logo
1 2 3 41134
قصبة الكاف حامية مدينة الخصب والحب والجمال التونسية!!
29.03.2017

•على ارتفاع 735 مترا فوق سطح البحر وفوق تلة جبل “الدّير” تنتصب مدينة الكاف التونسية هادئة أمام زوار حصن القصبة الذي شيد منذ أكثر من 4 قرون لحماية المدينة الواقعة شمال غربي البلاد.
الكاف (تونس) - استطاع “حصن القصبة” (قصبة الكاف) الذي يعد بمثابة جوهرة تشع بمدينة الكاف التونسية الهادئة، أن يظل صامدا لأكثر من 4 قرون، رغم الغزوات، فاتحا ذراعيه ليطل على كامل المدينة الواقعة شمال غربي البلاد وضواحيها، فهو يتراءى عن بُعد كملاك يحرسها من أي خطر يداهمها.
وتتألف قصبة الكاف من قلعة كبيرة بناها محمد باشا المرادي (ثاني البايات المراديين) ورممها علي باشا ثم خصصها حمودة باشا للعسكريين الأتراك، وقد حولها المعهد الوطني للتراث اليوم إلى فضاء ثقافي.
ولزيارة الحصن والغوص في أعماق التاريخ والحضارات التي تعاقبت عليه، ما على الزائر سوى صعود تلة (هضبة) على ارتفاع 735 مترا فوق سطح البحر، بجبل الدّير، ليجد نفسه قبالة بوابة عملاقة، يحاذيها جدار تتوسطه نافذة بأبعاد ضخمة، صممت من الخشب المنقوش على الطراز العثماني.
أما في الداخل، فالمشهد يبدو كلوحة معلّقة على صدر التاريخ؛ يسارا تنتصب بقايا مدافع اصطفت بانتظام وكأنها تستعد من جديد لصد عدو قادم، وأمام الزائر مباشرة يمتدّ مسلك طويل يؤدي إلى غرف كبيرة كانت الواحدة منها تسمى “أوظة”، من بينها ما كان مخصصا لتخزين السلاح وأخرى تستخدم كمطابخ وأماكن للنوم.
وباتجاه اليمين، ينتهي الطريق عند باب ثان يفتح على ساحة فسيحة، تحوّلت اليوم إلى مكان تقام فيه المهرجانات والحفلات والعروض الثقافية التي تستقطب فنانين من تونس وخارجها، بالإضافة إلى معارض للصناعات التقليدية المميزة للجهة.
وتمتد القصبة، التي كانت تعدّ بمثابة قلعة دفاعية، على أكثر من ألفي متر مربع من المساحة المغطاة، فيما تبلغ مساحة الهضبة التي أقيمت عليها خمسة آلاف متر مربع.
يقول محمد التليلي الباحث والمؤرخ التونسي، وهو من سكان مدينة الكاف، إن “تشييد القصبة يرجع إلى العام 1600، أي خلال حكم عثمان داي”.
وأوضح التليلي الذي سبق أن أشرف على عمليات ترميم قصبة الكاف، أن “النقوش التي تعتلي باب الحصن هي التي مكنت المؤرخين من معرفة تاريخ بناء القصبة”.
وأضاف مسترجعا أهم المحطات التاريخية للمعلم “العثمانيون سيطروا سنة 1574، على أفريقية (تسمية إسلامية للمجال الرابط بين طرابلس الليبية غربا وقسنطينة الجزائرية شرقا)، التي كانت تابعة للدولة الحفصية، قبل أن تبدأ بالتوسع داخل البلاد على حساب القبائل، مستثمرة الفراغ الأمني في تلك الفترة لاقتطاع إمارات جديدة”.
