال من الإسرائيليين بأنّ العرب جبناء يفرُّون كالأرانب والفئران من المواجهة، وأنّهم مثل الغزلان في الفرار، ولا لغة يفهمونها سوى لغة الحديد والنار، ومفهوم ضمنا أنهم أغبياء، بل مضروب المثل بغبائهم وقذارتهم، والشتيمة العبرية الأكثر شعبية هي «عربي قذر»! فكيف لهؤلاء الجبناء الأغبياء، القذرين الحفاة أن يصنعوا سلاحاً بسيطاً يتحدى الميركافا الهائلة ذات الهيبة العالمية، وكيف للجبناء أن يبدعوا في القتال شيئاً اسمه المسافة صفرـ مُعظم الإسرائيليين محرومون من مشاهدة العمليات والأشرطة التي تنشرها كتائب القسّام، لأنّ الرقابة العسكرية تمنع النشر بما في ذلك رسائل الأسرى، كما يبدو خشية أن يؤثّر هذا على الرُّوح المعنوية – فكيف للزعيم القادر على كل شيء أن يوقّع اتفاقاً مع سجين أمني سابق محاصر ورأسه مطلوب منذ سنين، ويقيم تحت الأرض، في مكان لا تراه الشّمس ولا عواصم تستقبله، بل تتآمر عليه! الاتفاق يعني أنّه بعد حوالي 120 يوما من القتال لم ينجح في تحرير أسير واحد بالقوة، وللمقارنة فإن أطول حرب خاضتها إسرائيل كانت عام 2006 مع حزب الله استغرقت 34 يوماً، وحرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973 التي استمرت 18 يوماً فقط.
ورغم الوقت المفتوح الذي منحه إياه أصدقاؤه من العَجم والعرب للقضاء على المقاومة وتحرير الرهائن، لم ينجح، الصفقة تعني أن حماس سترجع لتدير الحياة اليومية للناس المنكوبين، وسوف تبدأ باستعادة قوّتها التي فقدتها وتنظيم نفسها من جديد، وستكون هذه الحَرب نقطة تحوّل في الصِّراع الفلسطيني الإسرائيلي مهما كانت نتائجها! وذلك لأنّها قالت بقوّة إنَّ تجاهل حل القضية الفلسطينية لا يعني السّلام لإسرائيل والمنطقة وحتى العالم.
الخيارات صعبة جداً لإسرائيل، ولكنّها ليست أقل صعوبة للفلسطينيين، فميزان القوى المختل جداً والحصار وتجويع الناس ليس أمراً سهلاً. الفرق هو أنّ الجانب الفلسطيني مؤمن بأنّها حرب وجود مفروضة عليه، وأنّه يدافعُ عن نفسه، وبأنّه يتعرَّض إلى ظلم تاريخي، ولا خيارات أمامه! كذلك فإن للفلسطينيين قدرة على استيعاب أكبرَ للتّضحيات لأسباب تتعلق بعقيدتهم أوّلا، ولقناعتهم بأنّ هذا الوطن وطنهم، ولا بديل عنه، وينظرون إليه نظرة دينية وتاريخية تحول دون القبول بفقدانه، وارتباطهم به لا يقاس بما يربحونه في آخر الشّهر! إنه ارتباط نفسي يدخل في بناء الشّخصية الفلسطينية! إضافة إلى أنّ أكثر سكان قطاع غزة هم من اللاجئين، يطالبون بحلٍ لقضيتهم، فهم يعيشون في المنطقة الأكثر اكتظاظاً في العالم، بينما على بعد كيلومترات قليلة منهم، كانت قراهم ومدنهم ومدن أهلهم، وما زال أكثرهم يحلم بتحقيق العدل كما يتصوّره، وبأن يعيش كبقية شعوب الأرض في دولته وكيانه المستقل، أو الجهاد إلى يوم الدين!
في المهرجان الذي أقيم في مباني الأمة في القدس الغربية يوم الاثنين الماضي، بمشاركة اثني عشر وزيراً وعددٍ كبير من أعضاء الكنيست، دعوا إلى إعادة الاستيطان في قطاع غزة، وإلى تهجير السُّكان وطالبوا الدُّول المعنية بالسّلام أن تستقبلهم، وهدّدوا نتنياهو بإسقاط حكومته إذا قبِل بالصفقة المقترحة. وفي ردّه كذّب نتنياهو الأخبار المتداولة حول موافقته على الصفقة وقال إنه لن يوقف القتال ولن ينسحب من قطاع غزة، واعتبر ما قاله أعضاء حكومته عن التهجير والإبادة حرية تعبير. وكان وزير خارجيته يسرائيل كاتس قد دعا إلى إقامة جزيرة صناعية في البحر، ونقل سكان قطاع غزة إليها، وهذا أيضا ضمن حرّية التعبير، ولكن ما يجري حقيقة على الأرض هو تهجير بقوة السّلاح. عدم إتمام الصفقة سيحوّل الحرب إلى حرب استنزاف طويلة وشعبية، حتى لو استشهد قادتها الذين يبحث الاحتلال عن صورة نصر في قتلهم مثل يحيى السّنوار ومحمد ضيف ومروان عيسى وغيرهم! هؤلاء يعرفون أنّهم مشاريع شهادة، سواء كانوا داخل أنفاق غزَّة أو في مصر أو قطر أو سوريا أو بيروت، ولهذا فإن الدعوة إلى خروجهم إلى مصر، أو أي دولة عربية ضمن صفقة، كما حصل في بيروت مع الراحل عرفات هي أوهام، لأنَّ ياسر عرفات خرج من بيروت التي لم تكن وطنه أصلاً، بينما تعيش مقاومة غزة على أرضها بين أبناء شعبها وبين أسرهم. فإما الصَّفقة لوقف القتال والتقاط الأنفاس وإنقاذ الأسرى من الطّرفين، حتى الجولة المقبلة بعد بضع سنوات، وإما حرب استنزاف مستمرّة وطويلة لا أحد يعرف كم ستستمر وماذا ستحمل معها للمنطقة كلها!!
www.deyaralnagab.com
|