المجالس الشعبية في الخليج جسر يربط التراث بالحاضر!!
28.04.2017
كانت المجالس في الماضي حاجة وضرورة لمجتمع شفاهي في الخليج، وفي الوقت الحاضر، أصبحت رافدا مهمّا من روافد الحفاظ على التراث والذاكرة الشعبية في وجه العولمة الثقافية التي تسعى إلى أن تذوّب الشعوب في نمط استهلاكي واحد، فالمجالس الشعبية المعاصرة هي نواة جيدة للتواصل بين مختلف الأجيال ولمواجهة روتين الحياة المعاصرة.
الدوحة - المجالس، مصطلح يتجاوز أسمه ومحتواه؛ فهي إحدى العادات القديمة التي مازالت تتربع على رأس السمات الاجتماعية التراثية العريقة لدول الخليج العربي، لما تملكه المجالس من أهمية وتاريخ، ودور في إثراء الحياة الاجتماعية، على خلاف ما تحمله من دلالات ثقافية وتراثية.
ورغم التطور الاقتصادي والمجتمعي مازال المجلس الشعبي الخليجي يمثل تراثا بصبغة حديثة كعلامة من علامات التواصل بين أفراد المجتمع وتعزيز العلاقات بينهم، ومازالت الأغلبية تحافظ عليها حتى لو تغيّر شكلها القديم.
وتسعى البعض من الجهات المسؤولة في الدول الخليجية إلى الحفاظ على هذه النواة الثقافية لحماية الشباب من خطر مواقع التواصل الافتراضية التي أدمن عليها الشباب العربي.
„ في الكويت والإمارات يطلق على المجلس “الديوانية”، والذي غالبا ما يكون منفصلا عن المنزل الأصلي.
فعندما يحلّ المساء يتوافد الأهل والأصحاب على أحد المجالس، المعتاد ارتيادها، يحتسون أكواب القهوة العربية، ويتحدثون في قضايا ومواضيع اجتماعية وثقافية مختلفة؛ وقد يتجاوز الأمر إلى حدّ الخوض في القضايا السياسية.
وقد تنوعت المجالس في دول الخليج تبعا للمكانة والدرجة الاجتماعية لجلاّسها، مما أوجد أسماء مختلفة لها، وما هذه الأسماء إلا صفات وهيئات حدّدت موضوعات الأحاديث في تلك المجالس.
وتحلو فيها الجلسات صحبة كبار السن الذين يروُون أحاديث الذكريات والتغيّرات التاريخية والاجتماعية التي عاشتها تلك البلاد؛ ويتعلم فيها الصغار من الكبار العادات التقليدية والأصيلة في المجتمع الخليجي.
وللنساء مجالسهنّ أسوة بالرجال، لكنها مختلفة حيث يتبادلن الزيارات اليومية فيجتمعن صباحا بعد خروج ربّ البيت وقضاء شؤون المنزل، فتقوم كل واحدة منهن بإحضار فطورها ويجلسن في مسكن إحداهن يتبادلن أطراف الأحاديث المسلية والحكايات والنوادر والقصص والأمثال وهي مجالس ظريفة تبعث على البهجة والسرور وتزيد من المودة والتراحم.
وعند الغداء يعدن إلى بيوتهن ليكون لقاؤهن الثاني عصرا ومساء، وهذه اللقاءات تتم في المنازل المتجاورة والقريبة من بعضها البعض، وتجلس البنات مع النساء في المجالس من عمر الـ11 عاما، يتعلمن الحديث وتدبير الأمور المنزلية.
تراث وثقافة
الخبير والباحث في التراث الثقافي حمد حمدان المهندي، قال إن “المجالس كانت ومازالت المنبع الأصلي للثقافة والقيم والتربية التي تتناقلها الأجيال، وتورثها لأبنائها”.
وأضاف المهندي أن “الأعراف التربوية التي تسري في المجتمع، منبعها الأساسي ما يتعلمه الأبناء في المجلس، من احترام الكبير، وشيمة الكرم، وحسن الضيافة، وأبرزها أن المجالس لا تكون مكاناً للغيبة والنميمة وإفشاء الأسرار”.
