logo
«خرافة» الانقسام الفلسطيني!!
بقلم : أنيس فوزي قاسم ... 25.06.2023

لا يملّ الكتاب والمحاضرون حتى الرسميون من ترداد مقولة إن الانقسام القائم في الساحة الفلسطينية هو مصدر الآثام التي تلحق بالقضية الفلسطينية، فلولا الانقسام لأصبح الحديث عن حلّ الدولتين مقبولاً أكثر، ولولا الانقسام لكان موقف الدول الأوروبية أكثر انسجاماً مع المطالب الفلسطينية، ولولا.. ولولا.. وأصبح الانقسام شماعة مقبولة تعلق عليها التبريرات والتخاذلات، وحتى التنسيق الأمني بين أجهزة السلطة وحكومة المستوطنين أخذ قسطاً من التبرير.
لا شك في أن جزءاً من هذه المقولات ينطوي على حسن نيّة، أو تبسيطٍ للنقاش، ولكن جزءاً آخر، وربما الجزء الأكبر منه، ينطوي على مخابث عديدة منها رفع العتب، ومنها إزاحة المسؤولية، ومنها السذاجة السياسية. وفي الحالتين فإن النتائج التي تتمخض عن هذه التبريرات، وبغض النظر عن النوايا، هي حرف الأنظار عن تفسير هذا الانقسام تفسيراً أكثر مقبولية وأقلّ تعسفاً.
وعادة ما يعزى الانقسام إلى ما وقع في عام 2006، حين جرت انتخابات لما يسمى بـ»المجلس التشريعي» الفلسطيني، حيث فازت حركة حماس بأغلبية المقاعد، ما جعل حركة فتح تأخذ خطوات اعتراضية على النتائج، ولعبت قوى مضادة للقضية «الوطنية»، اندلعت بسببها مواجهات مسلحة راح ضحيتها العديد من المدنيين ومن العناصر المقاتلة لكلا الفريقين، وسيطرت حركة حماس على الوضع، وأصبحت هي سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة، اعتباراً من عام 2007 وأصبحت فتح سلطة الأمر الواقع في الضفة الغربية، وأصبح هذا التاريخ هو التاريخ الذي اعتمده الكتاب والرسميون لتحديد وقت الانقسام. وأزعم أن الانقسام لم يبدأ في عام 2007، ولم يكن فشل حركة فتح في انتخابات عام 2006 هو السبب للانقسام، وإن كان من الثابت أن أحداث عام 2006-2007 كانت مظهراً من مظاهر الانقسام في الساحة الفلسطينية. فالواقع أن الانقسام، وقع حين تم التوقيع على اتفاقيات أوسلو، بدءاً من الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، مروراً بإعلان المبادئ وتوقيع أوسلو الأولى والثانية وباقي الاتفاقيات التي كانت جميعها تشير إلى مسلسل «الاستسلام» الرسمي الفلسطيني لحكومة المستوطنين. فقد بدأت الاعتراضات على نهج أوسلو منذ التوقيع عليه، وانعكس ذلك في الكتابات والخطابات، ثم توسعت وبدأت تأخذ طابعاً أكثر خشونة، وكلما توسعت المعارضة لنهج أوسلو، ازدادت خشونة ردات فعل السلطة الفلسطينية، وكلما أصيب رموز السلطة بالإحباط من التعامل مع المسؤولين الإسرائيليين، صبّت تلك الرموز جام غضبها وإحباطها على شعبها.
لقد ثبت على وجه اليقين أن السلطة، ومنذ قدومها إلى الوطن المحتل بدأت في بناء أجهزه ومؤسسات على غرار أجهزة النظام العربي، ولاسيما تلك الأنظمة الشمولية. وهذا السلوك هو الذي وضع الأسس الأولى للانقسام في الساحة الفلسطينية. ففي شهر مايو/ أيار 1994، أي بعد أسبوعين من استلام الشرطة الفلسطينية مهامها في قطاع غزة اشتكى فلسطينو غزة من «عضلات الشرطة». وورد في تقرير لجريدة «الحياة» (30/5/1994) ما يلي: «ووقفت اعتماد شقيقة (هاني) عابد مع شقيقه أمام مكتب العميد نصر يوسف قائد الشرطة في غزة، رئيس جهاز الأمن الوطني وهما يجادلان الحرس الذين يرفضون دخولهما المكتب». وقالت اعتماد، إن الحرس أمرها بمغادرة المقر الرئيسي للأمن فوراً. هذا نموذج لسلوك شرطة السلطة بعيد وصولها، فبدلاً من سلوك محترم ودافئ مع الشعب، الذي عانى من الاحتلال وممارساته الوحشية، بدأت الشرطة الوطنية تسلك سلوكاً مماثلاً للاحتلال. والتقارير الصحافية التي تلت وصول القيادة إلى أرض الوطن مليئة بقصص الابتزاز والفساد والسلوك الخشن مع الناس. ولا أصدق من تقرير مؤسسة «الحق»، ذات المصداقية العالية، الصادر بتاريخ 9/9/1994 حول «تصرفات أجهزة الأمن الفلسطينية»، حيث ورد في التقرير، من جملة أشياء أخرى لا تقل فظاظة: «عند ذهاب أهالي المتضررين لمكاتب السلطة الفلسطينية بهدف المراجعة و/أو الشكوى ضد ممارسات أجهزة الأمن، قوبلوا في العديد من الأحيان بالإهانة الشفوية، التي وصلت أحيانا إلى حد الطرد والاعتداء الجسدي». وهذه تصرفات أقرب ما تكون إلى تصرفات سلطات الاحتلال.
