logo
1 2 3 41134
مشردون في شوارع تونس فراشهم الكرتون ولحافهم الفضاء !!
28.01.2020

ازدادت ظاهرة الفقر في السنوات الأخيرة فدفعت بالبعض من الفقراء إلى الشوارع بعد أن عجزوا عن توفير مأوى لهم خاصة في فصل الشتاء، وبدأت رحلة المعاناة حيث يعيشون مما يمدّهم به الناس، لكن المنحرفين يزيدون معاناة المشردين بتعنيفهم وسلبهم القليل الذي معهم في ظل غياب سلطة تحميهم.
تونس - انكمشت سهى في ركن منزو تلفه العتمة من شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية رمز الثورة والحرية، قرب رواق أحد المحلات غير بعيد عن كاتدرائية “سان فانسون دو بول” وقبالة نصب العلامة بن خلدون، لا هم لها سوى تهيئة ملاذ يؤويها في ليالي صقيع شهر يناير.
انسدل شعرها البني يحجب سمات وجه يعكس وطأة المعاناة، تقول “اضطررت إلى السكن في الشارع الطويل منذ خمس سنوات بحثا عن قلوب رحيمة ترأف بي وبأخوي المعوقين اللذين تركتهما في مسقط رأسي، بعد أن فقدنا الأب والأم”.
تقول سهى، في حين كان عبدالمجيد المكلف ضمن فريق الإسعاف الاجتماعي يقدم لها وجبة عشاء وغطاء وجوارب لمقاومة البرد، “أحيانا أتعرض للاعتداء من أشخاص يسلبون ما جاد به المارة علي، وبعضهم يتحرش بي. مؤخرا، تعمد أحدهم خطف حقيبة يدي التي خبأت فيها ما جنيته من صدقات العابرين بالشارع، كنت شكوت ما حدث لي إلى دورية من أعوان الأمن مرت بعد فترة لكن دون جدوى”.
تلتقط سهى الأنفاس كأنما تستحث الذاكرة على المزيد من البوح، مشيرة إلى زاوية غير بعيدة عن ملاذها وتضيف قائلة “أهل الخير كانوا يعطفون علي أنا وصابر جاري في الزاوية، لكنه غادر وصرت أجمع مبلغا أفضل من صدقات الناس. لكن سراقا ينهبونني بل لا يتورعون عن ضربي لافتكاك ما أجنيه”.
وفي شارع الحرية وسط العاصمة اضطرت حميدة (59 سنة)، إلى الاستحواذ على ركن بين واجهات المحلات التجارية، فهي إحدى ضحايا قانون إجبارية مغادرة الأطفال قرى “أس أو أس” عند بلوغ سن الرشد.
وزارة الشؤون الاجتماعية أطلقت آلية إغاثة لمن هم دون سند، فشمل التكفل بـ539 شخصا وأسديت 1641 خدمة للمشردين
تعكف حميدة قابعة طيلة النهار قبالة جامع الفتح، إلى وقت متأخر من الليل، على بيع المناديل الورقية والعلكة منذ خمس سنوات، تقول بمرارة “قدرنا، أطفال قرى الأطفال، أن نعيش الشارع أول حياتنا وآخرها”.
ورغم غياب إحصائيات رسمية حول المشردين في تونس، أطلقت وزارة الشؤون الاجتماعية آلية إغاثة اجتماعية لهم وللعائلات دون سند منذ ديسمبر 2015.
وتقوم هذه الآلية على تعبئة فريق يتكون من أخصائي علم اجتماع وآخر في علم النفس ومساعد ممرض ومنقذ يعملون على تزويد هؤلاء المشردين بالملابس والأغذية والإسعافات الأولية وبعض الاحتياجات الأساسية.
كما يسعى الفريق إلى إيجاد حلول للإقامة المؤقتة بمركز الإحاطة والتوجيه الاجتماعي بالزهروني.
وتشير أرقام الوزارة إلى أنه تم التكفل بـ539 شخصا وإسداء 1641 خدمة للمشردين.
وخلصت دراسة أًنجزت بالشراكة بين مركز الإدماج الاجتماعي في الزهروني وجمعية الإسعاف الاجتماعي الدولية، في ديسمبر 2019، إلى أن انعدام المداخيل والانقطاع عن العمل والديون ومشاكل الميراث، كانت وراء لجوء 33 بالمئة ممن تم التكفل بهم إلى الشارع، فضلا عن الهشاشة الاقتصادية والفقر (بنسبة 35 بالمئة) والمشاكل العائلية (25 بالمئة) والأمراض المزمنة والإعاقات بنسبة 19 بالمئة.
