الـ"إيمراغن" في موريتانيا صيادون بشباك وزوارق من الشجر!!
05.08.2017
استوطنت مجموعة الصيادين التي تعرف باسم “إيمراغن” شواطئ الأطلسي منذ القدم، ومارست الصيد بوسائل بدائية وصفها الرحالة البرتغالي فالنتين فرناندز في القرن الخامس عشر، وما زالت مستخدمة حتى الآن. ويسكن إيمراغن في قرى متناثرة على الشاطئ، تقع معظمها في “محمية حوض آرغين” في موريتانيا حيث يعتمدون على السمك في غذائهم ودوائهم.
نواكشوط - الـ”إيمراغن”، مجموعة بشرية استوطنت شاطئ المحيط الأطلسي في الشمال الغربي لموريتانيا منذ القدم، ويعيشون على الصيد التقليدي، الذي يمارسونه بواسطة أدوات ووسائل بدائية صنعوها محليا، وما زالوا حتى اليوم متمسكين بها، كما يتشبثون بعاداتهم الموروثة في طرق الصيد ومواسمه المعروفة لديهم بدقة فائقة، ويرفضون التعامل مع الوسائل الحديثة، التي يقولون إن ظهورها كان سببا في تناقص الأسماك وانقراض عينات منها بصورة نهائية.
ومثلما تجري المحافظة على الطيور والأسماك، تعمل الجهات الرسمية في موريتانيا على أن يحافظ الإيمراغن على عاداتهم وأساليب الصيد المتبعة منذ القدم.
ويسكن الـ”إيمراغن” (الكلمة بربرية ومعناها الصيادون ومفردها الـ”آمريغ”) في حوالي 12 قرية متناثرة على الشاطئ، يقع معظمها في “محمية حوض آرغين”.
وعرفوا بخبرتهم الطويلة ومعرفتهم الدقيقة بعينات الأسماك ومواسم صيد كل صنف منها، وأماكن تكاثرها، ولهم فنون وأساليب وطقوس خاصة في صيد الأسماك يصرون على التمسك بها حتى في زمن العولمة وطغيان التكنولوجيا، هذا فضلا عن أن حياتهم تعتمد على السمك بشكل كامل، من غذاء ودواء وغير ذلك.
ويعتبرهم عدد من المؤرخين مجموعة ذات أصول مختلفة، أغلبها جماعات هاجرت إلى المنطقة قبل قيام دولة المرابطين، والتحقت بها مجموعة من بقايا المرابطين، هي عبارة عن أطفال وشيوخ ونساء تخلفوا عن الخروج للجهاد، وبقوا في منطقة “أتيدرة” شمال نواكشوط.
تجمعات سكنية بسيطة
يقيم الإيمراغن، في تجمعات سكنية على شاطئ المحيط الأطلسي، تتألف مبانيها في الغالب من عروش وأكواخ صنعت من الشجر والحشيش، ويصنع النساء مساكن تكون ذات ظل وارف كثيف، تمنع تسرب البلل مهما كان المطر غزيرا، ويقول الباحث ولد سيدي أعمر إنهم أقاموا تجمعاتهم أصلا “في مصائد عرفوا كثرة أسماكها وسهولة صيدها، ومن السمك تغذوا ومنه تعالجوا، وهذا الغذاء وهذا العلاج عصارة تجربة القوم في صناعة الأغذية من السمك والتداوي به”.
ولهذه المجموعات حدود بحرية تم رسمها عرفيا ونظريا في ما بينها، بحيث لا تصطاد أي مجموعة في المياه التابعة للأخرى، ويقول المؤرخون إن هذه التجمعات تأسست تمشيا مع حركة السمك على الشاطئ.
ويضيف أحد الباحثين “نظرا لمعرفة القوم بمواسم تحرك السمك ومواطن استراحته، أقاموا قراهم في مناطق قريبة من الشاطئ، سمّوها المصايد، وأصبح لكل منها مجاله الذي يمارس فيه الصيد، وذلك وفق مسافات يبدو أنها محددة وفق أعراف وتقاليد معينة”.
وسائل بدائية
يقول عبدالبركة وهو حكيم إحدى قرى إيمراغن ومرجعها في فنون صيد السمك، إن الفرد التابع لإيمرلاغن يجب أن يصنع بيديه كلما يحتاجه في عمله اليومي وفي حياته، معتمدا في ذلك على مواد من الطبيعة المحيطة به.
ويمتاز أفراد مجموعات الإيمراغن بالحفاظ على طبيعة الحياة التقليدية البدائية، بما في ذلك الوسائل التي يستخدمونها في صيد السمك، وهي من صناعتهم وإنتاجهم، بدءا بالشباك، التي يصنعونها من مواد طبيعية، تعتمد على عراجين شجر الرتم، حيث تقوم إيمراغن بإرسال مجموعات من الشباب للبحث عن هذه الشجرة التي تنبت في الصحراء، وتسمى المجموعة الذاهبة لجلب هذه الشجرة “الفزاعة”.
