logo
1 2 3 41134
المقاهي الشعبية في دمشق فضاء للثرثرة والثقافة !!
30.01.2019

المقاهي فضاءات ترفيه، وفي دمشق التي انتشرت فيها هذه المحلات منذ القديم تخصصت المقاهي حسب زبائنها فهناك مقاهي الحرفيين ومقاهي التجار، أما المقاهي التي كانت أكثر شهرة هي تلك التي كان يرتادها المثقفون والفنانون والأدباء والساسة وكانت كلها في الشوارع الرئيسية للعاصمة السورية، اليوم صارت كل هذه الفضاءات متشابهة بعد أن ارتادها الشباب من الجنسين، وصارت تقدم فيها الخدمات التي يرغب فيها هذا الجيل مع المحافظة على الديكورات القديمة.
دمشق - ينتشر في دمشق عدد كبير من المقاهي العريقة التي يعود تاريخ إنشاء معظمها إلى القرن التاسع عشر، ويطل أغلبها على الشوارع الرئيسية والأسواق الشعبية القديمة، كما تنتشر في الحارات مقاهي الحي، حيث يلتقي الأصدقاء أو أصحاب الكار من الحرفيين والتجار والمثقفين يتسلون ويناقشون مواضيع تهمهم، وفي السنوات الأخيرة دخل الشباب والفتيات إلى هذه المقاهي التي استجاب معظمها إلى متطلبات الزبون الجديد بتوفيرها التلفزيون الكبير والإنترنت.
وهناك من يرى اختلاط الزبائن في المقهى الشعبي ظاهرة إيجابية تتطلبها الحياة المعاصرة، فيما يراها آخرون اقتحاما لخصوصية الرجال من طرف الكهول وكبار السن، لكن هذه المقاهي يوازيها ظهور مقاه أخرى تراثية في البيوت الدمشقية بطابعها ومكانتها التاريخية يضاف إليها اجتياح الكافيتريات الحديثة لأرصفة دمشق.
وكانت دمشق من أوائل المدن التي عرفت القهوة وذلك في القرن العاشر الهجري حتى صارت لها طقوسا اجتماعية وتأسست لها محلات عامة تجارية لخدمة شرب القهوة ويرجح أن ظهور المقاهي كان في النصف الأول من القرن الـ16.
وتجمع المصادر التاريخية أن عدد المقاهي في دمشق تراوح في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بين 110 و120 مقهى، منها مقهى السكرية والقماحين واللذان يقعان في باب الجابية ومقهى العصرونية والرطل في باب توما وجاويش في القيمرية وغيرها الكثير لكن أغلبها لم يعد موجودا وتغيرت أنشطتها التجارية.
وكانت هناك مقاه خاصة بأصحاب المهن والحرف، مثل مقهى النجارين في حي الشاغور، ومقهى الحمام لبائعي الطيور في سوق السنانية، ومقهى البخاري في سوق التبن للخبازين، ومقهى خاص بالعمال في السوق العتيق، يناقشون فيه أمور مهنهم وحياتهم، كما كان لأبناء المحافظات السورية من المقيمين في دمشق مقاه عرفت في ما بعد بأسمائهم.
ويذكر الحاج أبوقاسم، أن بعض أبناء المناطق السورية كانوا يقصدون “مقهى الديرية”، ومقهى القلمون في حي العمارة، وكان ابن المحافظة إذا حضر إلى دمشق يقصد مقهى أبناء منطقته، فيجد فيه معارفه.
وكانت هناك مقاه يرتادها المثقفون والسياسيون في الشوارع الرئيسية للعاصمة السورية، مثل مقهى البرازيل وهافانا والروضة، بل كان هناك مقهى للصم والبكم عرف باسم “مقهى الخرسان”.
وكانت هناك مقاه ذات أسماء غريبة، مثل مقهى “خود عليك” و”مقهى التايبين”، ومقهى “خبيني” وهي تسمية كانت شائعة بين الناس في العهد العثماني حين كان ينزل رجال الدرك إلى السوق يبحثون عن الشباب لسوقهم للخدمة العسكرية.
وللدلالة على عبور ضابط مفرزة السوق يصرخ الناس “عباية عباية” حتى يتمكن الشباب من الهرب، لذا سميت بهذا الاسم لأن الشباب كانوا يلجأون إليها طالبين الملاذ.
أغلب هذه المقاهي لم يعد موجودا اليوم ومنها مقهى “الله كريم” الذي لا يقل طرافة عن البقية، لكنه يتقاطع مع مقهى “خبيني”، فقد كان للمتفائلين من المتقاعدين بغد أفضل، فكلما مرّ ضابط شاب ببزته العسكرية وأوسمته المتلألئة، يقولون بحسرة، “إيه الله كريم” في حلمة لن تتحقق بأن يعودوا شبابا يوما.
وتقدم المقاهي الشعبية المشروبات الساخنة كالشاي، والقهوة، والزهورات والمرطبات، فضلا عن النرجيلة، ومنها ما يقدم طاولة النرد أو الشطرنج.
