عربات الباشوات والبكوات في مصر تحارب الزمن!!
11.04.2018
العربات الملكية المعروفة بـ"الحناطير" في مصر تصنع في ورشتين فقط بمدينة طنطا، حيث يحاول العاملون فيهما على حمل المهنة على أكتافهم وحمايتها من الانقراض.
الغربية (مصر)- يترحم صانعو العربات بمصر على عصر نهضة صناعتهم، ويتذكر كبار السن منهم روائح الباشوات والبكوات، وجمال الخيول، مثلما يحفظون روائح الأخشاب الفواحة، ويتقنون فنون اللحام، ويميزون أنواع الجلود من ملمسها.
على بعد 90 كيلومترا من شمال القاهرة، لا تزال العربات تُصنع في ورشتين فقط بمدينة طنطا التابعة لمحافظ الغربية، لا تختلفان كثيرا عن أي ورشة تقليدية قديمة، إلا في طبيعة العربات الواقفة أمامهما، وتصميم العاملين فيهما على حمل المهنة على أكتافهم وحمايتها من الانقراض.
لا يزال العاملون في ما بقي من ورش العربات التي تجرها الجياد بمصر يضربون الزمن بالمطرقة، ويكسون الأخشاب بدهانات الحنين إلى الماضي، ويترقبون مؤشرات حركة السياحة بشغف، إذ الطلب على بضاعة الملوك بات مقتصرا على القرى السياحية، وقاعات الأفراح، وعلى هواة وسائل النقل التقليدية من الداخل والخارج
يملك جمال أبواليزيد، واحدة من الورشتين، التي صنعت فيها جميع أنواع العربات الملكية والتقليدية التي تم استنساخها من نظيراتها الأوروبية، وقد علّم فيها أجيالا من الذين وفدوا إلى مدينته الواقعة بدلتا مصر، والتي صنعت فيها آلاف العربات لاستخدامها في خدمة جميع المحافظات قبل انتشار السيارات.
ويعود ظهور هذه العربات المعروفة بـ”الحناطير” في مصر بشكله الحديث إلى عهد محمد عليّ باشا الذي استورد من الخارج صناديق خشبية، ليتم تجميعها بورش الإيطاليين في القاهرة قبل أن يتقن المصريون صناعتها، لكن فكرة استخدام العربات ذاتها قديمة إذ تعود إلى عصر الفراعنة، وقد استنسخوها من قبائل الهكسوس الذين احتلوا مصر لفترة من الزمن.
يقول أبواليزيد، لـ”العرب”، إن المصريين عندما نقلوا المهنة عن الأجانب وحسنوها على المستوى الشكلي، من حيث المصابيح وألوان الجلود، ورفضوا استنساخ الأنواع التي تتسم بالقبح كالعربات النمساوية رغم انخفاض تكلفتها لينتشر في مصر فقط “الحنطور” الإنكليزي ذو القاعدة المستديرة، والإيطالي ذو الشكل المربع.
وأضاف أن “الكوبيل” الإنكليزي المُغلق ذا الأبواب الزجاجية كان الأكثر طلبا من العائلات الملكية والباشوات بسبب طبيعة كابينته المميزة ذات الكرسيين المتقابلين، حيث تسمح لمستقليها بالتواصل والحوار بيسر ومودة، علاوة على مكان إضافي في الخلف للحراس ما جعل هذا النوع من الحناطير أكثر أمانا، إلى جانب تغطيته بالستائر التي تحجب رؤية من بداخله.
وأوضح أن الطلب حاليا ينصب أكثر على “الفايتون” الأميركي، وهو “حنطور” ذو سقف متحرك ويتسم بالاتساع، وترتيب كراسيه حسب وضعية تكون فيها متتالية، شبيهة بالسيارات وليست متقابلة، وكان استخدام هذا النوع في البداية يتعلق أكثر بجولات التنزه أو التنقل في شوارع القاهرة لرؤية معالمها، لكن تم تطويره حتى يمكنه نقل ستة أشخاص دفعة واحدة.
تبدو مهنة صناعة الحناطير حاليا مقتصرة على شيوخ المهنة الذين تجاوز أعمار معظمهم الخمسين، وبعضهم فقد السمع جرّاء وقع الطرق الصاخب على الحديد والخشب، وسط شكوى أصحاب الورش من إحجام أبنائهم عن الاهتمام بالصناعة ذاتها أو حتى السعي لتسويقها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ويعاني صانعو الحناطير من تراجع معدلات السياحة التي كانت توفّر طلبا مستمرا على صناعتهم، سواء بصناعة قطع جديدة أو صيانة القائم منها، علاوة على طلبات شراء من السائحين الذين كانت تعجبهم البضاعة، ويطلبون شراء وشحن بعض منها إلى الخارج حتى أن الورشة الواحدة قد تصنع ما بين عشرة وعشرين حنطورا في العام بخلاف أعمال الصيانة.
