«لساها» الثورة يناير!!
بقلم : عبير ياسين ... 29.01.2019
الثورة لا تموت، أذكر نفسي أيضا وسط كل الفشل والانتكاسات، وسط كل الإحباطات والمساحات السوداء التي تضاف إلى المشهد، ووسط المسافات المتزايدة التي نبتعد بها عن الديمقراطية. أقول إن الثورة فكرة والفكرة لا تموت، إن الثورة نبت الشعب، والشعب لا يغيب، إن الثورة حلم والحياة بدون حلم مستحيلة.
أعيد إلى الواجهة في كل عام كلمات الشاعر هاني قاسم: «الثورة زي الدهب تغلي ما ترخصش، تشح أه يمكن لكن ما تخلصش»، يظل المعنى حاضرا مثل الثورة، دائما مثل الفكرة، مهماً بوصفه قضية عابرة للزمن واللحظة والاسماء، مؤكدا مع غسان كنفاني، أن المشكلة في المدافعين عن القضية. تمييز مهم حتى لا نقع في فخ الخلط المقصود بين الأشخاص والسياق من جانب، والأفكار والمبادئ من جانب آخر، فهناك دوما ثوابت وهناك متغيرات، وعلينا أن لا نقيس الثابت بما هو متغير.
تظل يناير فكرة مجردة لا ترتبط بلحظة زمنية تحكم عليها بالنجاح والفشل، ولا تعرف الموت ما لم تسقط في مقابر الذاكرة الجمعية حقا، وتتحول إلى ماض يتحدث عنه البعض في المستقبل على طريقة حديثنا عن الفراعنة في الحاضر. هذا لم يحدث، ومن المهم ألا يحدث أيضا من أجل أهداف يناير للوطن والبشر، من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ومن أجل الديمقراطية والمساواة، ومن أجل المكاشفة والمحاسبة الغائبة عن المحروسة.
في هذا الحضور المتجدد، وعلى هامش كل ذكرى أو حدث كبير مرتبط بها، يعود إلى الواجهة تعبير «لساها ثورة يناير»، محاولة للتأكيد على أن يناير حية، وأن كل ما حدث من إخفاقات حتى اللحظة المعنية – مقاسا بتحقق أهداف يناير- مجرد محاولات إعلان وفاة لا تتم، لكن العبارة تحمل إمكانية أن تكون أكثر عمقا بأن تتحول إلى»لساها الثورة يناير» حين تكون يناير أيقونة في مكانة خاصة، ليست مجرد خطوة في مسار ثورة 23 يوليو و30 يونيو، كما تعامل معها الرئيس عبد الفتاح السيسي في البداية، عندما كانت مهمة من أجل الشرعية، وليست مجرد «علاج خاطئ لتشخيص خاطئ»، كما قال في سياق آخر عندما أصبحت شرعية يناير غير مطلوبة وإعلان وفاتها والتحرر منها أفضل، من أجل سلطة تعيد تعريف المفاهيم الكبرى بما فيها المواطن، والعدو، والدولة.
في تصريحات السيسي التي جاءت أثناء مشاركته في الندوة التثقيفية للقوات المسلحة في أكتوبر 2018، أضاف بأن «البعض قدم للناس صورة أن الأمور يمكن أن تتغير بعصا سحرية»، وتجاوز عن حقيقة أن وعود «بكره تشوفو مصر»، وكلها «6 شهور» لم تنسب للثورة ولكن له شخصيا، وبالتالي إن كان علينا أن نحاسب الوعود وفكرة العصا السحرية، سيكون من الطبيعي أن نحاسب فردا حاكما بأكثر من ثورة شعبية.
