ربيع المصريين يحلو بـ"الفسيخ والرنغة" في شم النسيم!!
17.04.2017
رغم الأزمة الاقتصادية التي تشغل عقول المصريين وتجعلهم يفكرون أكثر من مرة في ميزانية الاحتفال بكل مناسبة، تبقى كلمتا “الفسيخ” و”الرنغة” الأكثر تداولا على ألسنتهم خلال شهر أبريل، حيث أن فصل الربيع تستقبله المدن المصرية بموسم “شم النسيم” المعروف بأعياد الربيع ذات الطعم والرائحة المميزين.
القاهرة - سمك البوري المعتق المسمى بـ”الفسيخ”، وأسماك “الرنغة” رغم ملوحتهما، تحلو بهما موائد المصريين في عيد الربيع المسمى هنا بـ”شم النسيم” الذي يحلو للبعض أن يسميه مازحا “شم الفسيخ”.
وتملأ روائح الأسماك أنوف المارة في المدن المصرية خلال شهر أبريل أكثر من غيره من الشهور، حيث تبدو شوارع عاصمة مصر القاهرة أكثر استعدادا لاستقبال “شم النسيم”.
ويتبادل المحتشدون أمام المحال، التي تبيع صنوف الغذاء الطقسية لهذه الفترة، التهاني قبل رحلة البحث عن السمك المقدد.
ولهذه الوجبة الخاصة قبل وصولها إلى الأسواق ومنها إلى أيدي المحتفلين وبطونهم، مراحل لإعدادها في مناطق محددة بالبلاد ولا سيما محافظات الدقهلية وكفر الشيخ والبحيرة، في دلتا النيل شمالا.
وفي إحدى قرى مركز أبوالمطامير بمحافظة البحيرة، وفي مصنع صغير، يقوم الصيادون بعملية صيد السمك من مزرعة سمكية ملاصقة للمصنع، حيث يتم اصطياد أسماك الفسيخ وتجهيزها من الألف إلى الياء، أما أسماك الرنغة فيتم استيرادها من دول أسكندنافية وإعدادها في مصر.
وتخرج كميات أسماك البوري التي ستتحول إلى فسيخ لاحقا، بواسطة الشباك التي يمسكها بقوة عمال مصريون، نصبوها قبل يوم لتجمع لحم البحر الطري.
بعد تفريغ الشباك، توضع الأسماك في صناديق متوسطة الحجم لنقلها إلى المصنع، حيث توجد أيضا هناك صناديق أسماك الرنغة المستوردة في صورتها الأولية قبل التمليح.
وتنتظر هناك ثلاث فتيات لا تتجاوز أعمارهن الـ20 عامًا، تتلقف أيديهن الماهرة والمدربة الأسماك من هذه الصناديق، فينظفنها جيدًا، ثم يعدنها إلى الصناديق مرة أخرى.
„ ويأخذ عمال آخرون، عددهم لا يتعدى عدد أصابع اليد الواحدة، الأسماك إلى مرحلة التمليح لتعتيقها في دورة الحصول على الفسيخ والرنغة.يقول عبدالعزيز فهمي (65 عاما) وشهرته سي عبده، وهو صاحب المصنع، إنه توارث المهنة “أبا عن جد”، مُشيرًا إلى أنه أنشأ مزرعة سمكية متكاملة على أعلى مستوى، وبها جميع مقومات العمل لتربيته السمـك، بالإضافة إلى صناعة وتعبئة وتدخين الأسماك (طريقة لحفظ الأسماك بالتدخين)، مُشيرًا إلى أنه يقوم بصناعة الفسيخ والرنغة في مصنعه الخاص.
وعن صناعة الفسيخ، يشرح عبدالعزيز أنه يصنع فقط من العائلة البورية ومنها “البوري”، و”الجبايش”، و”الهليلي”، و”الكبوت” حيث يتم تنظيف البوري جيدًا ويترك ليجف ثم يدخل المعمل.
ويضيف “يتم تصفيف سمك البوري في غرفة بها تكييف درجة حرارته 20 مئوية، لمدة ثلاثة أيام”.