وفي القديم كان يتجمّع أفراد العائلة أو الأصدقاء في مجلس الأكبر سنا في محيطهم، في ما يعرف بـ”مجلس العم” أو “مجلس الوالد”. فتسمى المجالس نسبة لكبير العائلة أو لاسم العائلة الأكبر.
ويؤكد الباحثان القطريان ناصر بن جاسم المسلماني ومحمد بن جاسم المسلماني أن “المجالس كانت تمتلك قديما أهمية كبيرة؛ فهي مجمع الكبار، ويتجمع فيها الأمراء وضيوفهم، والآن أصبحت المجالس بجوار كل بيت، بعد الحداثة والرفاه المادي في دول الخليج”.
وأضاف الباحثان أن “المجلس يمثّل رمزية للتآلف والتقارب في المجتمع؛ حيث يتحدث الناس عن مشاكلهم وفيها تنظم بيوت العزاء وتقام الأفراح وتتقابل الشخصيات، وتتم فيها المعايدات والمناسبات المختلفة، بل يستقبل أحياناً زعيم الدولة ضيوفه في مجلسه الخاص، ويستمع إلى شكاوى مواطنيه”.
وتعمل تلك المجالس على نشر الثقافة والمعرفة، وكانت ولا تزال بمثابة صالونات ثقافية يلتقي فيها المثقفون ونخبة القوم، ويتبادلون فيها أطراف الحديث، ويستعرضون ما علق في أذهانهم من حكايات وقصص شعبية، ويطلعون من خلالها على أوضاع المنطقة وما يدور فيها. كما كانت منبراً شعرياً لقراءة العديد من دواوين الشعر القديمة.
وتابع الباحثان أن “المجالس كانت قديماً ملجأً لعابري السبيل؛ يُكرمون فيها ويقضون حاجتهم”، مشيرين إلى أنه “في القديم أيضاً كان كل زعيم قبيلة يرأس مجلساً يحل فيه مشاكل قبيلته؛ حيث كان له الدور الإيجابي في فض النزاعات وقضايا بعنيها”.
وتحوّلت هذه المجالس التقليدية مع مرور الزمن إلى مجالس علمية أو دينية أو ثقافية حسب المجال، وقد يعقد بعض الشباب في مجالس أحد أصدقائهم ندوات علمية تثقيفية ويدعون الجميع إلى حضورها.
وأحياناً تستضيف المجالس العلماء والدعاة والكتّاب والمشاهير؛ فهي تمثل “صالونات ثقافية”.
ويقول الباحث عبدالله عبدالرحمن في كتابه “الإمارات في ذاكرة أبنائها”، “كانت أبرز القواسم المشتركة بين تلك المجالس هي قراءة دواوين الشعر القديم، كديوان عبدالرحيم البريمي عاشق النبي، وديوان عنترة بن شداد، وأبي الطيب المتنبي، وامرئ القيس، ويزيد وغيرهم، وقد كان الناس كثيري الولع بالشعر، وهناك أيضاً كتب عن قصص الأنبياء كانت متداولة، وقد كنت شخصياً أتلقى دعوات كثيرة لحضور تلك المجالس وقراءة الشعر لهم”.
ويقول البعض أن المجالس اليوم أصبحت تشهد تراجعا في الإقبال عليها رغم فخامة أثاثها وترف الضيافة فيها، وذلك لانعكاسات الحياة المعاصرة على أفراد المجتمع الذين انشغلوا بالعمل ووسائل الترفيه المتعددة والتي يجدون فيها المتعة والفائدة بدل الاجتماع في المجالس الشعبية، كما أن البعض وخاصة من الشباب أصبحوا يفضلون اكتساب المعرفة والثقافة بأنفسهم لخلوّ المجالس من الطرح العميق للمواضيع والأفكار.
طقوس المجالس
للمجالس الشعبية طقوسها الخاصة بها، فتبدأ باستقبال الضيف ببخار العود الطيب، واحتساء القهوة العربية التي يمتاز توزيعها بطقوس خاصة يتفق عليها كل الخليجيين، حيث يحمل “المقهوي” دلة القهوة بيساره، والفناجين بيمينه، ويصب القهوة للضيف، وصاحب المجلس، والحاضرين، وبعد الاكتفاء من شرب القهوة يهز الضيف الفنجان بطريقة معينة، كما يقدم الشاي في الجلسة كذلك التمور؛ حيث يعتبر العود والقهوة والتمر جزءا لا يتجزأ من طقوس كرم الضيافة.
