في تكريس صورة للسوري: إرهابي أم مرتزق؟
بقلم : سوسن جميل حسن ... 16.03.2022
شاعت ظاهرة المرتزقة في الأزمنة القديمة لدى الفرس والروم واليونان، ويُقال إن الفراعنة في عهد أمنحتب الرابع (أخناتون)، كما تفيد رسائل تل العمارنة، قد استجلبوا أفرادًا آسيويين، لأجل القتال. واستمرّت الظاهرة وتطورت مع تطور الحياة البشرية وتنامي الحروب وتبدّل الإمبراطوريات والقوى المسيطرة على العالم. ما يهم هذه المقالة تنامي ظاهرة المرتزقة وقوننتها وبروزها قوة اقتصادية تستثمر في مجال الحروب بشكل أساسي، وما يهم أكثر استخدامها في الحروب الحديثة على منطقتنا وفيها، من ثم السؤال عن حالة السوريين الذين استخدموا في حروبٍ بعيدة، كما في ليبيا أو الحرب بين أرمينيا وأذربيجان، من تركيا وروسيا، والآن عزم روسيا على زجّهم في الحرب على أوكرانيا، بعدما استباحت أرضهم جيوش ومرتزقة من بقاع كثيرة.
مبادئ القانون الدولي، مثل المساواة في السيادة والاستقلال السياسي والسلامة الاقليمية للدول وحق الشعوب في تقرير المصير، تقرّها الجمعية العامة للأمم المتحدة والميثاق الدولي لحقوق الإنسان، وهذا ما لم يحصل في بلداننا الواقعة تحت سلطة الحروب والنزاعات منذ الاحتلال الأميركي للعراق، إذا استثنينا حالة فلسطين باعتبارها قضية منفردة ولها خصوصيتها. وتؤكّد أيضًا الأمم المتحدة، في قوانينها ومواثيقها، على أن تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم ينبغي أن تعدّ جرائم موضع قلق بالغ لجميع الدول، وأن من يرتكب أيًّا من هذه الجرائم ينبغي أن يُحاكَم أو يُسلّم، وهي إذ "تقلق" بسبب تنامي ظاهرة المرتزقة، فإنها، كما جاء في مقدّمة الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة 1989، تُعرب عن اقتناعها بأن من شأن اعتماد هذه الاتفاقية أن يساهم مساهمة كبيرة في التخلص من هذه الأنشطة الشنعاء، ومن ثم في مراعاة المقاصد والمبادئ الواردة في ميثاق الأمم المتحدة.
لكن المشكلة تكمن في أن قوانين ومواثيق ومعاهدات كثيرة تقرّها هذه المنظمة تبدو على الورق مثالية ووردية وغاية في الحرص على الإنسانية، بينما الواقع مظلم وأكثر شرّا مما يصل إليه الخيال في تصور الشر، ففي كل حقبة وفي كل بقعة هناك انتهاكات لهذه المواثيق، وحروب تشتعل، وقوى عالمية تُحكم قبضتها على المصير الإنساني، وتدير صراعاتها وترسم مصير الشعوب، من دون اعتبار لهذه المواثيق، التي هي في الأساس من صياغة القوى الأكثر فاعلية وتأثيرًا.
وبالعودة إلى تعريف المرتزق فإنه كل شخص يجري تجنيده خصيصًا، محليًّا أو في الخارج، ليقاتل في نزاع مسلح، أو يشارك فعلًا ومباشرة في الأعمال العدائية، لقاء أجر بالطبع، فإن المراقب لوضع الشعب السوري الحالي سوف يرى من المبرّرات ما يكفي، لأن يتهافت الشباب السوري على أي دعوةٍ تعد بما يجعل العيش ممكنًا، فالسوريون يجوعون ويعرون ويبردون، وينسلّون بالتدريج خارج العصر، بعدما صار جيل بكامله خارج المدارس والتعليم، ووضع الأجيال القادمة لن يكون أفضل في ظل المعطيات المحلية والعالمية. الحروب تهدر الحياة، تدمّر ما بناه الإنسان، تحرق الطبيعة والنفوس والأرواح. ومع هذا، لن تكفّ عن الوقوع، فالعالم القوي المتحكم بمصائرنا يستثمر في الحرب، اقتصاد الحرب رائج وضروري، وما دام هناك جيوش وصناعة حربية ستشتعل حروب في المستقبل.
