سائقات النقل العام يُؤنثن مهنة الذكور!!
09.04.2017
ثقة المرأة في قدراتها تجعلها تتخطى الضغوط الاجتماعية وتغير النظرة الدونية لجنسها بمنافسة الرجال على قيادة وسائل النقل العامة وتفتح الباب لبقية النساء ليجربن إحساس الجلوس خلف عجلة القيادة.
كتبت..يمينة حمدي..لم تكن مهنة سياقة وسائل النقل العمومي حتى وقت قريب من اختصاص النساء ولم يكن من السهل على المرأة الحصول على وظيفة في قطاع يحتكره الرجال وحدهم.
وحالت المعتقدات الاجتماعية والنظرة الدونية للأنثى دون رغبة النساء في الجلوس خلف المقود أسوة بالرجال، وجعلتهن لعقود طويلة يخترن مهنا لا تلبّي طموحاتهن ورغباتهن في إثبات ذواتهن خارج إطار الأسرة التقليدي والمحدود.
إلا أن الكثيرات تمكنّ من الخروج من دائرة الحظر المفروض عليهن وأثبتن أنهن قادرات على تطويع أيّ مهنة، بما في ذلك مهنة السياقة التي لا تشترط النوع الاجتماعي بقدر ما تحتاج إلى التأهيل.
ولكن من الأوساط السعودية المحافظة لم ترد أيّ أنباء جديدة عن رفع الحظر عن قيادة النساء للسيارات رغم أن المملكة أعلنت عن “الرؤية 2030”، وهي الاستراتيجية المستقبلية للبلاد، والتي تنص على أن الحكومة “ستستمر في تنمية مواهب المرأة واستثمار طاقاتها وتمكينها من الحصول على الفرص المناسبة لبناء مستقبلها والإسهام في تنمية المجتمع والاقتصاد”.
أما في العديد من المجتمعات العربية الأخرى فقد اعتادت العين رؤية الحافلات والقطارات وسيارات الأجرة وجميع وسائل النقل الخفيفة والثقيلة تقودها النساء، ولكن هذه المشاهد التي تتكرر يوميا لم تستطع تقويض الاعتقاد السائد بأن الرجال أفضل من النساء في القيادة.
ورغم ما شهدته المجتمعات العربية من تقدم معرفي وثقافي وتحوّلات جوهرية في مجال الحريات والمساواة بين الجنسين إلاّ أنها لم تخل بعد من الأصوات التي ما زالت تكرّس الفوارق بين سياقة المرأة وسياقة الرجل.
وينظر للنساء على أنهن أقل حزما وقدرة على مواجهة الشدائد والأخطار في الطرقات وعاجزات عن القيام بالصيانة الميكانيكية لوسائل النقل وأنهن السبب في تزايد معدلات الحوادث المرورية، وتروّج حولهن العديد من الانتقادات الساخرة التي تحبط عزائمهن وتنال من معنوياتهن.
وعلى الرغم من أن الأفكار الثابتة حول عدم كفاءة المرأة في السياقة لا تستند إلى أيّ حقائق علمية، فإن الكثير من ركاب وسائل النقل العمومي لا يشعرون في الغالب بالراحة النفسية عندما يكون السائق امرأة.
إرادة قوية
تبدو مهنة السياقة محفوفة بالمخاطر وشاقة ولكن أغلب النساء اللاتي يمتهنّها لا يجدن الإنصاف من المجتمع المتحيز ضدهن ولا من أصحاب الشركات الذين يفرضون عليهن أحيانا عقودا قاسية وغير مرنة، بالإضافة إلى أن السياقة ليست من القطاعات التي تقل فيها الفوارق في الأجور بين الجنسين، كما أن النساء الأكبر سنا يكنّ بشكل عام أكثر عرضة لفقدان وظائفهن ويواجهن صعوبات أكبر في إيجاد وظائف في هذا المجال.
وهناك تحديات كثيرة أمام المرأة السائقة في كل مكان من العالم إلا أن التونسية يمينة جوعاني (62 عاما) استطاعت أن تفرض نفسها كسائقة تاكسي بين المئات من سواق سيارات الأجرة في تونس العاصمة وفي زمن لم يكن من السهل على أيّ امرأة أن تفكر مجرد التفكير في خوض غمار مهنة السياقة، ولكن جوعاني تجرّأت على ذلك بعد أن استلهمت التجربة من أختها التي أصبحت أول سائقة تاكسي في تونس في عام 1974.
