مدينة صيدا اللبنانية سيدة البحار وأسواقها القديمة لم تنل منها “ثورة الإسمنت” !!
29.09.2019
كتب رلى موفق.. كلما تسلّقت ثورة الإسمنت الناطحات وجماليات حداثتها، ازداد ألق التراث ووقاره ورسوخ ذاكرته. تلك هي المعادلة التي تحكم المدن العميقة في تطوّرها، فحاضرها لا يستقيم من دون ماضيها كإرث يُفاخر به المستقبل.
في لبنان مدن تختزل في حكاياتها لعبة الجغرافيا التي جعلت من التاريخ كأنه ماض لا يمضي، ولعل البحر في سحره شكَّل سر المدن التي دبّت فيها الحياة باكراً ولم تغادر أمكنتها رغم الغزوات الغادرة التي توالت عليها على مرّ الأزمنة وقراراتها.
ولم يكن أدل على هذه “التوليفة” من “سيّدة البحار” إحدى أقدم مدن العالم وأكثرها شهرة تاريخية، والأولى التي بناها الفينيقيون على حافة المتوسط بعدما كان أسسها حفيد نوح في 2218 قبل الميلاد لتصبح، تارة شاهدة على الأزمنة والأحداث، وتارة شهيدة لها.
إنها صيدا، التي كانت يوماً صيدون، المدينة اللبنانية التي تسترخي على خط الوسط بين بيروت وصور، وتبعد عن العاصمة 45 كيلومتراً مربعاً. مدينة المفارقات التي تكاد لا تُعد ولا تُحصى، في تاريخها، وعلى مرّ الأيام التي جعلت منها ثالث أكبر المدن في بلاد الأرز بعد بيروت وطرابلس، وعاصمة جنوب لبنان وبوابته في الاتجاهين.
مَن يزور صيدا أو يجول في دفاترها القديمة وأسواقها ويطوف في دساكرها ويُعاين ناسها يكتشف كم هي العلامات الفارقة في مدينة شهدت تحوّلات في حجرها وبشرها منذ كبرت صيدون وصارت صيدا، تحولات في العمران، وفي الأدوار والاجتماع والسياسة والوجوه.
قلعة بحرية تغرس قدميها في الرمل والتاريخ وتحرس المدينة القديمة، وقلعة برية تحاكي نظيرتها وتؤازرها في أيام الشدائد، فميناء يفتح عينيه وأشرعته على البعد ومرافئ للصيادين أولاد الفجر وسمرة الشمس، تطارد شباكهم الأسماك والقوت المغمس بالتعب والدم أحياناً.
تُشكِّل في ماضيها وحاضرها “مجسماً” للفكرة اللبنانية القائمة على التعايش. مساجد، أكثرها صموداً وحضوراً الجامع العمري الكبير، تُجاورها كنائس لمذاهب مسيحية عدة ومعبد يهودي، أما خان الإفرنج المؤلف من فناء داخلي وطبقتين فأعيد ترميمه ليصبح صرحاً ثقافياً.
اكتشافات أثرية
وتتباهى المدينة التي خرجت من شرنقتها يوم خرجت على السور وتمددت، بشاطئها الذهبي وجزيرتها الصغيرة الملقبة بـِ”الزيرة” وبقصور كأنها تحف وباكتشافات أثرية متوالية كلما جرى نبش باطنها والتنقيب عن التاريخ العريق في أحشائها.
ولم تعد صيدا “صيداوية” بحت بعدما حملت إليها نكبة فلسطين عشرات الآلاف من اللاجئين الذين تموضعوا في مخيمين فلسطينيين في جوارها، في عين الحلوة الذي يُعد عاصمة الشتات في لبنان، والمية ومية، قبل أن ينصهروا في النسيج الاجتماعي للمدينة، وفي دورتها الاقتصادية.
ومن سوقها القديم وحاراتها وبساتينها خرجت قامات كبيرة لعبت أدواراً، تاريخية – تأسيسية، غالباً ما كانت مضرجة بالدم، فهي قدمت شهيد الاستقلال الأول رئيس الحكومة رياض الصلح وشهيد الاستقلال الثاني رفيق الحريري اللذين قضيا اغتيالاً، وهو المصير عينه الذي أنهى حياة الزعيم الشعبي معروف سعد.
وعلى طريقة المثل الشعبي بأن “كل الطرق تؤدي إلى الطاحونة” فإن الجولة في ذاكرة صيدا وحاضرها وما بينهما تقودك إلى السوق القديمة كأنها “درّة التاج” في المدينة المحروسة ببساتين الحمضيات وعبق زهر الليمون وعيون أهلها الطيبين.
لم تكن الشمس قد فركت عينيها تماماً، حين وصلنا إلى ساحة النجمة، أمّ الساحات في المدينة التي تهرول باكراً كمراكب صياديها، وكأن الجميع في سباق مع الوقت. وعلى مرمى العين تقع السوق القديمة التي انهمك أهلها بتوضيب “بضاعتهم” ككل يوم وكأنه أول يوم.
مواويل صباحية تختلط بأصوات الباعة و”حفيف” العابرين والروائح الطيبة ترافقك في المشوار داخل السوق التي تصطف على جنباتها محال من “البوج إلى الطربوش” وفق تعبير العامية، إذ يجد المتسوِّق ما يريده من حاجاته المتنوعة، سواء من الذهب وأخواته، أو المأكولات والمشروبات والخضار واللحوم، أو ألعاب الأطفال، وصولاً إلى الملابس والأقمشة، والخزف و”الخشبيات” على أشكالها المختلفة والقش وما شابه. ولا تغيب عن السوق الهدايا التذكارية التي تعكس إرث المدينة الأثري ومواقعها السياحية.