جلست حميدة القرفصاء متكئة على الحائط تسرد حجم معاناة السنين؛ قالت إنها طيلة رحلة العمر ذاقت الأمرّين، فمن دار الرضيع في مدينة بنزرت إلى قرى الأطفال بحمام الأنف والمراكز المندمجة، ففضاء المرأة المعنفة التابع للاتحاد الوطني للمرأة، لتشتغل بعد ذلك في البيوت معينة منزلية وترزح، وفق توصيفها، تحت نير استعباد تعددت مظاهره، ليرسو بها مركب الحياة في الشارع.
تكلمت بصوت منخفض ولا يكاد يُسمع، إذ كانت تعاني من رشح شديد لتطلب من أعوان الإسعاف الاجتماعي إسعافها بدواء للرشح وبآخر لمرضها المزمن، وأعلمتهم بأنها لم تجد حذاء يقيها برد الليل والرصيف، بعد أن أتلف أعوان الشرطة البيئية أمتعتها حين اقتلعوا “منزلها” الكرتوني الذي شيدته ليقيها من زوار آخر الليل، فما كان من الفريق إلا أن وفّر لها عشاء وغطاء وحذاء. تقول وآثار العنف بادية على محيط إحدى عينيها بسبب تلقيها لكمة من أحد المنحرفين قام بسلبها هاتفها الجوال الليلة الماضية، “المنحرفون يتهجمون علينا في كل مرة ويسلبوننا ما جمعنا من مال وما لدينا من متاع، تعرضت إلى الطعن مرتين في محاولات للاعتداء علي”.
قادت فريق الإسعاف الاجتماعي كي تكشف لهم نصف مسكنها الكرتوني الجديد الذي رتبت فيه فراشها وغطاءها وما تملكه من نزر قليل من الملابس، فالمساعدة الاجتماعية الخاصة بالعائلات المعوزة وقيمتها 180 دينارا لا تكفيها لاستئجار سكن. استرشدت بعد ذلك من الفريق عن مكان مركز الإدماج الاجتماعي بمنطقة الزهروني طلبا للاستحمام فيه لاحقا.
وتحلم حميدة بنيل تعويض عن حادث سير تعرضت له وتسبب في تدخل جراحي على جسمها.
قالت لوكالة تونس أفريقيا للأنباء (وات)، إنها تقدمت أيضا بمطلب للحصول على رخصة كشك تستطيع أن تعيل منه نفسها وتوفر أجر غرفة تقيها الأشرار، لكن طلبها قوبل بالرفض.
غير بعيد وتحت عمود إنارة عمومية محت عتمة المكان عند الركن الغربي لجامع الفتح، استلقى الهادي (37 سنة) على مرتبة بالية وخبأ رأسه بجزء من غطاء صوفي يواري قدميه، ما حدا بفريق الإسعاف الاجتماعي إلى تمكينه من عشاء ليلته وغطاء جديد.
يعاني الهادي من مرض السل ورفض أن يكشف عن معاناته بأي حديث، قال أعضاء فريق الإسعاف إن إصابته بالسل أفقدته عمله كنادل بأحد المقاهي، وبمجرد طرده من العمل لاذت زوجته ببيت أهلها ليساعدوها على التكفل بابنها المعوق واتخذ هو من الشارع مأوى.
إدمان الكحول سبب تيه العم حسن بن صالح، ومكوثه تحت زخات المطر محتميا بشجيرات أمام أحد النزل بشارع أولاد حفوز وسط العاصمة، حيث يفترش مرتبة مهترئة ويلتحف غطاء باليا. قال إنه يقيم في الشارع منذ خمسة وثلاثين عاما.
قال العم حسن الذي يقيم في الشارع منذ خمس سنوات، “فريق الإسعاف الاجتماعي وقليل من أهل الإحسان يقدمون لي المساعدة. في غالب الأحيان حين أريد الاستحمام ألجأ إلى محطة تنظيف سيارات وأغتسل في الشتاء والصيف بماء بارد”. كان العم حسن قد أقام في مركز الإدماج الاجتماعي سنتين متتاليتين ثم تم تمكينه من إحداث مشروع تمثّل في عربة لبيع الخضر والغلال في السوق، حقق المشروع أرباحا لكن إدمان العم حسن على معاقرة الخمر أتى على رأس المال فأفلس.
على عتبة أحد المحلات الكبرى بشارع الحرية انطوت سعاد مفترشة أوراق كرتون وغطت جسمها بغطاء صوفي مهترئ، وهي تدخن سيجارتها بنهم. قالت لمنسّق فريق الإسعاف الاجتماعي “وعدوني بجراية، وذهبت إلى مقر وزارة الشؤون الاجتماعية فأعلموني هنالك بأنهم كذبوا علي. لا جراية لي ولا ملف يخصني يوجد لديهم أصلا”.
أجابها المسؤول مبديا تعاطفا “ملفك لم يصل بعد إلى الوزارة، ما زال لدى المندوبية الجهوية” ثم وعدها بمتابعة ملفها.


www.deyaralnagab.com