شناشيل البصرة تراث معماري مهدد بالاندثار!!
27.03.2018
البيوت العراقية القديمة المعروفة بالشناشيل والتي كانت تنتشر بكثرة في محافظة البصرة بدأ تندثر ولم يبقى منها إلا ما يقارب 425 إلى 450 دارا تراثية.
البصرة (العراق) – قبل نحو نصف قرن، كان عدنان يقف طفلا مبهورا أمام الشناشيل الشرقية، والشناشيل مفردها شنشول، هي شرفات خشبية مزخرفة هندسيا بالرسم على الزجاج، تعمل على إبراز واجهة الطابق الثاني بأكمله أو غرفة من غرفه بشكل شرفة معلقة بارزة إلى الأمام.
في مدينة “الشناشيل”، كما تلقب هذه المدينة الغنية بالنفط في جنوب العراق، يعاني التراث من إهمال كبير في وقت تعجز الحكومات المحلية عن تقديم الحد الأدنى من الخدمات الأساسية للسكان الساخطين على الفساد ونهب عائدات صادرات الذهب الأسود.
إلا أن حقبة “الزمن الجميل” راسخة في ذاكرة عدنان خلف البالغ من العمر 71 عاما، فهو لا يزال حتى اليوم قادرا على الحديث لساعات عن تلك الفترة مستذكرا أسماء أعرق عائلات المدينة من يهود ومسيحيين ومسلمين كانوا يعيشون حياة رغيدة في تلك المنازل التقليدية.
تعد البيوت التراثية في البصرة أو ما يعرف بالشناشيل الأكثر شهرة وعراقة وتفردا معماريا رغم انتشارها في العراق وسوريا ومصر، ولكن هذا الإرث الذي يحمل مخزونا كبيرا من الثقافة وطالما تغنى به الشعراء، يواجه اليوم العديد من التحديات التي قد تتسبب في اندثاره، إذا لا لم تلتفت إليه الحكومة والمؤسسات المعنية بالحفاظ على التراث.
وصلت الشناشيل إلى مدينة البصرة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، على ما يذكر مدير القصر الثقافي والفني لمدينة البصرة عبدالحق مظفر، وانتشرت بعد ذلك في باقي مدن البلاد بينها بغداد وصولا إلى بلاد الشام ومصر.
وكانت كل منازل التجار البورجوازيين أو أبناء الطبقة الأرستقراطية المحلية في البصرة، مزينة بالشناشيل المصنوعة من عارضات خشبية مغلفة بشمع طبيعي مقاوم للماء والنار، والتي تجعل من تلك البيوت تحفا فنية.
وتمتاز الشناشيل ببرودة الجو داخلها وخصوصا في الصيف اللاهب الذي تمتاز به محافظة البصرة، إضافة إلى الألفة الاجتماعية التي تخلقها هذه الأجواء، كما أن هذه الشرفات تمنح بعض الخصوصية للنساء تحديدا للنظر إلى الشارع، وخصوصا في بعض المناسبات كالأعراس وبعض الاحتفالات التي كانت حكرا على الرجال دون النساء.
يقول المهندس المعماري موفق الخياط، “الشناشيل على اختلاف تصاميمها، تمنع دخول أشعة الشمس بصورة مباشرة إلى المنزل، ويتم ذلك بواسطة النوافذ ذات المشبكات الخشبية المثلثة، فضلا عن توفيرها الظل للزقاق أو الشارع”، وبذلك كانت طريقة مناسبة للتخفيف من حرارة البيوت في المناخ العراقي الملتهب صيفا.
وعند حلول الظلام يضيء السكان منازلهم ليخترق النور زجاج الشناشيل التي تجمع تأثيرات هندية وفارسية وإسلامية، إذ تمتد خيوط ملونة بالأخضر والأحمر والأصفر والأزرق على طول الشوارع.
وتنتشر الشناشيل بكثرة في محافظة البصرة، ابتداء من أبي الخصيب والتنومة والسبيلات والرباط والبصرة القديمة والكثير من المناطق الأخرى.
