جيل كيبل: عن العباءة و«الخطر الإسلامي»!!
بقلم : د. مدى الفاتح ... 19.09.2023
يتوزع الجدل المرتبط بحظر العباءة للتلميذات في المدارس الفرنسية، ما بين السياسي والقانوني والفلسفي، يتشابك كل ذلك طارحاً أسئلة حول ما إذا كان منع هذا النوع من اللباس يدخل في إطار التضييق الديني، أو ما إذا كان قانون منع إظهار الرموز الدينية يستهدف بالفعل المسلمين.
النقاشات الحالية تبدو بلا فائدة، فالدولة اتخذت القرار، الذي تمنع بموجبه دخول العباءة للمدرسة، بذريعة الحفاظ على حياد المؤسسات. كان الأجدى أن يطرح الموضوع للنقاش قبل وقت كافٍ من صدور القرار لامتزاج الآراء، خاصة أنه اتضح الآن أن نطاق المعترضين هو أوسع مما كنا نتصور، حيث شمل أشخاصاً من خارج الجاليات المسلمة.
من السياسات الشهيرة المتبعة، التي استخدمت سابقا في قضايا مشابهة، كقضية الحجاب، إظهار أن هناك خلافا في داخل البيت الإسلامي حول الموضوع، وأن المنتسبين لهذا الدين لا يتحدثون جميعهم بصوت واحد، ولا يتفقون على أن أشياء من قبيل الحجاب أو العباءة أو صلاة الجماعة، هي مسائل أساسية تمس صميم الدين. يتم الاستناد لتعزيز هذه النظرة على بعض الأصوات المسلمة، التي تساند بحماس كل تحرك رسمي فرنسي باتجاه تحجيم مظاهر الوجود الإسلامي، التي تبدي تفهمها غير المشروط لحق البلد في الحفاظ على هويته وقيمه، وإن كان ذلك على حساب مساحة الحرية العامة. مقابل هذه الأصوات العالية، كانت أصوات أخرى تنبه إلى أن ما يحدث هو خطوة قد يساهم تمريرها في اتخاذ خطوات أخرى أكثر راديكالية، باتجاه تقييد حرية المسلمين، مما سوف يُشعر كثيرا من الشباب بالاستهداف.
في مقال سابق تحدثنا عن كاهنة بهلول، أول سيدة بمنصب إمام في فرنسا، وإحدى الشخصيات الليبرالية الداعمة للقرار، إلا أن بهلول ليست وحدها، فهناك الكثير من المؤمنين، يرون أن الالتزام بزي معين أو بنمط حياة مختلف عن الآخرين هو «أدلجة» للدين وتسييس للعقيدة، بل يكاد بعض المسلمين، تحت دعاوى التنوير وإظهار الاندماج والانفتاح، أن يتفقوا مع من يرى في الإسلام تهديداً يجب تحجيمه، وهو حال أسماء كثيرة وصل بها الأمر إلى الانخراط بشكل مؤسف ضمن تيارات يمينية متطرفة. في كثير من الأحيان ينحرف الحديث عن موضوع الحجاب أو العباءة لنقاشات جانبية، تحاول التأكيد على أن هذا النوع من اللباس ليس مرتبطًا بالإسلام. الطريف أن بعض المناصرين لقوانين تقييد الحريات يستدلون بالمظهر العام في المنطقة العربية خلال أواسط القرن الماضي للقول، إن النساء في ذلك الزمن، وفي كثير من العواصم العربية والإسلامية، لم يكنَّ يرتدين ما يعرف اليوم بالحجاب، وأن في هذا دليلاً على أن تغطية الرأس أو ارتداء العباءة هو شيء بلا أساس شرعي. مشكلة هذا المنطق هو أنه يستند إلى بعض الصور، التي توثق تلك الفترة التاريخية، التي لا يمكن القول إنها كانت تمثل الطابع العام للنساء. في الرد على هذا المنطق المتهافت لن تحتاج لأن تسأل عن أزياء النساء في المنطقة في بداية القرن العشرين أو في حقبة ما قبل الاستعمار، ولكن يمكنك أن تكتفي بالتساؤل عن شكل الأزياء النسائية في أوروبا نفسها قبل قرن من الزمان. من ناحية أخرى، ومع التسليم الجدلي بأن الحجاب لا أصل ديني له، وأن العباءة هي مجرد زي تراثي لدول بعينها، كما يحاول البعض أن يثبت، فما الذي يمنع أن ترتديه فتاة في فرنسا، إذا كان القانون والدستور يكفلان لها حرية اعتقاد أي مذهب واتباع أي لافتة؟ قبل أيام قليلة صدر كتاب للأكاديمي الفرنسي المثير للجدل جيل كيبل بعنوان: «النبي في بلده».. النبي المقصود هو كيبل نفسه، الذي يستدعي عنوانه المثل الشهير «لا كرامة لنبي في بلده»، يعتبر كيبل أنه قدم «نبوءات» ناجحة حول الإسلام من خلال مسيرته البحثية وتحذيره المستمر من تنامي ظاهرة «العنف الإسلامي» منذ أكثر من أربعين سنة. كيبل، الشاهد على حادثة اغتيال السادات، كان رأى في تلك الحادثة بداية توسع العمليات «الإرهابية الإسلامية» وهو ما تحقق برأيه لاحقاً بنشوء جماعات مثل «القاعدة» وتنظيم «الدولة الإسلامية». حين تستمع لكيبل تلاحظ أنه لا يفرق كثيراً بين السلفييين و»الأخوان المسلمين» والحركات الجهادية الأخرى كتنظيم «القاعدة» و»داعش»، فكل الجماعات الإسلامية «الأصولية» هي عنيفة ومعادية للآخر في رأيه. تجعل هذه الأفكار الرجل متهما من قبل قطاع من الباحثين الفرنسيين وغيرهم بكونه معاديا للإسلام ومصابا بالإسلاموفوبيا، في حين يرى كيبل أن من يتهمه بهذه الاتهامات هم الأكاديميون اليساريون المتأثرون بالخطاب الإسلامي، أو الذين لم يستوعبوا بعد حقيقة هذا الدين. يقول كيبل، على سبيل المثال، رداً على المنطق المتردد حول الجماعات الإسلامية الموجودة في أوروبا منذ عقود، والتي لم يسجل عنها أي نزوع نحو العنف، أن هذه الجماعات تستفيد من ظرف الحرية ومن المساحة، التي تقدمها لها الدول الديمقراطية من أجل التأهب للانقضاض والانقلاب على هذه المجتمعات في اللحظة المناسبة. يعيد كيبل التأكيد على كل هذه الأفكار في كتابه الجديد، الذي يكتسب أهمية، ليس فقط لشهرة صاحبه الأكاديمية، ولعمله في تدريس شؤون الإسلام والمنطقة منذ نهاية القرن الماضي، وإنما أيضاً لكون كيبل من المستشرقين الجدد المقربين من السلطة الفرنسية والرؤساء الفرنسيين، خاصة الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، الذي يتخذ منه مستشاراً ومرافقاً في رحلاته المهمة في المنطقة.
«النبي في بلده» يأتي في ختام مسيرة بحثية طويلة أنجز فيها كيبل، الذي يستعد للتقاعد، العشرات من الكتب والمقالات، التي أظهر فيها اهتماما باللغة العربية والدين الإسلامي وسياسة المنطقة وتاريخها، التي اشتهرت منها كتب كان من أبرزها: «النبي والفرعون» و»الجهاد» و»الخروج من الفوضى في الشرق الأوسط وحوض المتوسط». أما في كتابه الجديد، فيجمع كيبل بين السيرتين الذاتية والعلمية، ليحكي عن خلاصات أفكاره حول «الظاهرة الإسلامية» وعن فترات استقراره في دمشق والقاهرة، التي ساعدته على التعمق في فهم الحركات الإسلامية، من حيث النشأة والتطور، كما ساهمت في تطوير موقفه حول الإسلام في فرنسا. تمت استضافة كيبل في منصات إعلامية كثيرة للحديث عن كتابه الأخير، ولكن أيضاً عن رأيه الداعم لحظر العباءة. يرى كيبل أن الغرض من ارتداء هذا الزي المميز هو تعزيز هوية منفصلة للمسلمين بجعلهم مختلفين عن غيرهم من الفرنسيين، وهو ما يساهم برأيه في ما سماه الرئيس ماكرون من قبل «الانعزالية الإسلامية». وفق كيبل فإن انتشار العباءة هو نتيجة لفرض منطق السلفيين المبني على عقيدة «الولاء والبراء» التي تقسم المجتمع إلى مسلمين وكفار، ما يقود لاحقاً للانزلاق حول العنف والسلفية الجهادية. يستدرك كيبل قائلا، إن ارتداء الحجاب والعباءة لا يجعلنا ننظر لمن يرتديها على أنه إرهابي بالضرورة، بقدر ما يشير ذلك إلى وقوع محتمل في شرك الجماعات المتطرفة، التي تحرص على فرض ثقافتها وإن تعارضت مع القيم الفرنسية. يعلم كيبل أنه لا يمكن حظر العباءة وفقاً لقانون حظر الرموز الدينية، الذي تم تطبيقه سابقاً، بسبب أن العباءة ليست زياً دينياً، لكنه يرى أن بإمكان العلمانية التي تتيح حرية اللباس أن تقيد هذه الحرية، إذا ما كانت تخلق مشكلة أو تهدد «النظام العام».
*كاتب سوداني..المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|