الوعي ليس أن يتماهى المواطن مع تعريف السلطة، ولكن أن يعرف المواطن والسلطة أن السيادة للشعب والبقاء للوطن
في الوقت نفسه ، لم تملك يناير مثل تلك العصا لأنها لم تكن حراكا فوقيا، على العكس من الطبيعي أن يكون الحراك الشعبي، الذي تطور على الأرض، بدون نفوذ خارج قوة الجماهير، وإن تحدث أحد باسم الثورة، يظل معبرا عن نفسه وليس عن الفعل الأكبر، لأنه لا يقدم برنامجا انتخابيا ولا يحاسب وفقا لمسؤوليات الموقع وفترة تولى السلطة. ما يظل باقيا من يناير، بالإضافة إلى قيمة فعل الغضب والثورة، والتعبير العلني عن عدم الرضوخ، وعدم قدرة السلطة وأجهزتها والتنظيرات ورموزها، على اكتشاف إمكانية الثورة قبل حدوثها، بالإضافة إلى كل هذا، وإلى ذكرى كل من استشهد وجرح وشارك، تظل الثورة مجسدة في أهدافها، وتظل أهدافها ضرورية اليوم كما كانت منذ سنوات، وتظل الديمقراطية والحرية وسيادة القانون، التي تمثل جوهر تلك الأهداف، أساسية للحاضر والمستقبل. كانت يناير كاشفة، ولكن هذا المعنى البسيط للأشياء تحول إلى العكس عندما قدمت الثورة بوصفها السبب، وكأن المطلوب من الإنسان أن يغيب الحقيقة للأبد، مقتنعا بأن كل الأشياء على خير ما دام الإعلام الرسمي يقول هذا، أو يؤكد أنه لا قطار ولا جثث كما في رائعة غابرييل غارسيا ماركيز «مئة عام من العزلة».
أضاءت يناير المشهد لتوضح الفجوة بين عالمين، أحدهما يبدو مستقرا ثابتا رغم قوارب وقطارات الموت والفقر والمعاناة، والآخر يبدو على حقيقته فاسدا وسلطويا وظالما. حاولت يناير أن تضئ العتمة ولكنها في الطريق تعثرت بفعل الكثير من العوامل، وما نجحت فيه هو كشف بعض التفاصيل، بدون القدرة على إجراء الإصلاح الضروري. ما نراه هو ما كشفته يناير، وما نعيشه نتيجة استمرار ما قامت ضده، حيث الثمن الذي يجب أن ندفعه بسبب عدم تحقق تلك الأهداف.
يعبر التحول إلى محاربة يناير رسميا، بعد فترة مهادنة قصيرة، عن الخوف والقلق لدى أصحاب السلطة، ودوائر المصالح والفساد، من تغير الأوضاع، في وقت يعد الاستقرار القائم على حساب الشعب هو المقدم على غيره. لسان حال السلطة، متى يعلنون وفاة يناير؟ ولسان حال الوطن متى يعلنون انتصار مبادئها؟
يعود من كان في كهوف الخوف والترقب من الإصلاح والمحاسبة أثناء الثورة إلى الواجهة، تظهر الاسماء نفسها، وهي تنظر لمصر الحاضر والمستقبل، تتجاوز أن تنظر إلى دورها في الماضي الذي أوصلنا للحظة، ويعد بأن يصل بنا إلى مستقبل يصعب أن يكون مختلفا أو أفضل. ولكن أشياء أخرى تتغير، وعالم ما بعد الثورة ليس هو عالم ما قبلها. سواء اختلفت أو اتفقت، تواجدت في أسرة ترى أن مبارك كبير العائلة ورددت «آسفين يا ريس» مع البعض، أو شاركت في يناير وطالبت بمحاكمته، في النهاية هناك وعي لا تغيره السياسات القمعية، ولا سياسات الإلهاء وغيرها. الوعي تغير، وتحولت يناير إلى حالة مصرية يجب أن تظل حية لأنها وحدها، بكل الزخم المحيط بها، قادرة على إحداث الفارق بين ما كان قبل وما كان أثناء وما حدث بعد الثورة. سيظل هناك من يؤمن، وهناك من يعترض، وهناك من يحاول أن يفهم، ولكن المؤكد أن هناك يناير التي تطالب الجميع بالتفاعل معها وتحديد موقف من أهدافها، وتصور مصر المستقبل من خلالها.
