«الأيام الأخيرة للسيّد المسيح» وثائقي«بي بي سي» الذي صدم المسيحيين الروايات الدينية والتاريخ والتكنولوجيا الحديثة!!
بقلم : ندى حطيط ... 21.04.2017
الصورة التقليديّة للسيّد المسيح مصلوباً – أقله وفق التراث الكاثوليكي – ليست دقيقة تاريخياً، إذ أن الصلب المعتمد في العصر الرّوماني كان يتم بدق المسامير بالأذرع وهي مرفوعة للأعلى فوق مستوى الرأس، بينما يأخذ المصلوب وضعاً جنينياً لا تكون فيه الساقان ممدوتين للأسفل.
هذه واحدة فقط من مجموعة حقائق صادمة عن مولد وحياة وموت السيّد المسيح يقدّمها برنامج وثائقي- درامي ضخم جديد من إنتاج هيئة الإذاعة البريطانيّة «بي بي سي» بعنوان «الأيام الأخيرة للسيّد المسيح» في أربع حلقات بثته القناة الخامسة للتلفزيون البريطاني خلال إجازة عيد الفصح المجيد، وأثار جدلاً واسعاً في المملكة المتحدة بين المختصين والمشاهدين العاديين على نحو سواء.
رجال دين بارزون اتهموا «بي بي سي» بتضليل المشاهدين وخلط الأمور والتشكيك برواية الكتاب المقدّس عن حياة نبي المسيحيين وصلبه، بينما رحبت به قطاعات عريضة من المؤرخين والجمهور، معتبرين حقائق التاريخ والجغرافيا ينبغي أن تشكِل عاموداً فقرياً في فهمٍ أفضل لسيرة هذا النبي الكريم بدلاً من الاكتفاء بقبول تفسيرات مرحليّة للأفكار الدينية التي أتى بها.
منتجو الوثائقي – الدرامي الجدلي بامتياز لا ينكرون صعوبة مهمتهم في طرح هذه الحقائق على جمهور – عالمي – تشرّب وعبر آلاف السنين تصوراً معيناً عن كل ما يتعلق بالسيّد المسيح لا سيما في الرواية بشأن طريقة صلبه- فكأننا نسير في حقل من الألغام يقول أحد المنتجين – لكنّهم وقد جمعوا لبرنامجهم جهود وشهادات كوكبة من أهم المؤرخين العالميين المتخصصين بالعصور الكلاسيكيّة – واثقون بأن عملهم ربما يكون أدق عمل وثائقي عن تلك الفترة لناحية الحقائق التاريخيّة، وما قدّموه يجب أن يؤخذ على الأقل كاحتماليّة مقابل الرواية الدينية الرسميّة.
لا يناقض الفيلم فكرة وجود السيّد المسيح – التاريخي – لكنّه يعيد النظر بشأن معنى التفاصيل المذكورة عنه، كما جاء بها الكتاب المقدّس في إطار المفاهيم الكلاسيكيّة المتزامنة مع الأحداث التاريخيّة. مثلاً فإن مهنة السيّد المسيح تفهم من الرواية الرسميّة الكاثوليكيّة أنه كان نجاراً فقيراً، لكن الفيلم يقول إن الكلمة المستخدمة لوصف النجارة في العصر الروماني كانت تعني أكثر نوعاً من مقاول بناء، كما أن البـِناء الذي يعتقد أنه نشأ فيه في الناصرة يشير إلى منزل حجري مبني على نحو حسن لأسرة وكأنها من الطبقة الوسطى لا من الفقراء المعدمين، أيضاً فإن الفيلم يبدو وكأنّه يحاول تبرئة يهوذا الإسخريوطي وبونتيوس بيلات من دم السيّد المسيح.
ويوظف الوثائقي الدرامي تقاطعات من علم الآثار واللغة والتاريخ لتقديم فهم جديد للنصوص والتصورات القديمة ورواية الكتاب المقدّس.
جدالات حول من يمتلك «الحقيقة»
وقد نُقل عن مستشار الفيلم وأستاذ الديانات في جامعة دوك الدكتور مارك جوداكري اعترافه بسعي المنتجين إلى تقديم شيء يفاجىء المشاهدين بشأن روايات تقليديّة عن الأيام الأخيرة في حياة السيّد المسيح، لكنه قال إن الكتب المقدسّة لم تعط كثيراً من التفاصيل بشأن الأحداث – أو حتى شكل الصلب المحدد – وبالتالي فإن تقديم روايات تاريخيّة ممكنة سيدفع بالجمهور حتماً إلى إعادة النظر بالمسلمات، وهو أمر محمود.
لكن لم يتفق جميع الأكاديميين مع الدكتور جوداكري. وقد نقلت الصحف البريطانيّة جدالات لهم بشأن خطورة تقديم صورة مغايرة عن شكل الصلب، واعتبر بعضهم أن الشكل التقليدي للصلب والمتداول عبر القرون صار جزءا لا يتجزأ من فهم العامة لمغزى عمليّة الصلب في الدين المسيحي. كما شنت مصادر في جمعيّة الكنائس البريطانيّة هجوماً شديد اللهجة على منتجي الفيلم، معتبرة – على لسان رئيسها القس جورج كاري «إنهم يضللون الناس ويتلاعبون بالحقائق التاريخيّة، وهذا أمر خطير ومحزن».