ويتابع “عقب ذلك يرص في براميل (صناديق) كبيرة على هيئة طبقات تفصل بينها كمية معينة من الملح، ويترك 3 أيام أخرى، ثم تتم تصفية السمك من دمائه ويرص في صناديق مرة أخرى، وفي النهاية يتم تمليح كل كيلوغرام من السمك بكيلوغرام من الملح، ويترك 15 يوما حتى ينضج السمك ويصبح فسيخا”.
أما الرنغة فيشير عبدالعزيز، إلى أن صناعتها لم تكن موجودة في مصر، وكان يتم استيرادها جاهزة، حتى تعلموا صناعتها في السنوات الأخيرة وبرعوا فيها إلى أن أصبحوا يصدرونها إلى الخارج.
ويوضح أنه تتم صناعة الرنغة من أسماك “الهارنج” بعد استيرادها من هولندا أو النرويج أو أسكتلندا، وذلك لأنها تعيش في المياه الباردة، وبها نسبة دسم عالية تكسبها لونها الذهبي، ثم يتم تمليحها لمدة ثلاثة أيام مثل الفسيخ.
ويلفت إلى أنه يتم تجفيف تلك الأسماك على “قطع خشبية خاصة بها” ثم تدخل الفرن، وتوقد أسفلها نيران بقطع خشب من أشجار الليمون أو البرتقال لمدة 12 ساعة إذا كان التدخين على البارد، أو لمدة 48 ساعة إذا كان التدخين على الساخن.
ويشدد على أن مُديريتي الصحة والطب البيطري بمصر تُشددان الرقابة على صناعة الفسيخ والرنغة، وخصوصا هذه الأيام (موسم شم النسيم) لتجنب وقوع أي حالات تسمم جراء تناول فسيخ أو رنجة فاسدتين، موضحا أن تلك الجهات الحكومية تقوم بزيارة دورية له كل 10 أيام لأخذ عينات من الأسماك وتحليلها ومنحه الموافقة على بيعها.
ويبين أن كيلوغرام الفسيخ يتراوح سعره من 80 إلى 100 جنيه (نحو 5 دولارات)، والرنغة الممتازة لا يقل سعر الواحدة منها عن 50 أو 60 جنيهًا (نحو 3 دولارات).
وعن الخوف من الأسماك الفاسدة وتأثيرها على حركة الصناعة، يبين عبدالعزيز أن فساد الفسيخ يأتي من سوء التخزين أو التمليح أو من وجود الأسماك في مياه غير نظيفة أو إطعامها طعاما غير نظيف.ويلفت إلى أنه في موسم شم النسيم يدخل في صناعة الفسيخ أشخاص غير مختصين، قد يصنعون الفسيخ من الأسماك النافقة ويبيعونه للمواطنين وهو ما يسبب حالات تسمم لمن يتناوله، أما الرنغة فلا تفسد بسهولة.
وينصح عبدالعزيز المصريين بفحص الفسيخ قبل شرائه، حيث أن الفسيخ الجيد يظهر من عيني السمكة البارزتين، ولحمها يكون متماسكا لا توجد به فراغات وغير لين، أما إذا افتقدت السمكة هذه العلامات فإنها تكون فاسدة.
وعن تاريخ صناعة الفسيخ يقول عبدالعزيز إنّه يرجع إلى عصر قدماء المصريين الذين كانوا يجففون الأسماك، وكان يسمى حينها “سمك مقدد” يأخذونه معهم في الحروب لأنه لا يفسد بمرور الوقت وكان يتم تقديمه كوجبات للجنود.
ويذكر أن مصر تقوم بتصدير الفسيخ والرنغة إلى السعودية ودول الخليج منذ فترة طويلة، ولا توجد إحصائيات رسمية عن حجم تلك الصناعة الموسمية.
وتاريخيا فإن عادة الاحتفال بأعياد الربيع قديمة في مصر، حيث كانت تبدأ بمهرجان شعبي كبير مع طلوع الشمس، ويتحول اليوم إلى احتفال تخرج خلاله الأسر إلى المتنزهات والحدائق العامة، مصطحبة الأطفال إلى حدائق الحيوان، ويقومون بتلوين البيض وتجهيز الرنغة والفسيخ والبصل والسردين والليمون، وغيرها من أطعمة شم النسيم.
