النقب …صحراء بين بحرين ومعركة مفتوحة على الأرض والرواية!!
بقلم : وديع عواودة ... 29.01.2017
تشكل صحراء النقب ثلثي مساحة فلسطين وكانت آخر منطقة فيها يستكمل احتلالها في فبراير/شباط 1948 ضمن عملية «يواف» ومن وقتها لم تنته المعركة على تهويدها ويواجه البدو المتبقون فيها نوعا من التطهير العرقي. ينقسم البدو (15 في المئة من فلسطينيي الداخل) إلى فئتين رئيسيتين، الأولى تشكل أقلية تقيم في الجليل والثانية هي الأكثرية المقيمة في النقب وفي الحالتين أصولهم واحدة من سيناء وشبه الجزيرة العربية. لأسباب تاريخية وثقافية يقيم البدو الفلسطينيون أيضا في معزل جغرافيا واجتماعيا عن بقية فلسطينيي الداخل واستخدمت إسرائيل ذلك وسيلة لسلخهم عن بقية شعبهم كما تجلى بالضغط عليهم لأداء الخدمة العسكرية في الجيش كقصاصي أثر في الصحراء في الأساس. ويقيم في النقب اليوم نحو 200 ألف فلسطيني يقطن عدد قليل منهم في عاصمة الصحراء مدينة بئر السبع والبقية في ست قرى ومدينة رهط وفي 45 قرية غير معترف بها إسرائيليا ومحرومة من أقل الخدمات. واحتدمت المعركة على هوية النقب مجددا قبل نحو عقدين بعدما أعد رئيس حكومة إسرائيل الراحل أرييل شارون خطته لمحاصرة البدو عددا ومساحة جغرافية.
رسالة بن غوريون لولده
وهذه فكرة صهيونية قديمة، فقد بعث ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل رسالة إلى ابنه عام 1938 يقول له فيها «إن أراضي النقب محفوظة للمواطنين اليهود متى شاءوا واينما شاءوا ولابد من طرد العرب وأخذ مكانهم». وفعلا لم يبق في عام 1951 من البدو إلا 13 ألف نسمة مع أن عددهم كان يتراوح أواخر الأربعينيات بنحو 90 ألف نسمة. في أواخر عام 1953 أصدرت الأمم المتحدة تقريراً ذكرت فيه أن سبعة آلاف بدوي من النقب جرى ترحيلهم إلى مناطق قريبة من الأردن والى غزة وسيناء اللتين كانتا خاضعتين للحكم المصري مع أن الكثير منهم انسل عائدا عبر الحدود دون أن يتمكن أحد من اكتشافهم. ويستذكر الجغرافي الباحث د. ثابت أبو راس أن موشيه دايان، قائد القوات الإسرائيلية، في حرب عام 1967 وأكثر القادة العسكريين شهرة قد تحدث عما يدور في خلد الإسرائيليين عندما تنبأ بقرب زوال ظاهرة البدو عن الوجود.
رحم المرأة البدوية
ويوضح أبو راس لـ «القدس العربي» أن أسباب هذا العداء الذي يكنه القادة الإسرائيليون للبدو ذو شقين، فالحكومات الإسرائيلية التي كانت تسعى إلى بسط سيطرتها على الأرض والسكان، كان يساورها القلق حيال نسبة الإنجاب عند البدو وهي من الأعلى في العالم. كما أن نمط حياة البادية القائم على الترحال يجعل من المستحيل ضبط تحركاتهم ومراقبة أنشطتهم كما هو حاصل بالنسبة للتجمعات السكنية العربية الثابتة.
تعتبر منطقة النقب الممتدة حتى عسقلان وسدود على البحر الأبيض المتوسط والعقبة على ساحل البحر الأحمر أفضل بقعة شاسعة لاستيعاب موجات الهجرة اليهودية مستقبلا، كما أن الطبيعة القاحلة لهذه الصحراء وصعوبة اختراقها أو مشاهدة التحصينات فيها، جعلها مكانا مناسبا لإنشاء القواعد العسكرية والعمليات الحساسة. فقد تم على سبيل المثال إنشاء المفاعل النووي الإسرائيلي بالقرب من بلدة ديمونا في النقب وهناك تم اجراء تدريبات على مخطط لاغتيال الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. يطلق على المنطقة التي يتجمع فيها البدو في النقب «منطقة الحصار» حيث تم إنشاء حلقة محكمة من المستوطنات اليهودية لاحتواء البدو، حيث أخذت أراضيهم تُلتهم تدريجيا جراء إنشاء المزيد من المناطق الصناعية والقواعد العسكرية والمحميات الطبيعية، إضافة إلى مطار.