ويذكر بعض المؤرخين أن فترة العشرينات من القرن الماضي شهدت ازدهارا كبيرا للمقاهي الدمشقية، وكان معظمها يقع على ضفاف نهر بردى الذي كان يخترق المدينة، حيث كان شارع بغداد وشارع العابد وسط دمشق يغصان بالمقاهي، لكن في فترة الستينات شهدت تراجعا مع ظهور التلفزيون، فأصبح البيت كمقهى صغير للعائلة، ثم عادت هذه الفضاءات العامة إلى سالف نشاطها بعد أن أصبح يرتادها الشباب من الجنسين.
يقول أحد المتقاعدين الذين كانوا يرتادون مقاهي الروضة والنوفرة وهافانا وسط دمشق، والتي كانت تجمع الأدباء والشعراء والمثقفين والسياسيين “تبدل حال المقاهي، فمقهى هافانا أصبح في خانة النجوم الخمسة، ولم يعد ملتقى المثقفين والأدباء، ومقهى الروضة تغير حال رواده، وكذلك مقهى الكمال الصيفي، وأصبح يرتادها زبائن مختلفون من هواة لعب الورق والطاولة وقتل الوقت.
ويقول أحد العاملين في مقهى هافانا، إن عدد الرواد الأصليين للمقهى تقلص كثيرا بعد أن غزا الشباب والفتيات المكان واستهوتهم عادة تدخين المعسل الذي أصبح شائعا في أغلب المقاهي.
وأسف لأنه “سابقا لم يكن يدخن النرجيلة من كان عمره دون الخمسين، أما اليوم فأصبحت عادة اجتماعية مقبولة حتى بين النساء”. وشكلت المقاهي مثل هافانا والروضة وغيرها مكانا خصبا للأدباء والمفكرين السوريين والعرب أمثال هاني الراهب ومحمد الماغوط ومظفر النواب وصدقي إسماعيل، لكن دورها تغير في العصر الحالي، حتى إن البعض ينفي وجود أي دور ثقافي للمقاهي اليوم، مشيرا إلى أن دورها بات يقتصر على تبادل الأحاديث وتمضية الوقت من خلال الخوض في جدالات عابرة. ويتحدث الأديب عادل أبوشنب عن ظاهرة دخول النساء بكثافة إلى المقهى حيث باتت تشكل نسبتهن 40 بالمئة، مشيرا إلى أن كوليت خوري، الأديبة السورية، كانت أول من كسر الحاجز عندما ارتادت مقهى «البرازيل» في بداية الستينات.
وانعكس ارتياد الشباب على طابع بعض المقاهي الشعبية، إذ رضخت إدارة مقهى “الروضة” التاريخي إلى متطلبات هذه الفئة، وجهّزت المقهى بشاشات عرض كبيرة لنقل البرامج الفنية والمباريات الرياضية.
وقال حكمت أقدم العاملين بمقهى الروضة إن الإدارة نوّعت لائحة مشروباتها التي كانت تقتصر على القهوة والشاي والنرجيلة إرضاء لزبائنها الجدد.
وتتذكر الكاتبة نضال حمارنة أول مرة دخلت فيها مقهى الروضة الذي وصفته بأنه “ذكوري بامتياز″ عام 1999، وتقول، “اقترح عليّ الروائي هاني الراهب لقاءه في الروضة فاستغربت الأمر، لكنني وافقت حباً بالتجريب”.
وتتابع حمارنة، “دخلت المقهى ولم أجد أي امرأة، فدخلت بقدم إلى الأمام وقدمين إلى الوراء إلى أن وصلت إلى الطاولة، فجلست وكنت متوترة جدا”. وتضيف، “اليوم يرتاد مقهى الروضة الكثير من النساء من أجل التواصل فيما بينهم وبين أصدقائهم”.
لم يعد ارتياد النساء للمقاهي غريبا، ترى الشابة رشا (29 سنة)، في ارتياد المقاهي الشعبية وسط دمشق فرصة للقاء الأصدقاء والصديقات وقضاء أوقات مميزة معهم.
وتعتبر رشا المقاهي الشعبية فرصة لعيش أجواء الماضي ومعرفة الأماكن التي كان يرتادها أباؤنا وأجدادنا، وكنا نراها عالما مغلقا ومملوءا بالأسرار، إلى أن اكتشفناها فكانت بالفعل مكانا مريحا بعد العمل أو الدراسة وقبل الرجوع إلى البيت، خاصة وأنّ خدماتها تطورت كما أن الاختلاط بين الجنسين يعطيها رونقا ويجعلها منفتحة أكثر. وتدافع صديقتها أسماء (28 سنة) وهي جالسة على كرسي خشبي قديم عن دخول النساء، واصفة أجواء مقهى النوفرة بأنه ساحر بتراث جدرانه ولوحاته، مشيرة بإصبعها إلى القاعة الخارجية حيث بعض الشباب والشابات بوجوه متشوقة ينادون نادل المقهى طالبين منه النرجيلة التي يحبون والشاي العجمي “الخمير”، “فمع النرجيلة وارتشاف الشاي، أشعر أنني أنهيت تعب ساعات طويلة من العمل”، كما تقول.


www.deyaralnagab.com