"البواحير" تقليد لمعرفة أحوال الطقس في لبنان!!
06.10.2017
الزراعة وجني المحصول. ومن أبرز هذه الطرق البواحير التي لم يتخلص منها كبار السن رغم أن الوسائل العلمية الحديثة تؤكد عدم قدرة الإنسان على توقع أحوال جوية لأكثر من عشرة أيام، وحتى التوقعات التي تقدمها الأرصاد الجوية كثيرا ما تتغير خلال فترة أسبوع أو بين يوم وآخر
بيروت – “البواحير” هي عملية تقليدية لاستكشاف أحوال الطقس طيلة عام كامل، اعتمدها اللبنانيون حين كان نمط الإنتاج زراعيا، ولكنها اليوم بدأت بالاندثار مع تغير نمط الإنتاج وانتهاء وظيفتها، ومع التقدم الكبير الذي حققته الأرصاد الجوية، إلا أنها تحاول انتزاع مكانة لها في بعض القرى اللبنانية حيث لا يزال البعض يهتم بها.
وتقسم البواحير إلى قسمين؛ شرقية وغربية وفق التقويمين المسيحيين الشرقي والغربي، وتبدأ وفق التقويم الغربي في 14 سبتمبر من كل عام، اليوم الذي يصادف يوم عيد الصليب عند المسيحيين، أما بحسب التقويم الشرقي فتبدأ في 27 سبتمبر.
وتتلخص البواحير في مراقبة الطقس ابتداء من 14 سبتمبر، ولمدة 12 يوما تمثل أشهر السنة القادمة، وفق التقويم الغربي، ومن 27 سبتمبر ولمدة 12 يوما مماثلة وفق التقويم الشرقي، من خلال مراقبة حركة الرياح وهبوبها وبرودتها وشدتها واتجاهها ورطوبتها، وكذلك مراقبة الغيوم ولونها وعلوها وكثافتها ومراقبة الرطوبة والصقيع والندى والحرارة، لتحديد كيف ستكون أحوال الطقس المقبل طيلة عام.
ويعمد البعض إلى استخدام طريقة قياس الطقس بواسطة الملح، من خلال وضعه على 12 ورقة توت تمثل أشهر السنة، وذلك ليلة عيد الصليب، وتتم مراقبة الأوراق قبل بزوغ فجر اليوم التالي، وذلك خلال الأيام الإثنى عشر الممتدة من 14 سبتمبر حتى 26 منه ومن 27 سبتمبر حتى 8 من أكتوبر.
وإذا كان الملح جامدا يكون البرد قارسا، وإذا ذاب الملح فالشهر يخبئ أمطارا وافرة وإذا لم يتغيّر حال الملح فالطقس سيكون صافيا.
كما أنّ بعض المزارعين يضعون ورقة تين خضراء كلّ يوم بعد عيد الصليب وتُحسب حالة كلّ ورقة ليوم كامل عن شهر، أي إذا ما يبست أو ترطّبت أو ظهرت عليها نقاط الندى، فمن خلال ورقة التين يحددون حالة الطقس القادمة.
خبرة بالتجربة
تقول ربة المنزل أولغا من البقاع شرق لبنان، التي فضلت عدم ذكر اسمها كاملا، “لا يزال بعض سكان القرى اللبنانية ينتظرون توقعات البواحير التي يقوم بها بعض المختصين في القرى، ويهتم بها مسلمون ومسيحيون، لكن معظم سكان المدن في لبنان يسخرون من هذه التوقعات، خاصة بعد التقدم العلمي والمعطيات الدقيقة التي توفرها الأرصاد الجوية”.
الأب إيلي خنيصر خبير بواحير ورثها عن أبيه وجدّه، ويهتم أيضا بشؤون الطقس بالطريقة العلمية، يقول “ليس بالضرورة أن أؤمن بها، لكنني أحبّ المحافظة عليها، ولا سيما أن أسلافنا اعتمدوها قبل وجود الأقمار الصناعية والتحليلات المناخية، وغالبا ما كانت تصيب”.
ولا يعتمد الأب خنيصر طريقة واحدة في قراءته المناخية، بل يلجأ إلى الطريقة الأكثر شيوعا لدى أجداده وهي وضع الملح الخشن على ورق التين، ويعمل في الوقت نفسه على أسلوب آخر يتوّخى مراقبة أقسام النهار الأربعة (أي كلّ ستّ ساعات)، بكلّ ما تحمله ساعات اليوم من تغيرات وتقلبات، ومن دون إغفال أي عامل.