كل قرية من القرى البدوية محاصرة ومفصولة عن سائر القرى البدوية الأخرى بمزارع يهودية ومستوطنات ومدن تطوير ويعيش البدو في النقب اليوم على 2 في المئة فقط من المساحة الإجمالية.
لا ماء ولا كهرباء
ظلت إسرائيل منذ الستينات تصنف التجمعات السكنية البدوية بالنقب كتجمعات مبعثرة غير معترف بها ومارست ضغوطات شديدة على سكانها للتخلي عن نمط الحياة الزراعي. وعرضت الدولة على البدو الانتقال إلى واحد من سبع قرى تشبه مخيمات ريفية تم إنشاؤها في السبعينات وهي البلدات التي تتقوقع عند أدنى معدلات التطور الاقتصادي والاجتماعي. أما بالنسبة للفرد الذي يرفض عرض الدولة فقد يضطر للعيش في قرى غير معترف بها، وهذا يعني انه محروم من تلقي الخدمات العامة كالمياه والكهرباء والعيادات الصحية والمدارس. على سبيل المثال يضطر الأطفال في قرية عبدة السفر 87 ميلا في اليوم ذهاباً وإياباً إلى منطقة معترف بها من أجل تلقي التعليم في المدرسة. وجميع مساكن البدو غير مرخصة (ليست لهم بلديات يقدمون فيها طلب الحصول على رخصة بناء)، وبالتالي فهم عرضة لأوامر الهدم. هناك نحو 30 ألف مسكن بدوي معرض للهدم بدعوى أنهم غزاة ولا يملكون وثائق طابو تثبت ملكيتهم لذلك يضطر أغلب سكان القرى البدوية للعيش في خيام أو أكواخ الصفيح المعدنية.
دوريات سوداء
كان شارون الذي يملك مزرعة شاسعة في النقب، أول العدائين ضمن سباق طويل نحو ترحيل البدو من أرضهم التاريخية، فقد انشأ أوائل السبعينات عندما كان يشغل منصب وزير الزراعة، شرطة شبه عسكرية خاصة بالنقب، أطلق عليها اسم «مضلل» وهو الدورية الخضراء ووصفها البدو بـ «السوداء» بهدف تنفيذ أوامر هدم بيوت السكان البدو ومصادرة قطعان الماشية والأغنام التي يملكونها، ووعد شارون آنذاك بأن يؤدي إنشاء الدوريات الخضراء إلى إعادة انعاش النقب، وقد سنحت له الفرصة بعد أن أصبح في 2001 رئيساً للوزراء لإنهاء المهمة التي بدأها. في 2003، صادقت حكومة شارون على خطة خماسية متعددة رصدت لها ميزانية تقدر بنحو 200 مليون دولار كمحاولة جادة لمعالجة المشاكل التي يعاني منها البدو وكذلك معالجة قضية الأراضي.
تطهير عرقي
أما البدو الذين نظموا أنفسهم في «مجلس إقليمي» للقرى غير المعترف بها فقد اعتبروا الخطة إعلان حرب عليهم لا سيما أنه لم تتم مناقشة الخطة مع أي من ممثليهم. ومن وقتها المعركة تكاد لا تتوقف يوميا على تنفيذ هذه الخطة بكل نسخها وطبعاتها ويرى فيها رئيس «المشتركة» النائب أيمن عودة غطاء أداة سياسية مرتبة لاستعمال القوة لطرد كل البدو من قراهم المبعثرة إلى ثلاثة مخيمات أنشئت على أنقاض ثلاث قرى سابقة غير معترف بها أُنشئت على طول خط القرى السبع القائمة. عودة الذي يكرس الكثير من طاقاته لأجل حماية النقب وأصيب في المواجهات الأخيرة بعيار مطاطي في وجهه يعتبر أن النقب يواجه اليوم عمليات تطهير عرقي تتجلى بوضوح في محاولات هدم قرية أم الحيران وبناء مستوطنة لليهود على أنقاضها ترث أرضها واسمها. ويتم ذلك بقوة قانون خاص بمنع «غزو البدو للأرض» يعتبر أصحاب الأرض منذ قرون غزاة ويهدف التمهيد لتوطين مهاجرين يهود تم استقدامهم من أصقاع الدنيا. ويواجه بدو النقب تحديات كثيرة في ظل غرامات باهظة تفرض عليهم تباعا وتباد مزارعهم بالمبيدات الكيميائية أو بحرثها بالجرارات مثلما يتم هدم قراهم عشرات المرات. فقرية العراقيب وحدها هدمت حتى الآن 110 مرة حتى باتت رمزا لصمود وبقاء البدو بل كل فلسطينيي الداخل على أراضيهم.
