باعة الزهور في تونس: يا ورد من يشتريك !!
12.03.2019
يعرف شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية بباعة الورود الذين يزينون المدينة بأنواع شتى من الأزهار ليقدموا في المساء مشموم الفل الذي يقبل عليه التونسيون في فصل الصيف ويعشقه السياح وزائرو المدينة، لكن هؤلاء الباعة يعانون اليوم من ركود تجارتهم بعد أن أصبحوا في مكان قصي من الشارع الرئيسي فلا يذهب إليهم من يريد أن يهدي وردة لحبيبته ولا تصادف محلاتهم السياح أو الذين سيستقلون القطار إلى الضاحية الشمالية.
تونس- يستمتع الحاج لطفي بأشعة الشمس الدافئة من أمام محله على الشارع الرئيسي الحبيب بورقيبة بينما يرش الصانع زخات من المياه على الورود المعروضة حتى يبقي على نضارتها.
جاوز سن لطفي الأحمر العقد السادس وهو يلقب بكبير الباعة في الشارع وأكثرهم شهرة وخبرة في هذا المجال، وهو أحد أفراد عائلة الأحمر الذين يسيطرون على هذه المهنة منذ عقود طويلة. يقول لطفي “بدأت المهنة تحديدا منذ عام 1966، كنت أدرس وآتي إلى الشارع لبيع الورود”.
ينحدر لطفي من عائلة لها حرفة أصيلة في بيع الورود وقد ورث المهنة عن أبيه وجده وأعمامه وأبنائهم الذين يزاولون المهنة في الشارع نفسه. وتلقب عائلته الموسعة بـ”آل النواورية”، أي باعة الورود.
لكن واقع الحال اليوم لسوق الورود في الشارع لا يعكس الزمن الجميل الذي عاشه لطفي أيام شبابه وكهولته حينما كانت الورود سمة بارزة لقلب العاصمة النابض بالحياة. يقول سليم الأحمر وهو ابن عم لطفي الأحمر، ويصغره بسنوات كما أنه بدأ مهنة بيع الورود منذ عقد الثمانينات، إنه باستثناء موسم الذروة خلال الصيف يغلب الركود على باقي الموسم.
ويعلق سليم على ذلك قائلا “نضطر إلى أن نتعايش مع الخسارة. نلقي نصف الورود في القمامة. المزودون لا يتحملون المسؤولية؛ يأتون بالسلع ويقبضون الأموال. نحن من يتحمل مزاج السوق وتقلباتها”.
وازدادت أزمة القطاع عمقا لأن أغلب المؤسسات الحكومية والإدارية سحبت تعاقداتها مع باعة الورود في شارع الحبيب بورقيبة ضمن سياسات التقشف الحكومية بسبب أزمة المالية العمومية.
كما أن الباعة التقليديين في الشارع باتوا اليوم يواجهون منافسة من عدة محلات انتشرت في مختلف أنحاء العاصمة. ويرى لطفي أن المنعرج الأكبر لباعة الورود حصل في عام 2000 حينما قررت السلطات إعادة تهيئة شارع الحبيب بورقيبة ليكون نسخة مقربة من الشارع الباريسي الشهير “شانز إليزيه” ونقل محلات باعة الورود إلى الطرف الآخر البعيد عن شارع الحبيب بورقيبة.
تسبب القرار -حسب لطفي- في تراجع الإقبال على الورود بنسبة كبيرة لأن المنطقة الأولى لمحلاتهم كانت على مقربة من المؤسسات الثقافية، من بينها المسرح البلدي وقاعات السينما والمقاهي والمحلات التجارية، وهي منطقة تعج بالسياح والمارة والمتنزهين على عكس منطقتهم الحالية التي تبدو في عزلة.
ولم يشفع لمحلاتهم الجديدة قربها من محطة القطارات الرئيسية التي تربط العاصمة بضواحيها. وعلى الرغم من الخسائر التي تكبدها الباعة في فصل الشتاء، فإن الورود لا تزال تتصدر الشارع وهي أول ما يستقبل المسافرين القادمين يوميا عبر القطارات إلى العاصمة.