لهذا كان لافتا ظهور العديد من المشاركات التي حصلت على الكثير من الاهتمام على وسائل التواصل الاجتماعي في ذكرى يناير 2019، على الأقل بين دوائر الحالمين الذين شاركوا في يناير أو لديهم إيمان عميق بها، مشاركات جاءت من شباب أصغر سنا، بعضهم كان في سنوات الطفولة الأولى عندما حدثت الثورة، مشاركات تعبر عن موقف من الثورة ونضج الفهم وممارسة الفرز، وفقا للوعي الجديد. تعددت تلك المشاركات وإن برز بشكل خاص تعليق آدم أحمد بسيوني الذي استشهد والده، المدرس المساعد في كلية التربية الفنية، في جمعة الغضب 28 يناير 2011. آدم الذي كان عمره وقت الثورة عامين أصبحت تعليقاته عن والده ومشاركته في الثورة بارقة أمل للبعض، وصورة أخرى لتأكيد أن سرب الحمام لا ينتهي كما قال نجيب سرور.
بدورها تدافع السلطة عن وعي مختلف يتناسب مع مصالحها وغايتها الرئيسية، وهي البقاء وعدم تغيير توازنات القوة. يتحول العدو إلى أهل الشر والوعي المطلوب هو الذي يضمن تماسك الكتلة الصلبة بتعريفها القائم على التماهي مع السلطة ومواقفها، وكما قال الرئيس في خطاب أكتوبر المشار إليه، يتحول الواقع إلى استمرار لمعركة 1973 التي أكد أنها مستمرة بمفردات مختلفة، ولكن الفارق أن «الأول كان العدو واضحا والخصم واضحا، دلوقتي بقي مش واضح..» مؤكدا على أن «التحدي هو بناء الوعي.. العدو هو الوعي المزيف أو المنقوص»، ولكن المطلوب هو الوعي الموجه، الذي يظهر بصور مختلفة في أحاديث الرئيس، وهو يرسخ مكانة السلطة ويهمش حرية الرأي والتعبير والديمقراطية بشكل أساسي. في النهاية لا ترغب السلطة في عالمنا في وجود مواطن لديه وعي حقيقي بحقوقه، يسجل ما تنفقه وما تقوم به من مشاريع ويطالب بأن يعرف ما يحصل عليه الوطن بالأرقام، على طريقة الأرقام التي يطالب بأن يحفظها في كل حديث عن تكلفة خدمات المياه والصحة والكهرباء، وأن يطرح التساؤلات المنطقية حول خدمات الصحة والحق في السكن، وما يستطيع المواطن الوصول إليه بما يملكه بوصفه مواطنا.
السلطة لا ترغب في مواطن شعاره عيش وحرية وعدالة اجتماعية ومعها تساؤلات منطقية عن كيف يتم الاستيلاء على أراضي من مواطنين من أجل الاستثمار اسما، وشبكات المصالح والمال والنفوذ أو ضغوط الديون فعلا. ولا ترغب في عدالة تطرح تساؤلات منطقية عن ما الذي يحدث في واقع لا يحاسب فيه أحد، والتعليم يأتي في مستوى شديد التراجع عالميا (المركز 129 من 130 دولة في مؤشر جودة التعليم الأساسي والعالي – 2019)، والوزير المسؤول لا يري مشكلة في تسريب الامتحانات ويعلق بأنه «سايب الغش بمزاجه». ولا عن وضع العدالة ووزير الداخلية الإيطالي يعلن ساخرا أن الطريقة الوحيدة لمعرفة مصير الطالب جوليو ريجيني هو أن يترشح للرئاسة في مصر حتى يعرف من قتله. الوعي ليس أن يتماهى المواطن مع تعريف السلطة، ولكن أن يعرف المواطن والسلطة أن السيادة للشعب والبقاء للوطن وليس الكراسي. الوعي أن تكون يناير صديق لا يغيب، لا يختفي، لا نتذكره مرة في العام، ولكن أن يكون حضورها دائما مؤرقا للسلطة، ولكل مسؤول في موقعه، أن يكون بريق نور وبقايا أمل في مسار إصلاح مازال مطلوبا وضروريا.
*كاتبة مصرية..المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|