وبدأت جوعاني المطلّقة والأمّ لطفلين العمل كسائقة سيارة أجرة منذ عام 1986 وهي فخورة جدا بتجربتها في السياقة التي تجاوزت الثلاثين عاما، وبفضلها تمكّنت من إعالة أسرتها والإنفاق على دراسة أبنائها.
وتبدو ابنة بلدها إيمان الركاح التي تعمل بشركة نقل سياحي منذ أكثر من ثلاث سنوات واثقة من نفسها كثيرا إلى درجة أن عملها كسائقة اعتبرته بمثابة التحدي بينها وبين جنس الرجال.
وأشارت في تصريحها لـ”العرب” إلى أنها تعشق كل ما من شأنه أن “يثير كبرياء الرجال ويجعلهم يدورون حول أنفسهم إما مصدومين أو مبهورين”.
وأوضحت الركاح “البعض من الرجال يعتقدون أن النساء لا حول لهنّ ولا قوة، وأنه ليس لدينا القدرة على ممارسة بعض المهن التي نسبت إليهم، ولكننا باقتحامنا هذا الميدان جعلناهم يدركون ألا فرق بيننا وبينهم، وهذا ليس مجرد استعراض للعضلات بل هو حقيقة وواقع يشهد به أصحاب المهنة والركاب”.
وأضافت “مثلما وجدت التشجيع والمساندة من الكثير من الرجال وجدت أيضا أن البعض منهم أشبه بوحوش بشرية حاولوا تقزيمي وإحباطي، ولكن إرادتي كانت أقوى وقلبي الصغير لم يعد صغيرا، فمهنة السياقة علمتني الجلد والصبر والتحدي”.
واستدركت “ولكني اخترت مهنة السياقة لأنني أحبها أيضا، وفيها أجمع بين هوايتي التي هي الأسفار والجولات الاستطلاعية وعملي، وأقولها بكل فخر وثقة في النفس أنا فنانة في سياقتي ورصينة جدا لأن السياقة أولا وقبل كل شيء فن وأخلاق وإبداع”.
وختمت الركاح حديثها قائلة “نحن في مهنة السياقة معرضون للخطر في أيّ لحظة، بالإضافة إلى المضار الصحية التي يمكن أن يسببها الجلوس المطول للظهر والأعصاب، ولكن كل هذا يهون عندي عندما ترمقني نظرات إعجاب الناس ويفخر بي ابني”.
المحظورات تتلاشى
أما روضة التي تعمل سائقة بشركة نقل تونس فخيرت التكتم على لقبها العائلي لأسباب عزتها إلى أنها لا تريد إثارة بعض الحساسيات في مكان عملها.
وأشارت في حديثها لـ”العرب” أنها تعرضت في بداية عملها كسائقة على خط الحافلة الرابط بين محافظتي أريانة ومنوبة إلى صعوبات ومضايقات عديدة من قبل الركاب وخاصة من الجنس الذكوري الرافض لقيادة المرأة.
وأوضحت “واجهت وزميلاتي العنف اللفظي وأحيانا الجسدي من كل فئات المجتمع لأن النظرة الدونية للمرأة لم تكن في بداية مشوار عملنا كسائقات منصفة بحقنا، لكن إرادتنا وتمسكنا بحقنا في العمل وإيماننا بقيمة المساواة، جعلتنا نصمد وندافع عن مهنتنا بكل ما أوتينا من عزيمة”.
ولا تعتبر روضة قيادة الحافلة مجرد مهنة بل هي شغوفة بها إلى أبعد الحدود مشددة بقولها على “أن السائقات التونسيات تمكنّ من تجاوز العديد من الصعوبات وأثبتن جدارتهن، إلا أن طبيعة المرحلة الانتقالية الحساسة التي تمر بها تونس جعلت خطوط النقل تعيش حالات فوضى في فترات معينة، مما دفع إدارة الشركة إلى إدماج السائقات في العمل الإداري خوفا من تعرضهن للمشاكل والمضايقات”.