ويوضح لطفي قائلا “ليس لدينا خيار، يجب أن نستمر وإلا سنواجه البطالة. يبدأ الموسم في شهر يوليو ويستمر حتى نهاية الصيف. علينا استثمار هذه الفترة لأنها تنوب عن فترات الركود في باقي الموسم”.
ويتفق الأحمر مع باقي باعة الشارع على أن الورود لم تدخل بعد إلى عادات المواطن التونسي اليومية وظلت مقتصرة على بعض المناسبات الموسمية مثل عيد الحب وعيد الأمهات والحفلات والأعراس. لكن ليس هذا وحده سبب الركود إذ أن إنتاج الفلاحين للورود أصبح أكثر انحسارا بسبب تراجع الربح، وأدى ذلك إلى ارتفاع الأسعار لدى التجار، إذ يتراوح سعر باقة الورود في المتوسط بين عشرة دنانير وعشرين دينارا خارج موسم الإقبال.
ومن أبرز الأدلة على أزمة قطاع الورود في تونس أن أشهر شركة مصدرة في هذا المجال أغلقت أبوابها لتتجه إلى الاستثمار في قطاع البناء، بينما ألقت الأزمة الاقتصادية الخانقة في البلاد منذ بدء الانتقال السياسي عام 2011، بظلالها على مناحي الحياة اليومية، وهو ما أضر بمكانة الورود على لائحة الكماليات.
ويقول المختار الذي اختص ببيع الورود وباقي أنواع الحشائش “الباعة القدامى نجحوا في جني أرباح واسعة وبنوا منازل فاخرة لأن أسعار البيع والشراء آنذاك كانت مختلفة عن أسعار اليوم”.
ويضيف المختار “لكن باعة اليوم يعملون لتلبية احتياجات المعيشة اليومية فقط. آخر ما يفكر فيه المواطن اليوم هو شراء وردة”. مع ذلك يتمسك المختار بحرفته وهو يعلم أنه يتعين عليه مجاراة الأزمة حتى بلوغ موسم الأعراس في الصيف من أجل التعويض. ويؤكد هذا الخيار قائلا “هذه مهنتي ولا يمكنني العمل في مجال آخر. يجب أن نتأقلم مع الوضع”.
وحتى يتسنى للتجار الحد من الخسائر فإنهم يأملون في انتعاش مبيعاتهم بفضل موسم جمع أزهار الياسمين التي تشتهر بها تونس، فهذه النبتة التي يتواجد باعتها في كل مكان ترتبط بها دورة اقتصادية كاملة.
ولا يتوفر الياسمين لدى كل الباعة في الشارع لأنه يعد قطاعا قائما بحد ذاته بموازاة بيع الورود، ويشمل أكثر من طرف في جميع مراحل زرعه وجمعه وتصنيعه ثم تسويقه.
المؤسسات الحكومية سحبت تعاقداتها مع باعة الورود في شارع الحبيب بورقيبة ضمن سياسات التقشف
يقول زهير الأحمر -أحد المختصين في تجارة الياسمين- “تبدأ دورة الياسمين بجني الأزهار من قبل الجامعين، ومن ثم يشتري التجار الياسمين بأسعار الجملة قبل أن يتم تصنيعه في شكل ‘مشموم’ ويستلمه ‘الدوارون’ لعرضه على أطباق في الشوارع الرئيسية والمقاهي السياحية”.
يجني جميع هؤلاء أرباحا مهمة من قطاع يعتبر حيويا في موسمي الربيع والصيف بتونس كما يوفر مواطن شغل للآلاف من العمال الموسميين بمن في ذلك الطلبة أثناء العطل.
و”المشموم” علامة بارزة في صناعة الياسمين بتونس ويحظى بشهرة عالمية إذ يعد من الصادرات المميزة للسلع التونسية إلى الخارج، كما خصصت تونس مهرجانا موسميا احتفاء بهذه الزهرة تستضيفه مدينة رادس، الضاحية الجنوبية للعاصمة.
وحتى يحين موسم الياسمين يجب على لطفي الأحمر وأبناء عمومته التحلي بالمزيد من الصبر في فترات الكساد الشتوي، والعمل على حصر الخسائر عند الحد الأدنى.
www.deyaralnagab.com
|