الفقارة نظام تقليدي للري في الصحراء الجزائرية!!
20.10.2017
ارتبطت حياة سكان الصحراء بتوفر المياه لأنها سبب وجود الحياة في مناطق يشح فيها الماء، فاكتشفوا الفقارة، وهي أسلوب ري يمدّهم بالمياه التي يشربونها ويسقون بها مزروعاتهم من النخيل وغيرها مما يُعرف بالزراعة البينية المنتشرة بين بساتين النخيل في واحات الجزائر التي تشكّل جميعها مصدر رزقهم.
الجزائر - يتميز الجنوب الغربي الجزائري بميزة خاصة لتوفير المياه بواسطة طريقة تقليدية تسمى الفقاقير، وهي أقدم مصدر مائي للسقي ساهم ومنذ قرون في إنشاء الواحات في منطقة تيميمون عاصمة إقليم قورارة حيث يمارس تسعون بالمئة من سكان المنطقة النشاط الفلاحي داخل الواحات القديمة وأراضي الاستصلاح الجديدة.
ويبدو أن لفظ الفقارة حسب ما هو شائع، مشتق من الفقرة لأن المظهر السطحي للفقارة هو تسلسل الآبار على شكل العمود الفقري، تنساب من المناطق المرتفعة في اتجاه المنحدر الأرضي حيث نقطة البدء تكون البئر الرئيسية ذات العمق الأكبر والتدفق الأقوى، إلى أن تصل إلى سطح الأرض مستفيدة من قانون الجاذبية، وعندما يصل الماء إلى سطح الأرض يوزّع وفق نظام خاص.
ويرتبط هذا النظام أساسا بالمناطق ذات الطبيعة القاحلة والجافة مما يفسر ظهور الفقاقير في العالم القديم، آسيا، وأفريقيا، إذ توجد أنظمة ري شبيهة بنظام الفقاقير في أفغانستان وتدعى الخيراص وفي إيران القناة، أما في اليمن الصهريج وفي جنوب تونس تحت اسم نقولة بينما في المغرب تعرف بالخطارة، زيادة على مصر والمدينة المنورة.
تكافل اجتماعي
اهتدى أهالي هذه المناطق إلى تقنية جذب المياه الجوفية وتصريفها إلى السطح عبر قنوات أفقية تحت سطح الأرض والمسماة بالفقارة وذلك لتوفر عوامل مثل المنخفضات الطبوغرافية الطبيعية، والعوامل الهيدرولوجية المناسبة واليد العاملة المتمكنة.
ويعود تاريخ ظهورها بالصحراء حسب ما توصّل إليه الباحث حمادي أحمد الحاج، إلى القرن الثاني عشر الميلادي.
ويحدد أحمد جعفري أستاذ بجامعة أدرار أدوراها الاجتماعية في نقاط أساسية أهمها أنها أهم عامل استقرار في الصحراء الكبرى حيث كان الصحراويون يفكرون في امتلاك حصصهم من الماء قبل الحصول على ملكيتهم من الأرض.
ويجسد نظام الفقارة مبدأ التعاون الاجتماعي والتضامن بين الشركاء، ويتجسد ذلك في التعاون أثناء عمليات الحفر أو الصيانة التي يشارك فيها الجميع في عملية تعرف بـ”التويزة” وهي إجبارية على الجميع، بالإضافة إلى هذا، يحافظ الشخص على حقوقه من المياه تبعا لأدائه لواجباته ولقدرته على العمل الزراعي وفقا لمعاير حسابية دقيقة تحقق مبدأ المساواة والعدل بين كل المزارعين.
وحسب الباحث هشام احميدة بن زيطة تتمثل خصوصية الفقارة في وظيفتها التي تعد اقتصادية بامتياز حيث لا تتطلب طاقة أو معدّات متخصصة في استخراج المياه من الأعماق ونقلها إلى مسافات بعيدة تزيد عن العشرات من الكيلومترات، إضافة إلى إمكانية التزوّد بالمياه على مدى أربع وعشرين ساعة دون انقطاع إلا في حالة حدوث خلل أو عطب في إحدى نقاط مسارها حيث يتم إصلاحه مباشرة من طرف جمعية الفقارة.
تشتهر البعض من الفقاقير بأن ماءها يعالج المرضى، مثال فقارة أنهيل الموجودة ببلدية تمنطيط والمعروفة بعذوبة مياهها وفعاليتها العلاجية لأمراض الكلى.
ما يقوله الناس عنها أنها تفتّت الحصى الموجود في الكلية، وأن المرضى الذين واظبوا عـلى شربها اختفت من كلاهم الحصى تماما.
ويقول سكان المنطقة إن تحليلات مخبرية أجريت عـلى هـذه المياه، أثبتت أنها تفوق جودة المياه المعدنية، ولهذا يقصدها الناس من كل مكان للتزوّد من مائها.