يحاول صناع الحناطير في مصر إدخال تعديلات على مكانتها دون إخلال بالمظهر القديم المميز لها وفقا لرغبات الزبون الذي قد يرغب في إضافة أجهزة راديو ومكبرات صوت أو وضع أدوات تنبيه مغايرة لجرس العربات القديمة.
عربات “آلاي” ذات الفوانيس النحاسية الضخمة، كانت تجرها ثمانية خيول إلى جانب حصان قائد يتقدمها يسمى “الدليل”، وظلت مخصصة للتشريفات بعد استنساخها من عربات اشتراها الخديوي إسماعيل من تركة نابليون بونابرت لخدمة الوفود التي حضرت افتتاح قناة السويس.
وتوسع استخدام ذلك النوع من الحناطير ليشمل حفلات افتتاح البرلمان ومناسبات زواج الأمراء، وقد استقل أنواعا منها رئيس الديوان الملكي والوزراء في المناسبات الاحتفالية، وسفراء الدول الأجنبية عند تقديم أوراق اعتمادهم، لكن بعدد من الجياد لا يتجاوز الخمسة.
صلاح عاشور، يمتلك الورشة الثانية لصناعة الحناطير بطنطا، ورثها عن والده الذي هيّأ منها الكثير لشخصيات شهيرة، ويتذكر منها ما صنع للرئيس الراحل أنور السادات ونجل شقيقه طلعت السادات، وللداعية الراحل محمد متولي الشعراوي، إلى جانب بعض هواة الفروسية، كالفنان أحمد السقا الذي صنعت له اثنتان من “الكارتات”، وهي نوع من الحناطير صغيرة الحجم بعجلتين فقط ومعظمها مكشوف.
يقول عاشور، الذي كان عائدا من أحد الموانئ المصرية بعد تصدير عربتين إلى العراق، إن طلبات الشراء محدودة، وتأتيه من دول مثل الكويت والسعودية، وإيطاليا وفرنسا واليونان، بعدما انحسرت الطلبات التي تأتي من داخل مصر على خلفية توقف حركة السياحة إلا من الهواة وبعض قاعات الأفراح الجديدة.
تحتاج صناعة الحناطير إلى الصبر لأن كل عربة قد يستغرق إعدادها نحو ثلاثة أشهر، وتبدأ صناعتها بنحت الكابينة الخشبية، ثم تجهيز الأجزاء الحديدية التي سيتم تركيبها عليها، فصناعة العجلة، ثم تجهيز المقاعد لتبدأ عمليات الطلاء وتركيب الكسوة الداخلية من الجلود والقماش، وأخيرا تركيب الفوانيس والأجراس، ليخرج الحنطور في شكله النهائي.
لا يزال صانعو هذه العربات في طنطا المقصد الأول لمنتجي الأعمال الدرامية التي تتناول الفترة الملكية بمصر، لتساهم من وراء الكواليس في مسلسلات مثل “حديث الصباح والمساء” بطولة الفنانة ليلي علوي وعبلة كامل، و”جمهورية زفتى” بطولة الفنان الراحل ممدوح عبدالعليم وصابرين، وآخرها “القاصرات” لصلاح السعدني وداليا البحيري.
يقول الدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة، إن استمرار الصناعات التراثية مثل الحناطير تقف وراءه نزعة من الحنين المستمر للماضي، فالكثيرون يحلمون بعصر الأمراء والأميرات بملابسهم وأزيائهم ونمط معيشتهم وحتى عرباتهم، لكن في الوقت ذاته يوجد نوع من غياب الثقافة بأهمية التراث التاريخي في مصر عموما وخاصة خلال العهد الخديوي.
وتمتلك مصر متحفا خاصا بالعربات الخديوية يعود إلى عهد الخديوى إسماعيل باشا، كان يضم وقت إنشائه العربات والخيول وأدوات الزينة الخاصة بوسائل نقل الخديوى، وحجرات خاصة بإعداد أطقم الخيل، والأدوات والأزياء التي يستعملها السائسون والبيطريون، قبل أن تضع محافظة القاهرة يدها على معظم المباني وتحولها إلى مستودعات للسيارات التابعة لها!!
*المصدر : العرب
www.deyaralnagab.com
|