وترجع تسمية اليوم بـ”شم النسيم” إلى الاحتفالية التي أطلق عليها الفراعنة “عيد شموش” أي بعث الحياة، وحرِّف الاسم في العصر القبطي إلى اسم “شم” ، وأضيفت إليه كلمة النسيم نسبة إلى نسمة الربيع.
وعرف قدماء المصريين أيضا خلال عيد شم النسيم بعادة تقديم الورود والزهور إلى المحبوب أو المحبوبة والتعطر احتفالا بقدوم فصل الربيع.
يقول الآثاري المصري، محمد يحيى عويضة، إن المصريين تفردوا بعادات وطقوس مميزة تقام مع دخول فصل الربيع توارثوها عن أجدادهم القدماء، ولا تزال تلك العادات مسجلة على جدران الكثير من الآثار في المدن التاريخية بمصر، مثل معبد الملك رمسيس الثالث، الذي يقع ضمن مجموعة معابد مدينة هابو الفرعونية في غرب مدينة الأقصر، ومقابر النبلاء والأشراف المنحوتة في جبل القرنة التاريخي، أو ما يعرف بجبانة طيبة القديمة في غرب الأقصر، والتي تحتوي جدرانها وأعمدتها على رسوم ونقوش ولوحات تسجل طقوس قدماء المصريين في احتفالاتهم بحلول فصل الربيع.
ويقول الباحث المصري فرنسيس أمين إن معابد ومقابر الفراعنة، في الأقصر، تصور الرجل وزوجته يجلسان في ظل شجرة، ويأكلان البصل، والسمك المملح، كما تصور خروج الزوج والزوجة والأبناء للتنزه والصيد في فصل الربيع.
وأشار إلى أن قدماء المصريين، كانوا شعباً محباً للحياة، والخروج إلى الطبيعة، حريصاً على الاحتفال بكل المناسبات، حيث احتفل قدماء المصريين، بقرابة 167 مناسبة وحدثاً في العام.
وقال الآثاري علي رضا، إن احتفالات الفراعنة بقدوم فصل الربيع، كانت عائلية جدا، وكان كبير كل عائلة، ورب كل أسرة، يدعو أفرادها إلى الحضور والتجمع سويا، للاحتفال بقدوم الربيع، ونسمات هوائه، وأطعمته الخاصة، والتي لا تزال معروفة لدى المصريين، مثل أكل البصل الذي كان يعد رمزاً للبعث والخلود.
وأشار إلى أنه من بين ما تسجله الآثار الفرعونية، عن كيفية استقبال قدماء المصريين لفصل الربيع، لوحات لموائد كبرى، وضع عليها السمك والخضروات والفاكهة، ومن بينها البصل.
وكشف أن آثار منطقة سقارة في الجيزة، تسجل طرق صناعة السمك المملح الفسيخ، وكيفية تجفيف السمك وتناوله، وأن مدينة إسنا التاريخية، بجنوب الأقصر، تعد أول مدينة عرفت تجفيف السمك في التاريخ.
وأوضح رضا أن “عيد الشمو” في مصر القديمة، حُرِفَ إلى شم النسيم، وأن المصريين كانوا يخرجون في هذا العيد، إلى محيط أهرامات الجيزة، وحدائقها في ذلك الوقت، ويبقون بها إلى أن يشاهدوا غروب الشمس من فوق قمم الأهرامات، وأن المصري القديم، كان يكتب أمنياته على البيض الملون.
وأضاف أن السمك المملح كان يوضع بجوار جثامين الموتى، ليتناولوه عند عودتهم إلى الحياة في العالم الآخر، وأن إحدى برديات “منف” تحكي أن أحد ملوك الدولة القديمة، أصيب بإغماء، وأن كبير الكهنة أمر بوضع بصلة خضراء بجوار رأسه، فعاد إلى وعيه، ومن هنا عرفت قدسية وأهمية تناول البصل الأخضر في مصر الفرعونية.
www.deyaralnagab.com
|