من لندن إلى غزة: الشاشات المنحنية… خان: نجاح الشعب وسقوط الإعلام!!
بقلم : ندى حطيط ... 20.05.2016
لطخات سوداء على وجه لوحة الديمقراطية البريطانية: عندما نجح الشارع بتفوق مبهر، وسقط إعلام المؤسسة سقوطاً مدوياً!
فيما اعتبره جميع المراقبين ووسائل الإعلام بمثابة انتصار حاسم لثقافة التعايش والتسامح وقبول الآخر وفصل الدين عن الدولة، في أوساط سكان العاصمة البريطانية، جاء الفوز الصريح للسيد صادق خان بمنصب رئيس بلدية لندن – وهو منصب له سلطات حكم محلي هامة للغاية في النظام البريطاني – بمثابة كشف آخر متكرر – حد الملل ربما – لانحياز هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، كما فشلها في تقديم خدمة متوازنة في تغطياتها السياسية، تعبر عن تقدمية سكان المدينة والمجتمع البريطاني ككل – بغض النظر عن الأصول والمنابت.
لقد كانت «بي بي سي» ومعها طقم الإعلام البريطاني الرئيسي كله دون استثناء تقريباً طوال الشهور الماضية منخرطة لأذنيها في خضم حملة شيطنة مستمرة ضد حزب العمال البريطاني، وذلك منذ تولي اليساري جيرمي كوربن قيادة حزب المعارضة الأكبر في البلاد، فقد بذلت جهداً ضخماً ضمن ما بدا واضحاً أنه حملة منظمة لإحياء تنانين ماتت منذ عقود بعد أن كانت استنفدت أدوارها سابقاً في «البروباغندا» الرسمية في الغرب: العداء للسامية والشيوعية والإرهاب الإسلامي.
لكن سكان لندن الثمانية ملايين – إقترعوا بكثافة ـ وقرروا بنسبةٍ قيل إنها الأعلى في التاريخ التي يحصل عليها سياسي بريطاني منتخب – حوالي 58٪ مع الإعتذار بالطبع للرؤساء العرب أصحاب الـ 99,99٪ التاريخية المشهورة – بأن كفاءة الشخص وبرنامجه أهم من دينه ولونه، فانتخبوا محامي حقوق إنسان مسلم من أصل باكستاني، عمل أبوه سائق باص وأمه خيّاطة تقليدية، حيث عاش معظم طفولته في بيت تمتلكه سلطات المدينة المحلية لتؤجره بأسعار رمزية للأسر ذات الدخل المتدني، وذلك في مواجهة مرشح المحافظين المليونير اليهودي الوسيم، الذي ينحدر من أسرة شديدة الثراء.
اللندنيون نجحوا بتفوقٍ في امتحان أخلاقي عالي الرمزية، في وقت سقطت فيه المؤسسة الإعلامية الأهم في أوروبا «بي بي سي» ومعها بقية الطاقم في السلطة الرابعة من تلفزيون وصحافة، حيث قدمت للناس مزيداً من الدلائل على انحياز الإعلام المعاصر وانعدام الموضوعي، كما سيطرة إيديولوجيا الطبقة المهيمنة، وذلك بوقوعها في فخ التضليل المتعمد والإنحياز البالغ ضد اليسار.
إنحياز «بي بي سي» لأجندة المؤسسة الحاكمة ضد رغبات الأغلبية الشعبية – التي تبدو أكثر تنوراً بمراحل من سلطتها الرابعة – ليس بالأمر المستجد، بالنسبة لمراقبي الإعلام البريطاني. فهي دعمت الحرب على العراق في وقت خرج فيه الملايين إلى شوارع لندن لمناهضتها، كما أنها منحازة، ربما بشكل مرضي وأكثر من معظم الوسائل الإعلامية البريطانية الأخرى ضد الفلسطينيين في صف إسرائيل بغض النظر عن طبيعة الحادث وهي حديثاً ضد إستقلال إسكتلندا والأحدث ضد قيادة السيد كوربن لحزب العمال المعارض.
لقد تحول المحررون السياسيون لـ «بي بي سي» – وهو منصب شديد اللمعان في المشهد الإعلامي البريطاني – إلى هدف مباشر صريح للكراهية الشعبية والإتهام الدائم بالإنحياز لأجندة اليمين.
ولولا تدخل رئيس الوزراء نفسه ومن ورائه اللوبي الصحافي البريطاني كله لأطاح إستفتاء شعبي على الإنترنت بـ(لورا كونسبيرغ) من منصبها كمحررة سياسية لـ «بي بي سي» بعد أن تجاوز الموقّعون على الإستفتاء المطالب بإقالتها – قبل إلغائه – مئات الألوف من الغاضبين من شدة إنحيازها وتحويلها شاشة «بي بي سي» إلى ملعب لتآمر اليمين الحاكم الفظ ضد صعود نجم السيد كوربن.
وبالطبع فإن السيدة كونسبيرغ ليست إستثناء في هذا المقام، إذ يتذكر الجميع المحرر السابق المكروه شعبياً لشدة إنحيازه أيضاً – نيك روبنسون – وكذلك أندرو مار – بوق السيد توني بلير – رئيس الحكومة الأسبق، الذي قاد بريطانيا لمشاركة الولايات المتحدة في الحرب على العراق.