ويقول “على الدراسة أن تكون شاملة بحيث تلحظ الرياح والشمس والغيوم والضباب والرطوبة ومدى الضغط الجوّي. ففي الكثير من الأحيان، لا يكون عامل تساقط المطر أو عدمه المؤشر القاطع والأكيد عن حال طقس ماطر”.
كلام منجمين
يقول رئيس مصلحة الأرصاد الجوية في مطار رفيق الحريري الدولي مارك وهيبة “توقعات الطقس ترتكز على حسابات العلم والمراصد الجوية، عدا ذلك تكون كلها مجرد توقعات حتى لا نقول كلام منجمين”.
ويضيف “إذا أردتم معرفة توقعات الطقس عليكم الاتكال على مصدرين علميين لا ثالث لهما؛ المنظمة العالمية للأرصاد الجوية والتي تضم نحو 191 مركزا للرصد الجوي، ومصلحة الأرصاد الجوية في لبنان، لأن المعلومات التي تصدر عن هذين المصدرين تكون حقيقية وتتضمن خلفية علمية”.
ويرى الأب خنيصر في تقييمه لنشرات الطقس في لبنان، أنها غير كافية كونها تقدم معلومات موجزة مع تغييب الشرح اللازم لتثقيف المواطن في معرفته بتحولات المناخ بحيث لا يعود يصاب بالذعر حين يسمع عن الدخول في حالات مناخية طارئة.
وبين التحولات التي طرأت على الطقس في زمن الأجداد والتغيرات الحاصلة اليوم، يرى خنيصر أن زمن الستينات والسبعينات يختلف نظرا لعدم وجود احتباس حراري في حينه، في الوقت الذي نخسر حاليا الكثير من الغابات ونعاني التلوث ونشهد على فترات تعود معها البقع الشمسية فتلتهب الأرض أو أنها تخفت فتتراجع الانفجارات وتتدنى درجات الحرارة، كما هو متوقع في السنوات المقبلة بأن تتدنى درجات الحرارة بشكل ملحوظ.
شباب لا يثقون في البواحير
الأجيال المتعلمة الجديدة لا تثق في ما يقوله كبار السن حول الطقس باستعمال طرق البواحير رغم صحتها في بعض الأحيان، لكن أغلب من تعلم هذه الطريقة يحاول تجربتها.
تقول الجامعية آية عبدوني من بيروت “تعلمت البواحير من والدتي التي تعلمتها بدورها من جارتها، أما سبب متابعتي لها فهي مقارنتها مع ما توصل إليه الآخرون، من جهة، ولمعرفة ما إذا كان توقع أحوال الطقس عبر هذه الطريقة التقليدية دقيقا، من جهة أخرى”.
ويقول أنور أستاذ مادة الرياضة في منطقة المتن الشمالي من جبل لبنان، الذي فضل عدم ذكر اسمه كاملا، “في كل عام أراقب البواحير بحسب التقويمين الشرقي والغربي، ابتداء من 14 سبتمبر بحسب التقويم الغربي و27 منه بحسب التقويم الشرقي، واليوم الأول من البواحير يكشف كيف سيكون الطقس في سبتمبر من العام المقبل، واليوم التالي يكشف طقس أكتوبر، وهكذا حتى 12 يوما، بعدد أشهر السنة”.
ويقول المزارع شهيد عازار إن عددا من أبناء قريته يراقبون البواحير وهو واحد منهم، إلا أن جيل الشباب لا يعتقدون بصحة توقعاتها، وهم يسخرون منها، فيما جيل آبائهم ينتظر بحماس ما ستؤول إليه توقعات البواحير، وأيهما أصدق الشرقية أم الغربية. ويقول إدوار القش أستاذ مادة الأنتروبولوجيا في الجامعة اللبنانية “إن كلمة الطقس تعني في الأساس ممارسات دينية، وتمت استعارة هذه الكلمة للتعبير عن المناخ وأحواله، ويتم استخدام كلمة الشتاء كفعل في اللهجة العامية، فيقولون ‘تشتي الدني’، بمعنى أنها تمطر، وهذا ما يظهر أهمية البيئة وما تضفيه من خاصية على سلوك البشر”. ويضيف القش “إن البواحير مرتبطة بالروزنامة الزراعية في المنطقة، أما سبب بدايتها في الرابع عشر من سبتمبر بالتزامن مع عيد الصليب عند المسيحيين، فيرجع إلى أن هذا الوقت يمثل نهاية عملية لفصل الصيف وبداية موسم المطر”.