ولا تخلو المجالس من الأطعمة المختلفة ذات الطابع الشعبي والتراثي كالرهش واللقيمات والبلاليط والمناقيش واللقيمات.
وعلى سبيل المثال تعتبر”الحلوى العُمانية” جزءا لا يتجزأ من الضيافة الخليجية، فمن النادر أن تغيب عن المجالس ويفضلها الكثيرون عن الحلوى الغربية؛ فهي حلوى بطعم التراث ومكوّناتها مرتبطة بالطعام الموروث والتقليدي، لذلك تبوّات مكانة رفيعة في دول الخليج.
ويفتخر صاحب المجلس بالوليمة التي يقدمها للضيف، وبعد تناول الطعام يحمل “المدخن” الذي تفوح منه رائحة العود الطيبة، ويقدّم أولا للضيف، ويطاف به مرتين في المجلس للتطيب بالبخور.
وللمجالس عادات خاصة في المناسبات الاجتماعية والدينية، مثل مجالس رمضان، ومناسبات الأعياد، حيث يحرص الجميع على تبادل الزيارات، والانتقال من مجلس إلى آخر، لإلقاء التحايا وتبادل التهاني بهذه المناسبات، ما يعزز الترابط الاجتماعي، ويزيد من التواصل بين أفراد المجتمع الخليجي، الذي يحرص على التزاور، سواء في المناسبات الاجتماعية أو حتى في الأيام الأخرى، فالمجالس لا تغلق أبوابها أبداً أمام الضيوف في أي وقت.
تسابق في التصاميم
تتميز المجالس بتصاميم تحمل الطابع التراثي القديم، ويسعى أغلبية أصحابها إلى إبراز التصاميم والديكورات التراثية، حيث يفضلون استخدام الجلسات التراثية والتحف التي تعكس التراث وتاريخ المنطقة، إلى جانب استخدام الأدوات التراثية، من دلال القهوة والمباخر واللوحات الفنية.
وإلى جانب الصور القديمة التي تحكي ماضي الزمن الجميل، يفضل البعض وضع خيام تراثية لاستقبال الضيوف يحضّر في مدخلها الشاي والقهوة على الفحم.
وفي العصر الحديث أصبحت تدمج العربي والغربي، فتختلف نوع الجلسة واللوحة المُعلقة على جدارها وشكل التزيينات، حيث يتنافس أصحاب المجالس في ذلك؛ فيعبر المجلس وتصميمه عن صاحبه.
وتوجد شركات متخصصة في تصميم المجالس التي تتنوع في عروضها ما بين التصميمات التقليدية أو الأوروبية أو الإسلامية المغربية والدمشقية والأندلسية، بحسب رغبة الزبون.
وتولي الدول الخليجية اهتماما خاصا بمثل هذه الطقوس التراثية وتحاول دعم المبادرات التي تسعى إلى إحيائها، وفي هذا السياق تقدمت كل من الإمارات والسعودية وسلطنة عمان وقطر بملفين مشتركين لتسجيل المجالس والقهوة العربية في التراث الثقافي غير المادي باليونسكو، في حين تعاونت الإمارات وسلطنة عمان في ملف الرزفة، وتحظى هذه العناصر الثلاثة بقيمة تراثية كبيرة في العادات والتقاليد العريقة بمنطقة الخليج العربي.
ولتعميم الفائدة على شباب اليوم من المجالس الشعبية، يقترح البعض دعم التواصل بين الشباب مع الأكبر سنا والاستفادة مما تطرحه المجالس وذلك من خلال ترشيدهم إلى المجالس وأمكنة تواجدها وتناول المواضيع المعاصرة التي تهم الشباب وقضاياهم، كما تقوم دولة الإمارات بنشر أسماء المجالس التي يجتمع فيها الناس في كل منطقة وذلك كخدمة مجتمعية وتوجيه للشباب للنهل منها.
وشدد هؤلاء على دور أولياء الأمور بان يكونوا مرشدي أبنائهم للمجالس وأن يحرصوا على تشريكهم فيها وانتقاء ما يفيد الشباب منها.
www.deyaralnagab.com
|