إذا كانت هناك شركات باتت واقعًا مؤكّدًا، لها لوائحها الناظمة وميزانياتها الخاصة وأسواقها وشرعيتها أيضًا، مثل بلاك ووتر الأميركية، وجي 45، البريطانية الأميركية (مقرّها في فلوريدا)، والتي اشتهرت بأعمالها العنفية في أفغانستان، أو فاغنر الروسية، وغيرها، فإن هناك جهات تعتمد على المرتزقة بطرقٍ أخرى، لا نعرف عنها الكثير، ولا كيف يجري تشغيلها أو التعاقد معها، كحال كثيرين منهم الذين خاضوا المعارك في الحرب السورية، من أفغانستان وباكستان والعراق وإيران وغيرها، كما غيرهم من المرتزقة الذين حاربوا لصالح الأطراف الأخرى المحسوبة معارضة، أو أولئك الذين حاربوا في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فالمعروف عنها أن وراءها أطرافًا تشغّلها لم تعد خافية، وهذه الأطراف هي التي تدير المعارك في الواقع، لكن كيف؟ وما هي المؤسّسات الناظمة لها؟ سؤال مهم. ولا بدّ من طرح الأسئلة اليوم عمن دفع الشباب السوريين إلى خوض معارك في أراضٍ بعيدة، ولصالح دول لا ينتمون إليها، وليست حربهم مع أعدائها، هل يّجنّدون عن طريق شركات أمنية خاصة، مثلما كان مثلًا بالنسبة لشركة فاغنر الروسية ومرتزقتها الذين خاضوا بعض المعارك في سورية؟
معروفُ أيضًا أن الاعتماد على المرتزقة أقلّ تكلفةً من الجيوش النظامية بالنسبة إلى الدول أو الأنظمة التي تشغّلهم، فالفرد المسخّر للحرب بهذه الشروط لا يحظى بأكثر من مرتّب لقاء المدة التي يشارك فيها لصالح الجهة المشغّلة، بينما تسقط من حقوقه التعويضات أو التقاعد لأسرته إذا قتل في أثناء المعارك. إذن، ما يبحث عنه المرتزق هو فرصة العيش، حتى لو كان ذاهبًا إلى الموت. إنها المقامرة في حياته، في وقت سُدّت في وجهه السبل الأخرى، كي يكون فردًا منتجًا، يستطيع أن يؤسّس حياة كبقية البشر، وأن تكون له أحلامه وطموحاته وأسرة وأطفال يربيهم ويساعدهم في تأمين مستقبلهم أيضًا، هذا الوضع الذي وصل إليه السوريون، ليس فقط فاجعًا ومحزنًا، بل هو مخزٍ بما يُرسم من صورة ليست حميدة بالنسبة إلى العالم والرأي العام، إذ صارت سمعة السوري مرافقة لوصمة الإرهاب أو الكبتاغون أو المرتزقة، فهل السوريون بالفعل هكذا؟ لا، الشعوب دائمًا ترنو إلى حياة كريمة، وهذا من طبيعتها وحقوقها، لكن ما الذي يوصلها إلى هذه الخيارات؟
إنها قضية جديرة بالاهتمام الفائق، وتفكيك الواقع وسؤال التاريخ. لكن من حيث المبدأ يمكن القول إن استقرار المجتمعات وازدهار الدول وتقدّم الشعوب مرتبط بمدى نشاطها وحيويتها، وهذا لا يتحقق إلّا باهتمام الحكومات بها، بجعل المواطنين هدفها الأول والأخير، بمنحها حرية أن تعبّر عن ذاتها، بصون كرامتها وحقوقها، بالسعي دائمًا إلى تصحيح الانحرافات ومحاربة الفساد والمفسدين، بإتاحة المجال لها وإشراكها في صنع المستقبل واتخاذ القرارات، ويتنافى ذلك كله مع ما تمارسه الأنظمة الشمولية والقمعية بحق شعوبها. وهذا ما يجعل الفجوة تزداد وتتسع بينها وبينهم، لذلك يصبح المواطن يعيش في ظل الخوف وانعدام المبادرة والركون إلى حياة خالية من المعنى والحيوية، وهذا ينمّي في العمق رفضًا للحكومة أو حتى الدولة، لأن مفهوم الدولة في الأصل مغيّبٌ خلف الحكومة أو النظام وسطوته، بل كرهًا لها يتجلى في الافتراق الكامل بينهما ومناصبة العداء تجاه بعضهما بعضًا، وهذا ما يفسّر أيضًا الواقع الذي وصل إليه الشعب السوري في مختلف المناطق، إذ سرعان ما كشفت الحرب عن هشاشة هذا الواقع، ومدى تمكّن المشكلات المعقدة منه.
عندما يُطرح مثل هذا الطرح، سرعان ما تعلو الأصوات بالحجّة: العالم القوي لن يتركنا نتقدّم، المؤامرة أكبر من الجميع، إلى ما هنالك من اتهامات تُلقى على عاتق القوى العالمية والإمبريالية والأنظمة الرأسمالية التي تسعى إلى تطويع البلدان وجعلها سوقًا لها، لكن السؤال الذي من البديهي أن يُطرح: لو كانت الأنظمة قريبة من شعوبها، ولم تكن تمارس كل أسباب القهر والإذلال والتغييب عن صنع مصيرها، هل كان سيظهر هذا الكم من الأمراض والمشكلات المتجذّرة التي ساهمت في وصول البلاد إلى ما وصلت إليه؟ وهل كانت انهارت سورية مثلما هي عليه الآن، واضطر السوريون إلى أن يكونوا "مرتزقة" هنا وهناك؟ .. لستُ بصدد تحديد المسؤولية هنا، بعد أن صارت واضحة وأشبعت تحليلًا وتمحيصًا، مع التأكيد على الدور الأعظم الذي تمارسه الأنظمة الحاكمة، إنما في صدد طرح الأسئلة، إضافة إلى ما طرح للنقاش، أمام واقع مؤلم ومخزٍ، أن يكون الجيل، أو الأجيال السورية مرشّحة لهذه الأدوار البعيدة كل البعد عن الحضارة الإنسانية، بل المدمّرة لها.
**المصدر : العربي الجديد
www.deyaralnagab.com
|