ويقول سكان تمنطيط التي تبعد حوالي عشرة كيلومترات عن أدرار عن تدفّق الناس على فقارة أنهيل، أهل الفقارة يرحبون بالجميع لأنهم يعتقدون أنهم يجلبون معهم البركة.
ويرى الباحث أحمد جعـفري أستاذ بالجامعة الأفريقية بأدرار، أن الفقارة ارتبطت في حياة المجتمع الصحراوي بمعظم العادات والتقاليد المعروفة.
فإذا حلّ ضيف بإحدى المناطق الصحراوية جيء له بماء الفقارة ليعاود المجيء إليها، لأنهم يعتقدون أن من شرب ماء فقارة عاد إليها ولو بعد مدة.
وإذا خرجت العروس من بيت أهلها توجهت أولا إلى الساقية وتخطت عليها ثلاثا كرمز للثبات والتشبث بالأرض، وبعد ذلك تغرف منها ما تشربه في وقتها أملا في الاستقرار والطمأنينة، كما تشرب جميع البنات من حولها أملا في زوج المستقبل.
والصبي كذلك حين يحفظ القرآن الكريم ويشرع في مراسيم احتفاله المعهودة يتوجه صوب الساقية أيضا ليشرب ويتخطى هو الآخر.
وفي حال وفاة شخص ما، فإن جميع ملابسه تُخرج إلى الساقية علنا لتُغسل وتُنشر هناك.
وفي يوم عاشوراء من كل سنة، تتوجه النساء إلى السواقي ليملأن أوانيهن وجرارهن. ومن ثمّ التوجه بها إلى القبور في محاولة لبعث روح الحياة من جديد في جسد الميت كما يقال ويعتقد.
تقنيات الفقارة
تتكون الفقارة من نفق أو قناة أفقية جوفية تحت سطح الأرض عرضها يتغيّر من 50 إلى 80 سم، وعمقها يتراوح بين 90 إلى 150 سم، وسلسلة من الآبار الارتوازية حفرت عموديا للوصول إلى المياه الجوفية ترتبط في ما بينها على مستوى القاعدة بالنفق، أو القناة لتوصيل الماء بينها مع وجود انحدار بسيط يسمح بتدفق الماء عبر النفق ثم خروجه بواسطة ساقية ليوزع في ما بعد.
ويتغيّر طول النفق الكلي لمجموع الفقاقير من مئات الأمتار ليصل أحيانا إلى بعض الكيلومترات، أما بالنسبة إلى فتحة البئر فتكون محاطة بالركام الناتج عن الحفر حتى يكون حاجزا أمام تسرب الرمال.
ويشير الباحث مولاي عبدالله سماعيلي في دراساته حول الفقارة، إلى أنها تأخذ شكل منحدر باتجاه الواحات، وعند اقتراب المياه تمر بآبار قريبة من السطح تدعى “أغوسرو” ومنها يتدفق الماء ليصل إلى القسري، وعلى حافته توجد العيون وهي الوحدات المستعملة لصرف المياه من القسري باتجاه البساتين، بعدما يحدد نصيب كل عين بدقة متناهية من طرف “الكيال” وهو الخبير بأسرار وحسابات مياه الفقارة، وبعد الانتهاء من توزيع حصص المياه تحفظ الحسابات في الزمام، وهو السجل الخاص بتقييد عمليات التوزيع والكيل.
ويشرح الباحث محمد بابا حيدة كيفية احتساب توزيع مياه الفقاقير، فبعد خروج الفقارة من الآبار وسيلانها فوق الأرض يشترك في مياهها جميع أهل القرية، ويوزع الماء على حساب الملكية من القلب المعروف بالقسرية وهي من حجارة، وآلة الكيل التي تسمى الشقفة أو الحلافة تصنع من النحاس مدورة، وقد تكون مستقيمة وهي ذات ثقوب ونوافذ، وتعتبر كل ثقبة كبيرة حبة، والثقبة الصغيرة قيراط أو أكثر، وأجزاء الفقارة تسمى بالحبة أو الماجن والحبة فيها 24 قيراطا.
الدارسون لتاريخ الفقارة كتراث عالمي يتفقون على أنه منذ قرن تقريبا بدأت الفقاقير بالتناقص من حيث العدد والإنتاج في العالم، هذا التناقص زاد في السنوات الأخيرة، فمثلا في الجزائر كان عدد الفقاقير أكثر من ألف في صحراء الجنوب الغربي الجزائري سنة 1904. وسجلت وزارة الموارد المائية في الجزائر في الفترة بين 2000 و2004، موت 495 فقارة أي ما يمثل أكثر من 40 بالمئة من الشبكة القديمة.