وتابع القش “بعد الرابع عشر من سبتمبر، يترقب الفلاحون بقلق أحوال المناخ في السنة المقبلة، ويتوقعونها من خلال البواحير وكل همهم أن تحمل السنة القادمة مجموعة من ‘العيانات’ وهو تعبير محلي يستخدم للتدليل على بداية ونهاية المطر، في كل مرة تمطر فيها السماء، حيث يقومون بفلاحة الأرض بعد العيانة الأولى، ويسمونها ‘كسارة’، ثم يقومون بفلاحتها مرة أخرى في الربيع، ويسمونها ‘تناية’، ومن هنا تأتي أهمية ترقب أحوال المناخ من خلال البواحير في ذلك الزمن للتمكن من التحكم بفعل الزراعة والتأكد من نجاحها”.
الدورة الزراعية
يعتبر البعض أن عيد الصليب في سبتمبر مفصل في الدورة الزراعية السنوية في لبنان، ففيه كانت تعقد الاتفاقيات الزراعية ويؤجر ملاكو الأراضي بساتينهم وكرومهم لعام زراعي قادم، (من الصليب للصليب)، ويتعاقد الأجراء والرعاة والعمال الزراعيون مع “معلميهم” على العمل لديهم لعام كامل. كما أن العديد من الأمثال الشعبية تلخّص العوامل المناخية في سبتمبر، فيقال مثلا “أيلول طرفو بالشتي مبلول”.
وبعد عيد الصليب يحين موعد جمع المواسم الزراعية وتصريفها، وبعدها يقوم الفلاحون بإعداد أراضيهم للحرث والزرع وينظفون الحقول من الأشواك والشجيرات ويجهزون احتياجاتهم للاتقاء من برد الشتاء ويحضرون مؤونة الشتاء كالحبوب والزيت والثمار والفواكه المجففة والأطعمة المطبوخة بالسكر أو الملح التي تحفظ لفصل الشتاء. ويقول الأب يوسف خوري “بدأت الاحتفالات بعيد الصليب مع القديسة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين، أول إمبراطور روماني مسيحي، وهي التي قامت بالبحث عن الصليب الذي صلب عليه المسيح وعندما وجدته أعادته إلى الجلجلة في القرن الثالث للميلاد، ثم تمت سرقته من قبل ملك الفرس كسرى أنو شروان واستعاده الإمبراطور هرقل، وعند استعادته أشعلت النار للتبليغ عن استرجاعه، ومنذ ذلك الوقت يحتفل المسيحيون بعيد الصليب”.
وأضاف الأب خوري أن “المسيحيين كانوا يحتفلون بهذا العيد بإشعال النار في ساحات قراهم أو على المرتفعات المحيطة بها، أما اليوم فقد تغيرت طريقة الاحتفال بهذا العيد، إلى إضاءة الشموع على شرفات منازل المسيحيين أينما كانوا في القرى أو المدن”.
أما موعد الاحتفال بهذا العيد في الرابع عشر من سبتمبر، تابع الأب خوري “فيعود ربما لأهمية هذا التاريخ باعتباره محطة انتقالية بين مرحلتين مناخيتين؛ نهاية الصيف وبداية المطر، ومن المحتمل أن تكون الكنيسة قد أعطت هذا التاريخ معنى مسيحيا”.
وهناك طريقة تقليدية أخرى لمعرفة أحوال الطقس عند اللبنانيين يطلق عليها “مطبوخ الروم”، وإذا كانت البواحير تعنى بأحوال الطقس لسنة واحدة فإن طريقة “مطبوخ الروم” تحدد توقعات لحالة الطقس لسنوات قادمة وليس لسنة واحدة فقط.
وإذا كانت البواحير و”مطبوخ الروم” طريقتين ابتدعهما اللبنانيون لمعرفة أحوال الطقس واعتمدوا عليهما في فترات سابقة وتوقفت عليهما الكثير من تحركاتهم خلال المواسم، فإن استمرارهما اليوم أصبح خجولا في بعض القرى اللبنانية، بالرغم من انعدام الحاجة إليهما، إنما هو استمرار لثقافة تقليدية، نجحت حتى الآن في المحافظة على كيانها، ولو جزئيا.
www.deyaralnagab.com
|