وراء زيارة بيلوسي تايوان؟
بقلم : لميس أندوني ... 07.08.2022
أدارت رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، زيارتها إلى تايبيه بطريقة استفزازية مقصودة، رافقها استعراض عسكري بحري وجوي أميركي، في تحذير لبكين من التدخل المباشر في تايوان، وأن واشنطن لن تسمح بظهور عالم متعدّد الأقطاب تحت زعامة الصين.
لا تتناقض الزيارة نفسها مع الاستراتيجية الأميركية. إذن، لماذا تحفّظ الرئيس جو بايدن على خطوة بيلوسي؟ بل ضغط على عدد من أعضاء حزبه الديمقراطي لمحاولة ثني رئيسة مجلس النواب عن النزول في تايبيه، خلال جولتها المقرّرة مسبقاً في بعض دول شرق آسيا؟ علماً أن التحفّظ جاء على توقيت الزيارة، ولا يعكس تغييراً في موقف واشنطن من اعتبار تايوان دولة منفصلة عن الصين.
واضحٌ أن هناك تبايناً في التكتيك بين وزارة الدفاع الأميركية والبيت الأبيض؛ فالأول دعّم الزيارة وحوّلها استفزازاً مباشراً للصين، مرسِلاً حاملات أسلحةٍ بحريةٍ إلى شرق تايوان عشية الزيارة، وبعث طائرة تنقل مسيرة الرحلة، مع تمكين الآلاف من متابعتها بالتعاون مع شركة خدمات إنترنت في سنغافورة، في استعراض كأنه نسخة للدعاية المبهرة التي سبقت إطلاق فيلم توم كروز"توب غَن"، لم يكن ينقصها سوى أن تقود بيلوسي طائرة حربية تشَبُّهاً بالممثل الأميركي الوسيم.
زيارة أرادها المتشدّدون في الحزب الديمقراطي وهلّل لها بقوة الحزب الجمهوري، ولكن لا خلاف بين مؤيدي الزيارة ومعارضيها على الهدف الأهم، فالكل متفق على منع روسيا والصين من تشكيل حلف، تنضم إليه دول أخرى، يؤدّي إلى بروز قوة جديّة تهدد عالم القطب الواحد. وفي هذا لا يختلف البنتاغون مع البيت الأبيض، فهناك خشية في واشنطن، ليس فقط من تحقق حلف مقابل للقوة الأميركية، بل من أمل شعوب في مناطق عدة أن ينهي التحدّي الروسي لواشنطن في أوكرانيا هيمنة أميركا على مصير العالم، فمراكز الأبحاث السياسية والأمنية والعسكرية في واشنطن تهتم برصد الوعي الجمعي للشعوب، خاصة في مناطق تعتبرها مهمة لمصالحها، بل وتدرس ما يتابعه مواطنوها، بما في ذلك العالم العربي، من مصادر أخبار، ولاحظت هذه المراكز أن هناك تأييداً متزايداً لروسيا في مواجهة النفوذ الأميركي في أوروبا والعالم، فحتى إن كثيرين ممن يعارضون الاجتياح الروسي لأوكرانيا يتمنّون كسر قوة أميركا وإنهاء هيمنتها.
لذا؛ رأينا بايدن في زيارته منطقتنا يحذر من أن الولايات المتحدة لن تسمح بإحداث فراغ في المنطقة تستغله الصين وروسيا، لكن "البنتاغون"، من خلال زيارة بيلوسي، ومن ورائهما لوبيات تروّج زيادة تصدير أسلحة ومعدّات إلى تايوان، سعياً إلى تخويف آسيا من نفوذ الصين، خصوصاً أن الصين ردّت باستعراض قوتها وخرقت أجواء تايوان، وإنْ لم تتبعها بخطوات أخرى، فلا الصين ولا أميركا تنشدان حرباً عسكرية، لكن ما حدث ويحدث هو ترسيم حدود النفوذ بينهما، من دون حرب وخسائر أو إراقة دماء.
يرى محللون أن مسار الحرب في أوكرانيا أجبر واشنطن على محاولة تأكيد هيمنتها على الشرق الأوسط وشرق آسيا، خصوصاً بعد أن غيّرت مسار معاركها وتراجعت عن محاولة السيطرة على محيط كييف، والتركيز بنجاح على إخراج القوات الأوكرانية من محيط الدونباس، وبالتالي خرق الحصار على مدينة دونيتسك. ولكن الأهداف الأميركية سبقت حرب أوكرانيا، بل إن قرار إدخال كل الدول المحيطة بروسيا، الذي اتخذه واضعو سياسات ما بعد الحرب الباردة في عام 1992، بهدف حصار روسيا، هدف إلى تقليص قوة موسكو ومنع بكين من الصعود قوة منافسة بدعم روسيا قوية. ولكن بايدن، وإنْ رضخ لضغوط المؤسسة الأميركية ورحب بزيارة بيلوسي إلى تايوان، لم يرد مواجهة مع الصين، أو تشتيت الجهود الأميركية لبناء تحالفاتٍ قوية في منطقتنا، وفي جنوب شرق آسيا، مدركاً، هو أو من ينصحه، أن للصين علاقات اقتصادية قوية واستثمارات في دول يعتبرها حليفة. ففي منطقتنا يريد دمج إسرائيل وتثبيت تحالف اقتصادي عسكري أمني بقيادة أميركا وإسرائيل، لإضعاف النفوذين، الصيني والروسي في المنطقة، فتغيير الخرائط السياسية وتعزيز التحالفات، يعكس توجهات داخل الخارجية الأميركية والبيت الأبيض بعكس "البنتاغون"، وكذلك بيلوسي ومجموعة من الحزب الديمقراطي، بتأييد وترحيب حارّين من الحزب الجمهوري.