ويوحي العدد القليل من سائقات النقل العمومي في الجزائر بأن الكثير من المحظورات الاجتماعية بدأت تتقلص في طريق النساء، ولكن ذلك لم يشجّع سائقة سيارة أجرة لتفصح عن هويتها لـ”العرب” بل خيرت أن تؤدي مهنتها بعيدا عن الأضواء الإعلامية حتى لا تتعرض للمضايقات وخاصة بعد أن بلغها نبأ اعتداء مجموعة من قطاع الطرق على زميلتها “شوشو” أول وأشهر سائقة سيارة أجرة في بلادها.
„رغم ما شهدته المجتمعات العربية من تقدم معرفي وثقافي وتحوّلات جوهرية في مجال الحريات والمساواة بين الجنسين إلاّ أنها لم تخل بعد من الأصوات التي ما زالت تكرّس الفوارق بين سياقة المرأة وسياقة الرجل“
ولم تخف السائقة الجزائرية ولعها بمهنتها وتفانيها الكبير من أجل كسب رضا زبائنها والمحافظة على سلامتهم مشيرة إلى أن أغلب زبائنها أكدوا لها أنهم يحبذون الصعود على متن سيارتها، لأن سياقتها المتزنة والمريحة تشعرهم بالأمان، ولكن الأهم من هذا كله بالنسبة إليها أن النظرة السلبية للمرأة السائقة آخذة بالتلاشي تدريجيا.
للنساء فقط
أشارت عزيزة مجاهد (56 عاما) التي تعمل سائقة لسيارة أجرة بمحافظة الفيوم (جنوب غرب القاهرة) أن مهنتها ورثتها عن زوجها الذي كان ينقل البضائع للمحلات التجارية من المورّدين مقابل نسبة من الربح، ولكن بعد مرضه ودخوله المستشفى للعلاج رفضت عزيزة بيع السيارة وفضلت تعلّم القيادة لتصبح سائقة ماهرة وتنفق على علاجه.
وأكدت لـ”العرب” أن زوجها وأبناءها لم يرفضوا عملها كسائقة إلا أن البعض من فئات المجتمع ينظرون إليها بطريقة سلبية “وكأنها تمتهن شيئا محرما”.
أما آمال رمضان التي تقود تاكسي أبيض اللون متهالك المظهر وترتدي نظارة تغطي نصف وجهها بسبب معاناتها من ضعف في النظر فقالت لـ”العرب” إن حرمانها من مواصلة دراستها وانقطاعها عنها منذ المرحلة الابتدائية جعلها تعمل جاهدة على ألاّ يلقى أبناؤها نفس المصير، فحاولت ما في وسعها بعد وفاة زوجها أن تعلّمهم تعليما جيدا، وبسبب شكوى ابنتيها المتكررة من المضايقات والتحرش في وسائل النقل فكرت آمال في شراء التاكسي لتوصيلهما به إلى الجامعات التي تدرسان بها.
وأوضحت رمضان (54 عاما) أنها بعد أن تقوم بمهمة توصيل ابنتيها يوميا إلى مكان دراستهما تواصل عملها بالتاكسي في نقل “النساء فقط”، مشددة على أنها لا تقبل أن يركب معها أيّ رجل، فهي على حد تعبيرها “اشترت التاكسي لحماية ابنتيها، وتريد أن يكون الراكبون من جنس الإناث دون غيرهنّ”.
فيما أكدت الشابة العشرينية المغربية حليمة مترجي في حديثها لـ”العرب” أن عمر تجربتها في سياقة سيارة الأجرة بالدار البيضاء لم يتخط السنتين، مشيرة إلى أنها بدأت تتعايش مع نسق عملها كبقية النساء اللواتي شغلن فيما مضى مهنا كانت تقتصر على الرجال فقط، ثم أصبحت الآن متاحة للجنسين، ولم يعد اقتحام النساء لها يثير الاستهجان ولا الغرابة، وكذلك سيؤول الأمر بالنسبة إلى مهنة السياقة.
وعانت مرتجي -باعتبارها أمّا لطفلة- في بداية عملها كسائقة لسيارة أجرة من انتقادات كثيرة داخل وسطها العائلي وفي الشارع، ولم تسلم من السخرية اللاذعة بشأن اختيارها لمهنة ينظر إليها على أنها لا يجيدها إلا الرجال لأنها تتناسب مع بنيتهم الجسدية القوية.