ويرى الباحثان رميني بوعلام المتخصص في الري ومحمد بن سعادة المتخصص في أنظمة الري التقليدية، أن أسباب تدهور حالة الفقاقير عديدة يمكن حصرها منها الهبوطات الطبيعية للطبقة المائية، فالمناطق الصحراوية الجافة تحتوي على خزانات عظيمة من المياه تكوّنت في العصور الماضية ولندرة الأمطار، فإن هذه الخزانات غير متجددة.
هذا من جهة ومن جهة أخرى تساهم كثرة المخارج في الطبقة المائية على مستوى الصحراء الشمالية الغربية والشمالية الشرقية، بقدر كبير في إحداث هبوطات متكررة ومعتبرة في الحوض.
على إثر ذلك يلجأ ملاّك الفقارة إلى تمديد الفقاقير لحفر آبار جديدة، كما يلجأون إلى تعميق الأنفاق.
ومن المعلوم أن البساتين تتواجد على مستوى أقل من مستوى الفقارة، فعندما يعمق فمن الضروري تخفيض مستوى البستان لكي تتم عملية السقي، بتكرار هذه العملية تقترب بعض البساتين من السبخة، أما البعض الآخر فتهمل أراضيه العلوية التي يتعذّر سقيها عن طريق الفقارة.
هذه الظاهرة تُنقص تدريجيا المساحات الزراعية لانحصارها من جهتين، من الجهة السفلية بواسطة السبخة شديدة الملوحة ومن الجهة العلوية لعدم توفر شروط السقي وتراكم الكثبان الرملية.
ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في موت الفقاقير العوامل البشرية، ويقصد بها ندرة أعمال الصيانة، فالفقارة تحتاج إلى يد عاملة كثيرة ومتمكنة لكي تنفذ الصيانة على أحسن وجوهها، وقلة اليد العاملة يعرقل إنجاز فقاقير جديدة وحتى صيانة تلك القديمة.
ويُطلق أهالي الواحات اسم الفريضة على عملية الصيانة نظرا إلى أهميتها، حيث تتم العملية في فصل الصيف إذ يتفرغ لها معظم الفلاحين. وفي البعض من الأحيان يتعذر على الفلاحين القيام بهذه المهمة فيلجأون إلى استئجار عمال بأجرة معينة.
ويعود سبب قلة اليد العاملة المتمكنة إلى عدم توريث الخبرة والحرفة للأجيال الحديثة، وكذلك نزوح اليد العاملة الفلاحية نحو القطاعات الأخرى كقطاعات مثل البترول والبناء التي توفر عملا مريحا ودخلا ماديا مضمونا.
وعمال صيانة الفقاقير، يعملون 8 ساعات في اليوم وفي ظروف جد خطيرة، بحيث سجلت عدة وفيات بسبب انهيار أجزاء من الفقارة، ومقابل ذلك يقبضون أجورا متدنية دون أن يكون لهم ضمان اجتماعي.
عناية ملحة
الخبراء الذين زاروا المناطق الصحراوية بجنوب غرب الجزائر ضمن بعثة دراسية أمثال بوعلام رميني ومحمد بن سعادة ومن اليابان الباحث اواو كويوري، أكدوا على ضرورة استمرارية الفقاقير كمصدر رئيسي لحياة الكثير من أهالي الواحات، نظرا إلى تعدد أبعادها الاقتصادية كتأمين معيشة حوالي 90 بالمئة من سكان المنطقة وسقي 7 آلاف نخلة للفقارة الواحدة، وأيضا بعدها السياحية، إذ تعتبر بمثابة إرث حضاري وثقافي يعطي طابعا خاصا للمنطقة.
ونظرا إلى التهديدات التي أصبحت تحيط بالفقارات شهدت خلال السنوات الأخيرة اهتماما رسميا بدعم الفقارة من خلال برامج الترميم والصيانة، فضلا عن تنظيم سلسلة ملتقيات وطنية ودولية حول هذا الموروث الحضاري الاقتصادي الذي لا يتطلب أعباء متراكمة ويساهم في اقتصاد المياه وتسييرها كما يجب، حيث تم إنشاء مرصد وطني يتولى مهمة البحث العلمي بأدرار من أجل العمل على الحفاظ على نظام الفقارة من النضوب والتي تؤدي إلى ارتفاع نسب الهجرة إلى المناطق الحضرية.
تبقى الفقارة في الجزائر شاهدا على إبداع الإنسان الصحراوي في تكييف الجغرافيا وفق طموحاته واستقراره، فضلا عن كونها تقنية تحتاج إلى تصنيف ضمن روائع التراث المادي العالمي، وتعتبر منطقة أدرار في الجزائر الوارث الحقيقي لهذه الأنظمة التي تعكس الإبداع الإنساني في الحصول على وموارد مائية باطنية تسمح باستمرار الفلاحة في الواحات للمئات من السنين.
www.deyaralnagab.com
|