النقد الرئيس الذي وجهه سياسيون ومحللون أميركيون لزيارة بيلوسي، هو في توقيتها، إذ يحذرون من استباق ترسيخ التحالفات المطلوبة، والمسّ بها وإضعافها، من دون تبليغ الحلفاء أو التشاور معهم ولو شكلياً، كما كان يفعل الرئيس السابق، دونالد ترامب، باستبعاده وتهميشه دور الحلفاء. فبرأيهم تمتين هذه التحالفات أهم من استعراض استفزازي "قصير النظر"، لكن لرئيسة مجلس النواب وحلفائها أهداف أخرى، فاستطلاعات الرأي تشير إلى انحدار تأييد رئاسة بايدن، وبالتالي، الحزب الديمقراطي بين الناخبين، فالعد العكسي للتحضير لانتخابات الرئاسة لعام 2024 بدأ، ولا يريد الديمقراطيون الخسارة.
معظم الصحف الأميركية لم تركّزعلى تحليل زيارة بيلوسي، بل انشغلت بتمجيد "أسطورة بيلوسي الشجاعة" التي قضت عقوداً في مواجهة الصين
عليه؛ كان من الضروري إظهار قيادة قوية للحزب الديمقراطي، مستعدّة أن تثبت للعالم أن أميركا لا تزال وستبقى القوة العظمى، واختيار تايوان ليس غريباً، فالاجتياح الروسي لأوكرانيا أثار مخاوف تايبيه من أن تتشجع بكين وتجتاح تايوان على اعتبارها جزءاً من أراضيها.
تلقّف الجمهوريون واللوبي التايواني في واشنطن هذه المخاوف، وبدأوا بالضغط للتسريع في إقرار قانون يصنف تايوان حليفاً قوياً (من خارج حلف الناتو)، وبالتالي، تشريع تزويدها بأسلحة متطورة، خصوصاً أن مجلس تايبيه للتمثيل الثقافي والتجاري، وهو بديل عن سفارة تايوانية في واشنطن، يموّل حملات نواب بشكل علني، ويتبرع لمؤسسات بحثية مؤثرة، مثل "بروكينجز" و"هدسون" و"المشروع الأميركي" و"مجلس أتلانتيك" وغيرها. ولكن مناقشة القانون تأجلت بضغط من البيت الأبيض ونواب لا يريدون مواجهة مباشرة مع الصين، ما حدا، وفقاً لتقارير صحفية، باللوبي التايواني والمتشدّدين في الكونغرس إلى الترتيب لزيارة بيلوسي تايوان، بالرغم من أنها ليست على الجدول، لكن تأييد وزارة الدفاع كان له القول الفصل، فيبدو أنها (الوزارة) ارتأت أنّ من الضروري إظهار قوة أميركا بخطوة "جريئة" تطمئن حلفاء أميركا، فالمطلوب "اتخاذ موقف واضح"، على رأي وزير الدفاع الأميركي السابق، مارك أسبر، الذي انتقد موقف بايدن "المتردّد"، فلا مجال، برأيه ورأي المتشدّدين "لضبابية المواقف".
الملاحظ أن معظم الصحف الأميركية لم تركّزعلى تحليل زيارة بيلوسي، بل انشغلت بتمجيد "أسطورة بيلوسي الشجاعة" التي قضت عقوداً في مواجهة الصين. وللأسف، ردّد المقولة بعض الإعلام العربي من دون تساؤل أو تمحيص أن بيلوسي لم تتحدَ أبداً حروب بلادها بل أيدتها، ولا شجاعة في زيارة تايبيه بدعم ترسانة قوة عظمى، فالسيدة بيلوسي، التي ارتأت في يوم ليس بعيداً الاستشهاد بكلمات شاعر إسرائيلي يؤيد التطهير العرقي ضد الفلسطينيين، هي أضعف وأكثر انتهازية من الاعتراض على مقتل أطفال العراق وفلسطين بأسلحة أميركية، لذا نحزن حين نرى هذا الإعلام العربي يردّد كذبة "امرأة واحدة" في مواجهة امبراطورية الصين"، أميركا تريد الحفاظ على هيمنتها بممارسة تضليل الوعي، ومقاومتنا تبدأ بكشف التضليل، لا بترديده.
www.deyaralnagab.com
|