وبعد إحضارها يتم عزل الألياف اللينة منها، وتجفيفها ثم يتم فتلها على شكل خيوط وأسلاك، تصنع منها الشبكة، التي يجتمع الرجال والنساء عادة في جلسات نسجها وصناعتها، وتستخدم في قياس فتحات كل شبكة وحدات معروفة ودقيقة.
وتختلف سعة فتحات الشبكة باختلاف أغراض الصياد وأنواع الأسماك التي ينوي تخصيص شبكته لصيدها، فهناك شبكة مخصّصة لصيد السمك الكبير، أو ما يسمى محليّا أزول، وتمتاز عادة بأن فتحاتها تكون واسعة، وهناك شبكة مخصّصة لصيد السمك من الأحجام المتوسطة ويسمى بازدول، ومن الشباك ما يستخدم لصيد السمك الصغير الحجم، ويسمى ياي بوي، وتستخدم نفس الأساليب والأدوات في صناعة أنواع الشباك، ويبقى الفرق الوحيد هو حجم فتحات عيون الشباك، وهناك يظهر دور المتخصصين المهرة، الذين يمتازون بالدقة في الصنعة، والحرفية العالية التي ورثوها أبا عن جد.
أما الزوارق التي يصطادون بها، فيتم صنعها محليا، ويسمى الزورق عندهم “التامونانت”، وتتم صناعته من ألواح كبيرة من شجر الأيك المنتشر في الصحراء، وبعد نحتها ومعالجتها وتسوية صفائحها بالنار والمناشير، ودهنها لعدة أيام حتى تتصلب وتتقوّى، يتم ربط بعضها ببعض، وتستخدم فيها المسامير والألياف والأسلاك القوية والحبال، ولكل صفيحة من هذه الألواح الخشبية اسم تعرف به.
وخلال صناعة الزورق يتم جلب كميات من أغصان شجر الفرنان، الذي يستخرجون منه سائلا أبيض اللون شبيها باللبن، يسمونه لبن الفرنان، ثم يأخذون كميات من صدف المحار الموجود على الشاطئ، وتقوم النسوة بسحقها حتى تصبح مسحوقا، ويصب عليها “لبن الفرنان”، ويتم مزجهما حتى يتحوّل الخليط إلى معجون يتم طلاء الزورق به.
ويتم صبّ كميات كبيرة من الطلاء على الألواح حتى تكون طبقة الطلاء سميكة، والهدف من ذلك هو منع تلك الألواح الخشبية من التآكل بسبب مكوثها طويلا في ماء البحر، أو التراب المبلل على الشاطئ، وكلما كان المزج أقوى، والطلاء أكثر سماكة، كلما أتيح لتلك الزوارق أن تصمد وتعمر أكثر.
لا يحبون الا البحر
ويعرف حاليا في أحياء إيمراغن عدد من الزوارق عمرها يزيد على مئتي سنة، توارثها الأبناء عن الآباء والآباء عن الأجداد. وتختلف أحجام الزوارق باختلاف الغاية منها، فهناك زوارق معدّة للصيد بعيدا عن الشاطئ، ويفترض أن يمضي الصيادون على متنها عدة أيام وسط البحر، وتكون أحجامها عادة كبيرة، يصل طولها أحيانا إلى 16 مترا، وبعرض يبلغ 4 أمتار، أما الزوارق الصغيرة التي تصطاد نهارا، وتعود إلى الشاطئ الذي لا تبتعد عنه أصلا عند الغروب، فتكون أحجامها أصغر بكثير.
وفي العصور الحديثة أضاف الصيادون إلى تقاليدهم القديمة استخدام المراكب الشراعية التي باستطاعتها التوغل داخل مناطق الصيد البعيدة عن القرى.
تتم عمليات الصيد لدى الإيمراغن على شكل احتفالات حيث ينزل الرجال إلى البحر جماعات، وقد ربطوا شباكهم إلى المناكب مردّدين أغاني تمجّد سمكة الدلفين صديقة الصياد ثم تبدأ عملية “التشييلة” وهي نداء استغاثة بالدلفين وإشعار لها أن الصيادين في حاجة إليها. وتتلخص العملية في ضرب الماء بالعصي وإصدار أصوات مبهمة.
وقال الصياد عبدي، “ما إن تسمعنا سمكة الدلفين حتى تطل بوجهها، وتبدأ في مطاردة الأسماك باتجاهنا”.
وبمجرد وجود الأسماك في منطقة الشباك يحكم الصيادون والدلافين حصارا حولها بتشكيل دائرة ترغمها على الوقوع.
