التحطيب لعبة الصعايدة و"غية الرجال" على إيقاع راقص!!
30.06.2017
عصاية المحبة” أو”غية الرجال”، اسمان يطلقهما الرجال في صعيد مصر على أحد أشهر الفنون الشعبية المصرية “التحطيب”، وهي مبارزة بالعصي في حركات استعراضية ودية على أنغام الموسيقى الشعبية لا تحمل أي مظاهر عنف بل تقوم على الاحترام المتبادل والصداقة والشجاعة والفروسية والفخر.
القاهرة - تُعدّ رقصة أو لعبة العصا، اللعبة الشعبية الأكثر شهرة في قرى صعيد مصر لما تحويه تلك اللعبة التاريخية من أشكال التعبير الموروثة عن الأجداد، والتي ترتبط بما عرفه المصريون القدامى من ألعاب وفنون، ومنافسات فردية تبرز فروسية اللاعبين الذين يقطعون مسافات بعيدة لممارسة لعبتهم المفضلة في المناسبات الدينية والشعبية والأفراح.
وتتميز رقصة التحطيب بدقة الأداء وجمال الحركة وخفتها وفن الحبكة، وقد صوّرتها السينما المصرية في العديد من الأفلام، ونُظّمت حركاتها لتعرضها الفرق الشعبية المصرية.
وتُمارس لعبة التحطيب في الموالد، ومن ذلك مولد العارف بالله سيدي عبدالرحيم القنائي بمدينة قنا والعارف بالله سيدي أبي الحجاج الأقصري ومولدي أبوالقمصان وأبوظعبوط والعزب الجهلان في الأقصر ومولد سيدي الفرغلي في اسيوط، وغيرها من الاحتفالات الشعبية بموالد الأولياء والعارفين في مختلف المدن والقرى المصرية، وفي تلك المناسبات يعلن عن رفع عصا اللعب من بعد العصر حتى المغرب، ومن أهم مناسبات تلك اللعبة الأفراح والأعراس.
وعن دور لعبة التحطيب في مراسم الزواج في الصعيد يقول حسام، أحد لاعبي التحطيب في إحدى فرق الفنون الشعبية، “هناك دور مهم للعبة التحطيب في الصعيد وهذا الدور لا يقتصر على التباهي باللعبة في الاحتفال بالزواج، إنما هناك دور آخر أكثر أهمية، وهو أن هناك البعض من العائلات الكبيرة لا توافق على زواج من يتقدّم لبناتها إلا بعد خوضه مباراة تحطيب مع والد العروس أو شقيقها أو أحد أبناء أعمامها، وذلك لضمان شجاعته وجلده وقدرته على التحدي مما يضمن لها قدرته على حماية ابنتها والدفاع عنها.
وعن اشتراك البنات في هذه اللعبة يضيف حسام “لا يمكن للمرأة أن تمارس لعبة التحطيب لأنها تحتاج إلى قوة بدنية خاصة، فالعصا نفسها المرتبطة باللعبة تكون ثقيلة جدا، بحيث يصعب على أي امرأة حملها وليس التحرك والمبارزة بها، ولكن البنات يشتركن معنا في العروض الفنية بالرقص فقط حول العصا”.
لعبة فرعونية
تعود جذور فن التحطيب إلى مصر الفرعونية، فالفراعنة هم أول من ابتكروا لعبة التحطيب، والتي لا تندلع شرارتها ولا يحلو إيقاعها إلا مع احتكاك العصا بالعصا وعنهم توارثها المصريون إلى أن أصبحت واحدة من أهم معالم صعيد مصر.
وتتضح جذورها من الرسوم الموجودة على جدران المعابد الفرعونية وتحديدا في مناطق تل العمارنة والآشمونين والكرنك، وكانت لعبة أساسية عندهم فضلا عن كونها إحدى أهم وسائل الدفاع عن النفس وأقدم الفنون القتالية التي عرفها التاريخ.
والعصا التي استخدمها قدماء المصريين كانت مصنوعة من نبات البردي المعجون حتى لا تسبب إصابات بالغة للاعبين وبمرور الوقت تغيّر نوع العصا لتصير من الشومة الغليظة أو من الخيزران.
ويوضح هواة اللعبة من الصعيد أن حركات العصا في لعبة التحطيب والتلويح بها ليست عشوائية، بل تنقسم إلى تحية واستعراض وحركات رش وفتح باب.
وتقول الباحثة المصرية منى فتحي، إن لعبة العصا أو التحطيب يرجع تاريخها إلى عصور الفراعنة الذين سجلوا ممارستهم لتلك اللعبة على جدران آثارهم، وهي لعبة قتالية تحوّلت إلى لعبة استعراضية خلال العقود الماضية، وأصبحت تقام لها مسابقات خاصة تجمع العشرات من اللاعبين المحترفين من جميع المحافظات بوجود محكمين أو شيوخ اللعبة.