يروي خلف أن الملك فيصل الثاني، آخر ملوك العراق، كان ينزل خلال زيارته للبصرة في بيت الوالي الواقع على ضفة النهر الذي يقسم المدينة ولم يعد الآن سوى مجرى ضعيف للمياه تطفو على سطحه النفايات.
بعد سقوط الملكية في العام 1958، تدهورت أوضاع هذه المنازل تدريجيا، منها ما انهار ومنها من حوله صاحبه إلى بيت عصري، وبدأ زحف العمارة الحديثة يشكل تهديدا متناميا للشناشيل، وقد يفضي في نهاية الأمر إلى اندثارها.
يؤكد خلف أن الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، كان الضربة القاضية للمدينة، قائلا “رحل سكان وجاء آخرون، ورأيت البعض يفك القطع الخشبية من المنازل ليبيعها”.
ويقول المختص في التراث هاشم عزام إن هؤلاء الوافدين الجدد “لا يعرفون” هذا التراث و”أقدموا على تغيير المباني، ودمروها وبنوا بدائل لها”.
ويضيف عزام، “لو وجدت آلية للتأهيل والتمويل، لبقيت الشناشيل جميلة على حالتها من قبل”. وتسمح تلك البيوت المغطاة بشبابيك خشبية ذات فتحات صغيرة، للقاطنين بالرؤية من الداخل وحفظ خصوصيتهم من الخارج.
وضع الشناشيل في الطابق العلوي من المنزل يؤدي أيضا إلى تقارب سكان بيوت الشناشيل، بحيث يسمح للعائلات بتبادل التحيات والأخبار وشتى الأحاديث من خلالها، مما أثر على تقارب العلاقات الاجتماعية فيما بينها.
ويقول مفتش دائرة آثار وتراث البصرة قحطان العبيد، لم يبق من هذه المنازل اليوم إلا “ما يقارب 425 إلى 450 دارا تراثية موجودة في البصرة”.
وتتمركز بيوت الشناشيل في مناطق نظران والسيف والصبخة والبصرة القديمة بينما لم تبق من شناشيل منطقة العشار إلا هياكل بيوت استخدم بعضها كمخازن للمحال التجارية.
وبحسب السكان المحليين، كانت توجد مكتبة يهودية يتعلم فيها الشبان التوراة، وحمام نساء ومنزل شيخ كويتي، لكن لم تبق منها سوى جدران متداعية وأعمدة خشبية نخرها النمل الأبيض.
وبسبب الانقطاع المزمن للكهرباء في العراق، يعتمد الكثير من السكان على المولّدات، وتغطي الأسلاك الكهربائية جدران المباني، تضاف إلى ذلك مكيفات هواء رُكبت في فتحات استحدثت في الواجهات الحجرية التي غيرت الواجهات الحقيقية لبيوت الشناشيل.
يذكر أن الشناشيل وردت في الكثير من القصائد والقصص والروايات، وربما في مقدمتها قصيدة الشاعر العراقي الحداثي بدر شاكر السياب “شناشيل ابنة الجلبي”. كما جُسّدت في اللوحات التشكيلية والأعمال النحتية أيضا، ناهيك عن الصور الفوتوغرافية، التي قدمها العديد من الأدباء والفنانين العراقيين. ورممت العديد من هذه المنازل اليوم لتستضيف عددا من المؤسسات الثقافية، كاتحاد الفنانين البصريين والمراكز المخصصة للتراث.
وأعيد تأهيل منزل الشاعر الكبير بدر شاكر السياب الذي تحول إلى مكب للنفايات قبل أن يرمم ويصبح مركزا ثقافيا.
ويوضح قحطان العبيد، “تمت إعادة هندسة كل الزخارف والحلي الخشبية بشكل متماثل”، لكنه يلفت في الوقت نفسه إلى أن دائرة الآثار في المدينة “موجودة للإشراف وتقديم الدعم الفني، وليس لتمويل عملية التجديد لأنها لا تملك الأموال اللازمة”، مضيفا أن “الأمر متروك للسلطات المحلية أو المركزية للقيام بذلك”!!
www.deyaralnagab.com
|