بالطبع ليس مطلوباً من الصحافي ولا من الإعلامي أن يكون بلا لون. فلكل قناعاته ومواقفه، لكن كان من الأجدر بالمحطة إحتراماً لجمهورها، الذي يدفع تكاليف تشغيلها العالية – بدل أن تدّعي برثاثة تثير الغضب أنها تمثل عدم الإنحياز في التغطية واللاحزبية، أن تعترف بأن موظفيها يعبرون عن وجهات نظرهم الفكرية والسياسية الشخصية، وأنها تستوعب مروحة واسعة من الأراء المختلفة، التي تعكس بحق طيف الآراء في المجتمع البريطاني.
لكنها لم تفعل، كما تخلت عن دورها كمؤسسة وطنية للشعب البريطاني كله لتصير بوق المؤسسة الرسمية الحاكمة وبمثابة أداة أخرى من أدوات الهيمنة وغسيل العقول وجزءًا لا يتجزأ من ترسانة السياسة.
حتى عندما تُجري حوارات إطارها الخارجي هو تقديم وجهات النظر المختلفة، تأتيك أسلوبية الطرح بهيئة شديدة الإزعاج لجهة إنحيازها وغياب أي عقلانية في مواجهة الخصوم، ولعل مقابلة «أندرو مار» مع صادق خان، غداة فوزه لهي أصدق مثال على ذلك. لم يكلف أندرو نفسه عناء سؤال السيد خان عن سياساته أو توجهاته نحو القضايا، التي تهم الجمهور ومن أجلها إنتخبوه – بل إندفع في سلسلة متتالية من الأسئلة المعلبة حول تأثير إنتماءات السيد خان على العملية الإنتخابية وكيف له أن يصبح على نحو ما نقيضاً لزعيم المعارضة السيد كوربن. هنا السيد مار كان لسان حال السلطة الحاكمة وخادم أجندتها – لا أكثر ولا أقل.
أزمة «بي بي سي» المتجددة مع جمهورها كرّست إتجاها عاماً لفقدان الجمهور البريطاني – والأوروبي – عموماً لثقته في وسائل الإعلام، إذ لم يعد يعتبرها معبرةً عنه ولا ترتقي لتكون ناطقةً بإسمه. لقد تصدعت لوحة الديمقراطية الجميلة وسقطت فكرة الإعلام بوصفه سلطة رابعة تراقب السلطات الثلاث الأخرى فصارت بالنسبة إلى الجمهور مجرد لغو دعائي وبروباغندا للمؤسسة الحاكمة يترك منه أكثر مما يؤخذ. وبعدها يسألونك لم يتحول الناس إلى الإنترنت والفضاء الإجتماعي عن التلفزيونات والصحف؟!
في عالم مواز حيث الإعلام يحترق
هذا بالطبع يحدث في قلب بريطانيا، الأمة الأكثر تطوراً إعلاميا في العالم الغربي – المتحضر نظرياً -. بينما الحال في الشرق الأوسط ليست سوى «كوميديا سوداء» لتراجيديات إنسانية تكاد تشابه الخرافات في القدرة على التصديق، فجرعة السم اليومي عناوين الشاشات.
مؤخرا وفي مشهدية إحتراق الإنسانية في غزة المحتلة، لا تخجل وسائل إعلام الأطراف السياسية المتناحرة فيها بالمتاجرة بآلام الفقراء والمهمشين والصابرين على جهنم العيش في ظلهم.
هذه عائلة الهندي الصغيرة – التي فقدت ثلاثة من صغارها بعمر الورود، بسبب حريق شب في منزلهم المتواضع جراء إشتعال الشموع بأثاثه،إذ يعيشون في ليل شبه دائم، حيث الإنقطاعات المستمرة للتيار الكهربائي عن القطاع – هذه العائلة تحولت مأساتها إلى ذخيرة وأداة للتراشق السافر بين شاشتين كل واحدة منهما ترمي الذنب على الأخرى، شاشة السلطة الحاكمة في غزة تهاجم سلطة رام الله، وشاشة سلطة رام الله تهاجم سلطة غزة. وضاع الموت والإحتراق والفقر والإحتلال وعذابات الناس عند أقدام إعلام السلطتين كموضوعاتٍ لا تستحق الكثير من عناء التغطية، وإن حدث وفرضت قسوتها أحياناً حق الظهور – فإنها توظّف لخدمة السرديات السياسية ذاتها والتلوينات الشديدة الإنحياز، دون أدنى إنسانية بالتعاطي مع مشاعر الضحايا أو عذاباتهم، كما وصلت إلى حد المتاجرة بضعف الأب المثلوم كوسيلة للإستعراض الإعلامي، بمنحه علناً أمام الكاميرات راتباً ومسكناً. لسنا ندري بالضرورة إن كان ذلك تحقق فعلاً بعد توقف الكاميرات عن البث المباشر، كما لا أحد يعلم ما هي الصيغة القانونية لهذه المنحة وقيمتها سوى أن الرجل كسبها مقابل خسارة أولاده الثلاثة – لكن الأكيد أن كرامة الرجل المفجوع ومشاعره وخسارته لفلذات أكباده قد تحولت إلى سلعة للمتاجرة في مزاد الحزبية والمناكفات وبناء الصور الخادعة عن رعاية مصالح الفقراء وإقالة عثراتهم.
لقد إنتهى إعلام المناضلين – وللأسف – إلى التحول إلى مصدر للإزعاج والمتاجرة والقسوة ضد حزن الفقد والإنكسار.
أيها الصغار الراحلون. حرقتم أرواحنا بحريقكم كالياسمين المشتعل، رغم كل جعجعة الشاشات المنحنية. إنها فعلا جهنم الإعلام.
كاتبة لبنانية تقيم في لندن..المصدر: القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|