وقد صوّر الفراعنة هذه اللعبة على جدران معابدهم وكانوا يهتمون بتعليمها للجنود ويختلف نسبيا شكل وخطوات اللعب الآن عما سبق، كما أن العصا المستخدمة في اللعب في عصور الفراعنة والتي وجدت نقوش لها على جدران معابد الأقصر تتكوّن غالبا من نبات البردي المعجون الذي لا يؤذي الخصم أو المنافس.
وأضافت منى فتحي أن لعبة التحطيب أو “غيّة الرجال” كما يسميها أهل الصعيد لها ارتباط وثيق برياضة الفروسية على وجه التحديد، إذ تقوم على التقاء فارس بفارس مما يجعلها تقترب أيضا في مظهرها العام من عوالم المنافسات الرياضية، إذ تمثل الرياضة مصدرا أساسيا لعناصر هذه اللعبة وعاملا فاعلا في طريق نشأتها.
وقالت إن الراقص أو لاعب العصا يحتاج إلى قوة الرد وسرعة المبادرة عند النزول إلى حلقة التحطيب التي تتكون من فرقة للمزمار ولاعبين اثنين يمسك كل منهما بعصا بجانب المتفرجين والعوال، الذي يدير الحلقة.
واوضحت، أنه داخل حلقة التحطيب تجد المكر والمغامرة والعزة والخداع والبطولة في آن واحد، وبالرغم من أن التحطيب هي رقصة تروّح عن النفس وتبهج الروح إلا أنها تنطوي على مخاطر قد تؤدي إلى الوفاة، فإذا ما غفل الراقص عن مراقبة حركات منافسه لجزء من الثانية أثناء الرقص داخل الحلقة، عندئذ سوف يتلقى ضربة عصا في أي جزء من جسده.
وأشارت إلى أن المهارة في لعبة العصا لمن يصدّ ضربات منافسة ويبادر بضربات راقصة متوالية وأطرف ما في ضربات رقصة العصا أو لعبة التحطيب أنها ضربات ذات إيقاع راقص.
ويحتاج المحطب إلى التمتع بالذكاء واللياقة البدنية العالية ونظر حاد وسرعة بديهة وتركيز وقوة بدنية وجسمانية تمكّنه من الإمساك بالعصا جيدا حتى لا تقع من يده ويصبح مثار سخرية من الحاضرين.
قواعد اللعبة
الحركات الاستعراضية هي الأصل في لعبة التحطيب، لأنها تؤكد مهارة وخفة اللاعب، واستحقاقه للفوز، وهي مجموعة الحركات التي يبدأ بها اللاعب مباراته، ليبرز قوته ويثير حماسته وحماس الجمهور، قبل أن يبدأ كل لاعب بضرب الآخر في الهواء، ليصد الآخر الضربة في الهواء أيضا، ليواصل اللاعبان تنفيذ سلسلة من الحركات الالتحامية، التي تحدد في النهاية المنتصر والمهزوم وينتهي اللقاء بالعناق.
وتستند لعبة التحطيب إلى مجموعة من القواعد والضوابط حافظت عليها الأجيال، وهي تقوم على الاحترام المتبادل والصداقة والشجاعة والفروسية والفخر.
وتبدأ بأن يلقي اللاعب التحية على الحضور الذين يلتفون في حلقة كبيرة لمتابعة المنافسة، ثم تحية المنافس بالتلويح بالعصا ويديرها فوق رأسه عدة مرات على نغمات المزمار والربابة والطبل البلدي، وهي الموسيقى الشعبية التي دائما ما تصاحب مباريات التحطيب.
ويؤكد هواة اللعبة أن حركات اللاعبين المحسوبة على إيقاع المزمار تضفي على اللعبة متعة كبيرة وتخرجها من تصنيفها كلعبة قتالية؛ فهي فن من الطراز الأول قبل أن تكون لعبة تنمّي قيم الشهامة والإقدام والشجاعة لدى لاعبيها.
وتتنوع الأغاني الشعبية المصاحبة لفن التحطيب حسب المناسبة، فهناك أغان خاصة بالاحتفال بمولود جديد في الأسرة، أو الاحتفال بالحصاد، أو الاحتفال بالأعراس، وهناك أيضا أغنيات خاصة بالاحتفال بالموالد المختلفة في الصعيد. وتبدأ إشارة انطلاق الرقصة المباراة بكلمة “ساه” التي يطلقها أحد المحكمين، وتعني أنّ وقت اللعب قد حان. ويقوم اللاعبان بالدوران أحدهما حول الآخر أربع مرات، ثم تنطلق أصوات تقارع العصي، واستعراض المهارات.
ويتكفل المحكمون باحتساب نقاط الفوز والهزيمة، من ذلك أن العودة للخلف بالظهر لخارج الحلبة تحسب نقطة على اللاعب لصالح خصمه، وضربة الرأس تحسب بثلاث نقاط، بينما تساوي الضربة على الجزء الأوسط من الجسم نقطتين، والضربة على الساق نقطة واحدة، وقدرة أحد الخصمين على إسقاط العصا من يد الآخر بالضغط عليه تنهي المقابلة وإعلان الفوز، كما الضربة القاضية في الملاكمة.