وبعد الإهانات، انتقلت الشرطة والأجهزة الأمنية إلى مرحلة متقدمة من السلوك المتوحش وهو القتل. وقد وثقت منظمة العفو الدولية سلسلة من الحالات التي تمّ فيها قتل الضحايا تحت التعذيب. ففي تقريرها الصادر في أكتوبر/ تشرين الأول 1995، سجلت حالات الذين قتلوا بطريقة «الشبح»، وهي طريقة طورها جهاز الأمن الإسرائيلي. وفي تقريرها الصادر في ديسمبر/ كانون الأول 1996، سجلت منظمة العفو الدولية حالات القتل التي تمارسها أجهزة السلطة أثناء اعتقال المتهمين، فضلاً عن حالات التعذيب والاعتقال التعسفي، وهي تقارير تؤكد أن السلطة الفلسطينية هي التي وضعت الأرضية الصلبة لخلق حالة الانقسام والتشرذم في الساحة الفلسطينية منذ وصولها للوطن. ولنذكر بالرحمة الشهيد نزار بنات، وكيف تمت تصفيته بطريقة متوحشة.
وكان من أهم إنجازات السلطة أن خلقت اثني عشر جهازاً رسمياً من الشرطة والأجهزة الأمنية وهي: الأمن الوطني، الأمن العام، الأمن الوقائي، الأبحاث الجنائية، المخابرات، الاستخبارات العسكرية، الفرقة 17، الشرطة البحرية، القوات الخاصة، والدفاع المدني، والحرس الوطني، ثم أضيف لهذه الأجهزة جهاز أمن الجامعات، الذي أنشأه الرئيس عرفات في أغسطس/ آب عام 1996 كما أنشأ عرفات جهاز الأمن الخاص عام 1997، وصدر قانون «محكمة أمن الدولة» في 7 فبراير/ شباط 1995، ونعلم أن إنشاء هذا النوع من المحاكم يعني أن يصدر الحكم على المتهم حسب رغبة «الزعيم» دون التقيّد بالإجراءات الجزائية أو بالقواعد القانونية.
هذه الأجهزة والعدد الهائل من العاملين تستقطع حوالي ثلث ميزانية السلطة، وطبيعي أن يكون ذلك الاقتطاع على حساب جهاز التعليم والصحة والخدمات الأخرى. وللتأكد من درجة التعسف التي تتسم بها السلطة الفلسطينية، فإن عدد العاملين في تلك الأجهزة بلغ ما لا يقل عن (85) ألف عنصر تقريباً بمختلف الرتب، وهذه تعد من أعلى النسب في العالم بحيث يكون هناك عنصر أمن واحد لكل (48) مواطن فلسطيني بينما هناك (206) من أفراد الشرطة لكل مئة ألف مواطن أمريكي، وهذا يبعث رسالة قوية ـ على ما يبدو من ظاهر الأرقام ـ أن الشعب الفلسطيني شعب من المشبوهين! السلطة ـ وبالتقارير المحايدة، التي تتمتع بالمصداقية – أقامت بنية غير ديمقراطية ومعادية لتطلعات شعبها، ما يضطرها لخلق أذرع أمنية لقمع عملية الاحتجاج ضد مسار أوسلو، وهذا السلوك هو مناط الانقسام وليس حماس أو غير حماس أو انتخابات عام 2006-2007.
إن الحديث عن الانقسام يجب أن يوضع في سياقه التاريخي ولا يحصر في حادثة واحدة وهي انتخابات عام 2006، إن الانقسام ليس بين فتح وحماس، بل بين السلطة التي انتجتها أوسلو وقطاعات الشعب الرافضة لمسار أوسلو، حيث إن الانقسام حصل منذ الأيام الأولى لتوقيع الاعتراف المتبادل وإعلان المبادئ، وقد وقع هذا الانقسام أول ما وقع في صفوف حركة فتح، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية وحماس والجهاد وبعض الفصائل الأخرى مثل القيادة العامة، بالإضافة الى جميع منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية، وعلى رأسها مؤسسة الحق والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان. إن وضع الأمور في سياقها التاريخي يصل بنا إلى نتائج أكثر رشداً وأسلم عاقبة، حيث يجب وضع الإصبع على سبب الانقسام وهو الانخراط في مسار أوسلو والتنسيق الأمني، وهذا ما يفسر أن محاولات المصالحات الوطنية التي بلغت ثلاث عشرة محاولة حتى الآن اصيبت جميعها بالفشل لأنها عالجت مسائل ثانوية، ولم تتعامل مع أسّ المشكلة وهو «مسار أوسلو».

*محام وكاتب فلسطيني..المصدر : القدس العربي

www.deyaralnagab.com