الأسطورة تصنع دراما أفضل
الجدير بالذّكر هنا أن الفيلم هو جزء من سلسلة أفلام وثائقيّة – دراميّة يقدمها التلفزيون البريطاني عن الأيام الأخيرة في حياة المشاهير، وهي هامّة ليس فقط بسبب تقديمها لروايات تاريخيّة غير مألوفة عن حيوات هؤلاء المشاهير فحسب، لاكن لأنها تفتح نقاشات على نطاق واسع بين العاملين في مجال الوثائقيات و المؤرخين بشأن دقة العرض الدرامي ومصادر الحقائق التاريخيّة التي تطرحها السلسلة، وهو نقاش لا شك قديم قدم استحداث هذا النمط من من الأفلام الوثائقية التلفزيونيّة في بداية الستينات من القرن الماضي.
فالبعض يقول إن هذه الأعمال يجب أن تؤخذ أساساً كونها مجرد وجهة نظر شخصيّة لمنتجي الفيلم بشأن فهمهم للأحداث التاريخيّة، وكأنها مجرد اقتباس – آخر – لمسرحيّة شكسبيريّة، وإن السرد التاريخي سيخضع بالضرورة للحاجات الدراميّة للفيلم و»صناعة» للحقيقة من وجهة النظر الأيديولوجيّة لفريق العمل – أفلام باتون، فندق راوندا و ميونيخ مثلا -.
فالأسطورة تصنع دراما أفضل بكثير مما يمكن أن تصنعه الحقيقة على حد قول المخرج المعروف باري هامب.
لكن الطرف الآخر يرى أن الدراما الوثائقيّة، كما في تلك الأفلام هي شأن مختلف تماماً عن صيغة الفيلم الوثائقي – الدرامي الحديث، كما تحاول «بي بي سي» تقديمه في هذه السلسلة. فالشكل البنيوي للفيلم الوثائقي – الدرامي يقوم أساساً على قراءة الحدث التاريخي وتقديم إثباتات متقاطعة من النصوص والآثار والشهادات بالاستفادة من معطيات التكنولوجيا الحديثة والوصول إلى أهم خبراء المجال، ومن ثم يكون المحتوى الدرامي للفيلم خاضعاً بالضرورة للسرد التاريخي فيه ومجرد تكوين بصري مساند لعرض الرؤية التاريخيّة وأحد أدوات تقديمها فحسب – إلى جانب المقابلات، والتحقيقات الميدانيّة و المواد الإرشيفيّة والوثائقيّة.
بالتالي فإن ما يطرح في فيلم تلفزيوني وثائقي – درامي، كما في «الأيام الأخيرة للسيّد المسيح» ليس مجرد رؤية ذاتية للحدث من وجهة نظر فريق العمل، بقدر ما هو سرديّة متكاملة تقوم على أساس تصور تاريخي وحضاري شامل لمنظومة فكريّة ذات مصداقيّة وعمق – علمي – وتوظيف عريض لعدة أدوات بصريّة وتكنولوجيّة تجعل من تلك السرديّة في متناول جمهور التلفزيون الواسع، مقارنة مثلاً بالمحدوديّة النسبيّة لجمهور كتاب مطبوع عن ذات السرديّة.
لكن ذلك بالضرورة يثير مخاوف خبراء الثقافة الشعبيّة من أن المؤسسات الرأسماليّة الضخمة وحدها قادرة على إنتاج أعمال بحجم «الأيّام الأخيرة للسيّد المسيح»، وهو مما يعني في المحصلّة النهائيّة أن من يملك المال والسلطة يمكنه «تقديم الحقيقة»، كما يريد، بينما ستغيب الروايات النقيضة، أو الحقائق التي لا تساندها تلك المؤسسات عن العين والقلب والمُعتقد معا.
فليكن «الله» في عون الحقيقة عندنا
لكن ومهما كان موقفنا من «الأيّام الأخيرة للسيّد المسيح» فإننا في المنطقة العربيّة يمكن أن نتعلم شيئاً أو إثنين من خبرة البريطانيين في مجال البحث التاريخي، أقله الطريقة الحضاريّة الموغلة في شفافيتها، والتي تتم بها مناقشة أفكار شديدة الحساسيّة لعواطف جمهور واسع من المتلقين وتتضمن خلافات – بل وتناقضات – في وجهات النظر، لا سيما بقضايا تتعلق بأساسيات الفكرة الدينيّة. تخيّلوا مثلاً ماذا يمكن أن يحصل لو تجرأ أحدهم في الشرق الأوسط على تقديم سرديّة تاريخيّة نقيضة للسرد الكلاسيكي عن شخصية هامة من التاريخ العربي والإسلامي في فيلم وثائقي – درامي بمستوى «الأيّام الأخيرة للسيّد المسيح»!؟
بالطبع الأمر يستحيل نظريّاً، أقله ربما قبل عدة مئات من السنين، وإذا حصل في افتراضية حالمة فحتما ستنشب حروب وتسيل دماء وتقوم الدنيا ولا تُعاود القعود أبدا! فليكن الله بعون «الحقيقة» عندنا.
إعلامية لبنانية ... المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|