ولا يحق لأحد اللاعبين الإمساك بالخصم أو عصاه أو دفعه بغير عصا، وإذا فعل ذلك يحصل على إنذار ويخسر المباراة إذا كرر نفس الخطأ ثلاث مرات.
ويحرص لاعبو التحطيب على النزول إلى حلبة اللعب بكامل زينتهم، التي تتكون دائما من اللباس التقليدي في قرى الصعيد المصري، وهو الجلباب الفضفاض والعمامة على الرأس، والحذاء الأسود الخفيف الملمع بعناية فائقة فهي لعبة استعراضية تحيل إلى الشجاعة والوجاهة.
ويشترط المحكمون في لعبة التحطيب ألا يكون بين المتبارين أي خصومات أو عداءات ثأرية سابقة، حتى لا تتحول ملاعب التحطيب إلى ساحات للثأر أو تصفية الحسابات.
ويحق للمحكم وفق تقاليد عدد كبير من قرى الصعيد، أن يوقف اللعب إذا ما شعر بتفاوت كبير في مستوى أحد اللاعبين، حماية له وحفاظا على كرامته أمام الجماهير الحاضرة، أو عندما تأخذ الحماسة اللاعبين، ويدخلان في مشاحنة حقيقية، أو عند احتمال إصابة أحدهما مخافة حصول مكروه.
وقبل أن يتحوّل التنافس إلى عداء ومشاحنات، يقوم اثنان آخران من اللاعبين من الذين ينتظرون دورهم بتسليم العصا للاعبي الحلبة، وبكلمة “ساه” تعاد مباراة جديدة، فاللعبة بالأساس ليست سوى وسيلة للترويح عن النفس، وإشاعة البهجة، لذا فإنها تعد القاسم المشترك دائما في احتفالات الصعيد الاجتماعية، والاحتفالات الدينية، ثم إن الضرب فيها ليس ضربا حقيقيا، بل يكتفي كل لاعب بمحاولة ملامسة العصا لجسم الخصم ليسجل نقاطا لصالحه.
ويتطلب تعلم اللعبة من قبل الأشبال المرور بمراحل كيفية مسك العصا وطريقة القفز ومراوغة الخصم، وكيفية الدفاع عن النفس، وطريقة الهجوم، وطريقة الدوران والحركة في الحلبة، وهذه المراحل يتعلمها الصعيدي منذ الطفولة بالمشاهدة ثم النصائح ثم التدرب على اللعبة واكتساب الخبرة.
ولا يقف العمر عائقا أمام لاعبي التحطيب، فجميع الرجال بمختلف أعمارهم يمارسون الرقص بالعصا، ولكن كلما كان اللاعب أصغر سنا كان أفضل حيث يكون أكثر قوة وشجاعة، فضلا عن أنه لا بد أن يكون مغامرا بطبيعته.
لعبة لا تندثر
لفت انتشار لعبة العصا بين أبناء المدن والقرى في الصعيد المصري، أنظار السلطات فنظمت وزارة الثقافة وسلطات محافظة الأقصر مهرجانا قوميا للعبة، يقام سنويا في ساحة معبد الأقصر الفرعوني بمشاركة لاعبين يمثلون مختلف محافظات الصعيد، يحضره السياح والمولعون بالرقص الشعبي في مصر.
فالتحطيب تراث يتعلمه أبناء الصعيد منذ طفولتهم على يد الآباء والأجداد حتى صار يمثل لهم قيمة وتراثا شعبيا يجب الحفاظ عليه، فهي لعبة تهدف بالأساس إلى لمّ شملهم قبل أن تكون منافسة.
ويقول حمدي فتحي المدرب والمشرف الفني على فرقة التحطيب المصري، إن هذا الفن “يستحق الاهتمام كفن قديم مميّز وكرياضة مصرية أصيلة يجب الحفاظ عليها من الاندثار، ولهذا قمنا بتكوين فرقة تقدّم الروح الحقيقية للتحطيب المصري الذي يعتبر رياضه لها أخلاقيات خاصة فرغم اعتمادها على الهجوم والدفاع وفكرتها القتالية، إلا أنها تدعو إلى التسامح والإخاء، كما أنها تعبّر عن كرامة المصري وشهامته، ونحن هنا نحاول أن نرسي أسُسا وقواعد للتحطيب حتى نستطيع نشرها دوليا كرياضة مصرية خالصة ذات طابع فنّي”.
وتحمل لعبة التحطيب من البهجة ما يحميها من الاندثار، إذ تحلّ ضيفة على جميع مناسبات الصعيد الاجتماعية، ويُقبل عليها شباب الجنوب المصري مهما بلغت درجاتهم العلمية؛ فهي فن توارثه الصعيد ولا يزال يعمل بكل السبل على إحيائه وتطويره.!!
www.deyaralnagab.com
|