لم تنل الجراحة التجميلية للسوق من هالته التاريخية، فعملية الترميم جرت بعناية فائقة للقناطر والساحات وبيوتات المتحف. أما الناس وحوانيتهم والدكاكين الضيّقة، فهم جزء من الصورة يشبهون ببساطتهم وطيبتهم، وربما بفقرهم، “سمفونية” لم يجرِ التلاعب بـ”نوتاتها”.
السوق المقفلة
الانتقال من زاوية إلى زاوية، ومن شارع إلى شارع في السوق الضيّقة يجعلك أمام لوحة طبيعية. يعود الإبهار فيها إلى كون المشهد حقيقياً لا انفصام بينه وبين مزاج المدينة التي كانت يوماً أقرب إلى “قرية كبيرة” قبل أن يدهمها التحوُّل المديني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ثمة مهن مهددة يهددها الانقراض ما زالت حاضرة في صيدا القديمة، التي لم تنصفها البرامج السياحية الرسمية. هنا “كندرجي” ورث ورشة تصليح الأحذية أباً عن جد، وهناك “مجلّخ” يحترف تسنين الآلات الحادة والسكاكين والمقصات، وعلى مقربة منه، تجد العطارة و”أشكال وألوان” من الصابون الصيداوي الذي صار متحفاً.
وفي بعض أمكنة السوق المقفلة على ضوء باهت تتسلل أشعة الشمس لتضخ نورها على القناطر وجدرانها الحجرية في مشهدية رائعة تشبه لعبة “الضوء والظل”. وفي أمكنة أخرى، تستقبلك رائحة الفول التي صار لها مشاهيرها، وكذلك رائحة الفلافل التي لم تنجح “الوجبات السريعة” في إقصائها عن عرشها الشعبي. تلك الأطباق ليست فقط زاد الفقراء، بل يتوق إليها المتسوقون الآتون من قرى جبل الشوف ومن الأقضية المجاورة، كما السيَّاح العرب والأجانب.
وفي تلك الحارات العتيقة، أبنية الصومعات والأبراج التي تحوَّل بعضها إلى معاهد ومتاحف. وجرى أخيراً تأهيل حمَّام على الطريقة التركية فُتح أمام الروَّاد والسيَّاح ليُعيد بعضاً من العادات القديمة التي جاء بها العثمانيون، وأضحت جزءاً من الذاكرة الاجتماعية التي ألفها المجتمع اللبناني بعيداً عن العصيبات التي يُعبِّر عنها بعض اللبنانيين.
ويصعب على المرء الدخول إلى السوق القديمة والخروج منها من دون أن يُعرِّج على واحدة من المقاهي التي تُشكّل استراحة لا بد منها لرواده، ينعشون القلب بعصير الليمون الطازج أو “الليموناضة”، نتاج البساتين الخيرية المتبقية في محيط المدينة. وتُشكِّل أيضاً ملتقى المحاربين في يومياتهم بحثاً عن لقمة العيش، وكبار السن الذين “شبّوا وشابوا” في قلب صيدا النابض، يقصدون أشهر مقاهيها الذي يُعرف بـ”قهوة الزجاج”، حيث “طاولة الزهر” و”ورق الشدّة” سلوى “الوقت القاتل” بعد عناء السنين. أما النرجيلة، فهي الموضة القديمة لكل الأعمار.
التاريخ والحداثة
ولا يمكن لزائر صيدا إلاَّ أن يستكشف واحداً من عوالمها التي تجاوزت المحلية إلى العالمية… إنه عالم الحلويات الأكثر شهرة في المدينة، التي تزدهر في شهر رمضان من كل عام، مع توافد الناس من الجهات الأربع، سعياً إلى “حلوها” الذي غالباً ما يُعينها على “مرّها” في ظل الضائقة المعيشية الضاغطة على لبنان منذ مدة.
فجزء من تاريخ صيدا و”سمعتها” ارتبط بصناعة الحلويات التي تنتعش في الأعياد الإسلامية والمسيحية، ولم يكن عابراً أن تأخذ بعض أصنافها اسم عائلات المدينة كـ”السنيورة” نسبة إلى رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة. والحلويات لا تُحصى ولا تُعد في أنواعها “العثملية، المدلوقة، البقلاوة، حلاوة الجبن، زنود الست، المفروكة، القطايف، والقشطلية”، وكل ما لذ وطاب.. حلويات اشتهرت بها المدينة التي لم تكتف بأصناف ورثتها من الماضي، بل عمدت وعلى طريقة “المزاوجة” بين التاريخ والحداثة إلى تطوير صناعتها والمزج بين أصناف تقليدية وتلك الوافدة كـ”عيون المهى”.
وعندما تقترب من أهداب صيدا، يأخذك صفّ المراكب المتراصفة وشبابيكها المفتوحة على مواعيد المغامرات اليومية، تصدح في البال واحدة من ألمع الأغاني الشعبية التي أعدتها “فرقة الميادين” ولحّنها وغناها الفنان مارسيل خليفة، وتجد نفسك تردد “شدّوا الهمّة… الهمّة قوية… مركب ينده ع الحرية… يا بحرية هيلا هيلا.. هيلا هيلا”.
ثمة رواية (لا إجماع عليها) أن اسم صيدا يعود إلى مهنة الصيد التي تشكل واحدة من أنماط العيش التقليدية لأبناء المدينة الذين استهواهم البحر والمركب والبحث عن لقمة مغمسة بالماء والملح، وها هم اليوم ليسوا في أفضل حال ويعانون مشكلات لا علاقة لها بالمد والجزر عندما يتجاسر عليهم البحر، إنما بالمصاعب التي تواجههم، كتركهم في “العراء” بلا أي ضمانات.
**المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|