بجوار الموتى
التقينا الشيخ صياح مديغم الطوري أبو عزيز داخل براكية مجاورة لمقبرة قرية العراقيب تستخدم عادة بيتا للعزاء، أقام فيها ريثما تكتمل عملية إعادة بناء ما هدمته الجرافات الإسرائيلية. ويتابع»في المرة السابقة أبعدونا لمدة يومين فعدنا للمقبرة والمسجد بأمر من المحكمة بعدما أوضحنا أن أغنامنا بقيت هناك ولابد من رعايتها». ويدعو الشيخ الطوري لنشر صور الأحياء التي يقيمون فيها بجوار مقبرة نتيجة ممارسات إسرائيل ويتابع بما يشبه النكتة المرّة «الحمد لله … هنا يكفل الأموات الأحياء ويساعدونهم على البقاء وهذه مقبرة تاريخية تحتضن رفاة أجدادنا منذ العهد العثماني وقبل أن تولد الصهيونية». يراهن أبو عزيز على المسار الشعبي والصمود على أرضه لإفشال مخططات ترحيل وتهجير العراقيب بموازاة ادعائه القضائي لإثبات ملكيته على الأرض في القرية الممتدة على مساحة 1050 دونما ويسكنها قرابة 300 إنسان.
أملي بالله
ويتابع بلهجة واثقة «لا أعول كثيرا على المسار القضائي لأننا فاقدون الثقة بالعدل وهذه الدولة حتى لو لم تحكم بالعدل لدينا أمل بالله بأن ينسفها على من فيها». خلف كانون فيه كومة جمرات يحتضن أواني القهوة العربية التقليدية، يستذكر أبو عزمي أن إسرائيل شنت حملتها الأولى على العراقيب وهو طفل عام 1953 لكنها كثفت حملات التهجير بعد 1967. ويؤكد أن في حوزته أكثر من دليل على ملكيته الأرض منها الكواشين وعقود شراء تاريخية. ويشدد أبو عزمي رفضه مساومته على أرضه بتعويضه ماليا أو تبديلها بأرض في مكان آخر ويتابع: «لن أرحل ولو عرضوا علي عشرة دونمات عن كل دونم فهي ليست منطقة عسكرية وغير مخصصة للصالح العام وأنا أحق بها فكيف أترك أرضي وأقيم في أرض الغريب؟».
سر الصمود
وللتدليل على تشبثه وأقاربه بالعراقيب بكل ثمن توجه لأحفاده الصغار المتحّلقين من حوله، سعيد، ومحمد وربيع فأجابوا على سؤال بالتأكيد القاطع أنهم يرفضون الانتقال لمدينة رهط وغيرها فيردف حازما: «والله لو فرشوها ذهبا ما سكنا في المدينة». وعن سر صموده في أرضه رغم اقتلاع الزيتون وهدم منزله يقول إنه وأقاربه اعتادوا على سياسات التعذيب والممارسات الوحشية الإسرائيلية ويضيف «مصممون على البقاء فالحياة لمن يصمد». يشار إلى أن جرافات الهدم الإسرائيلية قد اقتلعت 4500 شجرة زيتون تملكها عائلة أبو عزيز كان بدأ بقطف ثمارها عام 1999 بعدما رباها بـ «دموع العين» واستجلب الماء من مناطق نائية لريّها.
مصابون بداء الكلب
ويشير أبو عزمي بلهجة واثقة غاضبة أن العراقيب أقدم من إسرائيل وبخلافها هي لم تغز أحدا ويتابع «هؤلاء الذين يتخذون قرارا بهدم منازل على رؤوس أهلها بالقيظ والقرّ هم مرضى وغير أسوياء وربما مصابون بداء الكلب». وتابع «داهمونا في المرة الأخيرة بعد صلاة الفجر فهدموا الخيام والمنازل الإسمنتية دون منحنا فرصة إنقاذ أثاثها، بل هدموا قن الدجاج والحمام واقتلعوا الشجر». وردا على سؤال يضيف «لم يبق شيء نبكي عليه وطالما بقيت الأرض ونحن عليها فلن نبكي على بيت هدم». النائب أيمن عودة الذي سبق وأقام في العراقيب نحو الشهرين قبل دخوله الكنيست واعتقل عدة مرات يؤكد أن الشيخ الطوري هو عزيز النقب ويستحق منحه جائزة إحياء القفار والصحاري بدلا من اقتلاعه وأهله!! المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|