واعترفت مترجي لـ”العرب” بتعرضها إلى ضغوط نفسية كبيرة جراء استفزازات الركاب وزملاء المهنة من الرجال الذين لم يتورعوا عن سبها وشتمها ونعتها بأبشع النعوت، ووصل الأمر أحيانا إلى حد التحرش بها.
وأشارت مرتجى إلى أن بعض الرجال اليوم مازالوا غير متفهمين وواعين بطبيعة الوضع الراهن ولظروف المعيشة الصعبة والتي حتّمت على النساء الخروج للعمل من أجل مساعدة أزواجهن في الإنفاق على أسرهن والمساهمة في تحريك الدورة الاقتصادية في مجتمعاتهن.
الحلال والحرام
ترى الأخصائية الاجتماعية السعودية حصة العمار أن المرأة في العالم العربي أثبتت تفوقها في العديد من المجالات العلمية والثقافية والاقتصادية، وتميزت في قطاع الأعمال الحرة والمشاريع المستقلة مشيرة في تصريحها لـ”العرب” إلى أن المرأة العربية يحدوها طموح متوقد ورغبة عارمة في التغيير للأفضل ولا توفر أيّ جهد من أجل تحقيق الرفاه لها ولأسرتها ولمجتمعها بشكل عام. وقالت العمار “في بلادي على سبيل المثال تملك المرأة الكثير من المؤهلات التي تساعدها في السعي الجاد لتحقيق أهدافها، وقد فُتحت لها مجالات متعددة بدعم من قادة البلاد وقناعتهم بأنها نصف المجتمع وأساسه ومن غير المقبول أن يبقى معطلا وعاطلا عن العمل”.
وأوضحت أن المرأة السعودية قد تولت العديد من المناصب القيادية وسعت للتوسع والعمل كفرد له كيانه واستقلاليته المادية في جميع الميادين الطبية والعلمية والثقافية والاجتماعية وقطاع سيدات الأعمال.
إلا أنها أشارت إلى أن بلادها لم تصدر حتى الآن قانونا يسمح للمرأة بقيادة السيارة، ولكنها لم تنف أن البعض من النساء الموجودات في القرى السعودية البعيدة يقدن سياراتهن بأنفسهن.
وتوقعت العمار في حال اتخاذ السلطات السعودية قرارا يسمح للنساء بقيادة السيارة أن تتسابق الكثيرات إلى إنشاء شركات نقل للنساء فقط، وخاصة لمن لا يرغبن في قيادة السيارة.
واعتبرت أن سيارة الأجرة التي تقودها المرأة تمثل أفضل وسيلة نقل على الإطلاق بالنسبة إلى تنقلات النساء سواء إلى عملهن أو جامعاتهن أو لقضاء مختلف مصالحهن.
وبررت العمار ذلك بقولها “سيكون مشروعا رائعا جدا لأنه سيحد من تواجد السائق الأجنبي سواء في الحافلات المدرسية أو سيارات الأجرة وكذلك سيحدّ من هدر المال السعودي عليه، فيما لا تشعر معه أغلب النساء بالأمان لأنهن يجهلن خلفيته الأخلاقية، ولكنّهن سيكنّ أكثر طمأنينة وراحة مع السائقة التي من نفس جنسهن ولدينا شواهد نجاح للتجربة في الإمارات الحبيبة والتي لا تختلف عن السعودية في العادات والتقاليد”.
وقال مأمون مؤنس إبراهيم من جامعة الأزهر إنه لا مانع دينيا من عمل المرأة في مهنة قيادة السيارة عندما تكون هنالك ضرورة ملحة تستدعي ذلك، مشترطا ألا تكون متزّينة أو متبرّجة أو تتعمد القيام بتصرفات من شأنها أن تغري الرجال.
وأوضح في حديثه لـ”العرب” أن “المنزل مكان المرأة الطبيعي وخدمة زوجها وأبنائها بشرط توفّر الإمكانيات المالية”.
وشدد مأمون على بعض المعايير التي تستدعي خروج المرأة إلى العمل أهمها عدم توفر من يعيلها أو يكفلها، أما إذا توفر العائل فلا يحق للمرأة العمل لأن الاختلاط من وجهة نظره ينتج عنه “فساد كبير”، معللا رأيه بإمكانية إغوائها من قبل زملائها الرجال.
*كاتبة من تونس مقيمة بلندن..المصدر : العرب
www.deyaralnagab.com
|