ثم تبدأ معركة اشتباك بالأيدي يتم خلالها تكسير رؤوس الأسماك لئلا تتمكن من الهرب، فضلا عن استجابة لمعتقد راسخ يقول بأن إسالة دم السمكة في البحر يخصبه.
أسرار الصيد
كما برع صيادو إيمراغن في صناعة أدوات صيدهم وكانوا مهرة بها، وقد تميزوا كذلك بمعرفة مواطن الصيد وأوقاته، ومعرفة أنواع الأسماك التي يصطادونها، وموسم صيد كل منها، وهنا تختلف المواقيت بالنسبة إلى سكان قرى إيمراغن، ففي الفترة التي يكون فيها سكان “كصور” و”لمحيجرات”، لا يصطادون إلا ليلا، يصطاد سكان “المامغار” إلا في أوقات محددة، عند غروب الشمس أو قبل طلوعها، ومرة واحدة في اليوم، بحيث لو اصطادوا قبل طلوع الشمس، فإنهم يمتنعون عن الصيد عند غروبها، والعكس تماما.
وبالنسبة إلى صيد السمك الكبير أزول، وهو أفضل أنواع السمك بالنسبة إليهم، فهناك ثلاث فترات، تعتقد إيمراغن أن هذا السمك يتحرك فيها.
ويقولون إنه ينمو في مناطق الشمال، وينطلق باتجاه الجنوب، وبالتحديد المناطق المحاذية لشواطئ السنغال، حيث يتكاثر ثم يعود في رحلة العودة إلى الشمال.
وتعتقد إيمراغن أن سمكة أزول في رحلتها نحو الجنوب تكون قريبة من الشاطئ محملة بالبيض، ويسهل اصطيادها، أما في رحلة العودة فإنها تكون خلالها بعيدة من الشاطئ، وهنا يصعب صيدها إلا على الزوارق الكبيرة التي تمخر بعيدا في عرض البحر.
غذاء وعلاج
تعتمد الإيمراغن على السمك في كل مناحي الحياة، ويقول الباحث ولد سيد اعمر “بالنسبة إلى إيمراغن، تتم التغذية بالسمك مطلقا، ويدخل في تركيب الوجبات الغذائية متعددة المواد، ويستخدم البعض من أنواعه كمواد للعلاج”.
وتقول إمباركة اعلين، وهي سيدة معروفة في مجتمع إيمراغن، إنهم يعتمدون في علاج مرضاهم أساسا على سمكة أزول الكبيرة، حيث يسقى المريض كميات من الدهن المستخرج منها، ويأكل شرائح من لحمها.
ويمتاز السمك المخصص للاستخدام في العلاج، بأنه يجفف وهو ما زال طريا ولا يعرض للشمس ولا للرياح.
ويقول كبار مجتمع إيمراغن، إن العلاج بسمكة أزول لا يتعدى شهرا و15 يوما، ويتم استخراج الدهون من رؤوس السمك بعد غليها وتصفيتها، ويتحدثون عن تجارب لهم ومعتقدات في هذا المجال، أقرب إلى الخرافة منها إلى الحقيقة، لكنهم يؤمنون بها ويتمسكون بها، وعلى قناعة كبيرة بصحتها.
ومن هذه الأمور اعتقادهم أن السمكة التي تقفز فوق سطح البحر مقدارا يفوق قامة الرجل المتوسط، هي التي يعالج لحمها ودهنها المرضى، وهي صفات تنطبق عادة على سمكة أزول إذا كانت في متوسط عمرها وغير مصابة بمرض أو لم تكن حاملة للبيض، ويقولون إن سمكة أزول تعالج أمراضا كثيرة، منها أمراض ضيق التنفس والسكري، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض النزلات البردية والربو.
أما الوجبات التي يصنعونها من السمك فهي مختلفة وكثيرة، ومن أجودها وأشهرها وجبة “الخليع”، وهي عبارة عن خليط من السمك المجفف والبيض والدهن المستخرج من السمك والسكر، هذا فضلا عن وجبات أخرى مثل “التيشطار” وهي عبارة عن صفائح لحم السمك المجفف، بالإضافة إلى “فاريت” و”ملوس” و”كرين” و”المجوجر” و”المجمر”.
ورغم اكتشاف الإيمراغن أسرار المحيط الأطلسي على مرّ العصور، فإنهم يواجهون الجوع في بعض الفترات، حيث تقتصر عمليات الصيد على سمك القرش الكبير الذي لا يأكله الموريتانيون، ويبيع الصيادون أطرافه لمن يصدرونها إلى الخارج بسعر ثلاثة آلاف أوقية موريتانية للكيلوغرام الواحد، علما أن ما يصطاده الإيمراغن من هذه السمكة في الغالب في اليوم يبقى محدودا جدا.!!
www.deyaralnagab.com
|