وبحسب المؤرخ، فقد تم في البداية تشييد برج بسيط عام 1600 ليطور في ما بعد إلى أجزاء أخرى وخاصة في 1637 إثر القضاء على قبيلة بني شنوف (اسم قبيلة تونسية) وتنصيب حراسة عسكرية على المدينة، ما اضطرهم إلى إضافة حصن ثان بعد أن كان البرج الأول مخصصا لقبائل زواوة (قبائل أمازيغية قادمة من شمال شرقي الجزائر كجيوش موالية للحكم).
وعلى حد قول المؤرخ فقد وصل عدد الجنود ضمن تلك الحامية العسكرية إلى 500 جندي.
وأوضح التليلي أنه إثر فترة الصراع الحسيني وأثناء حكم علي باشا (1735-1756) “رممت القصبة وتمت توسعتها لتُمنح هياكلها الدائمة والمستقرة، وتعرف في ما بعد مع عدة حروب تهديمات وحالات حصار وغير ذلك من الأحداث، ومن ثم استرجعت نفوذها وقوتها مع حمودة باشا سنة 1807 لما تم تحصينها وتوسيعها في مراحلها الأخيرة”.
وأردف “أصبحت هناك قاعدة استراتيجية؛ فكلما احتلت مدينة الكاف تغيّر الحكم في تونس، وكلما صمدت صمد الحكم معها”.
وبقيت القصبة صامدة لعدة قرون، وآخر احتلال تعرضت له كان من قبل الجيوش الغازية الفرنسية عام 1881، وهو ما يدل، وفق المتحدث، على “أهمية مركزها الاستراتيجي فمنها تم التحكم في حراك القبائل الذي تصاعد إليها من الجنوب وكذلك في الهجمات التي تأتي من الغرب، كما أنه بعد بداية الاحتلال الفرنسي (من 1881 إلى 1956) وتحديدا سنة 1882 تم بناء معسكر فرنسي بها”.
واستمدت القصبة أهميتها عبر التاريخ وحتى قبل تشييدها من المكان الذّي انتصبت فيه، أي جبل الدير الذّي يطل على بقية السهول والمرتفعات، حيث كان يؤدي دورا دفاعيا منذ عهد المملكة النوميدية.
والمملكة النوميدية هي مملكة أمازيغية قامت في الجزائر الحالية وامتدت من غرب تونس إلى حدود المغرب ثمّ ضمّت في ما بعد جزءا من ليبيا، ويرجح أنها تأسست سنة 202 قبل الميلاد.
وعن تشابه التسميات بين قصبة الجزائر وقصبة العاصمة تونس وقصبة الكاف يوضح المؤرخ التليلي أن “هناك اختلافات فالقصبة في الجزائر هي المدينة العتيقة التقليدية والقصبة هنا (يقصد تونس العاصمة والكاف) مكان السلطة ومقر العسكر وهو مفهوم جاء به الموحدون وأصبحت للتسمية رمزية للحكم”.
والدولة الموحدية هي إمبراطورية إسلامية أسسها الموحدون وهم من سلالة أمازيغية حكمت بلاد المغرب، أي المغرب والجزائر وتونس وليبيا، وامتدت إلى الأندلس خلال الفترة من 1121م – 1269م.
ويعتبر التليلي أن “القصبة تعد اعتزازا ومفخرة لأهالي ولاية الكاف، وتشعرهم بأنهم كانوا عنصرا فاعلا منذ أزمان بعيدة”.
وحتى لا يمحى ذلك التاريخ العريق، فإن القصبة اليوم أصبحت إلى جانب دورها السياحي المتمثل في استقطاب الزوار وأحباء المعالم الأثرية والتراث والمتاحف مركزا للحياة الثقافية بالمدينة حيث تحتضن أبرز التظاهرات الثقافية والمهرجانات التي تميز مدينة الكاف.
واستطاعت المدينة التونسية استقطاب الحضارات منذ أيام الفينيقيين والرومان، بفضل خصوبة أرضها وجمال مشاهدها الطبيعية، ولذلك تكثر في محيطها المسارح الرومانية وآثار المدن القديمة التي تدل على عظمة شأنها في الماضي.
وكانت الكاف قرية بربرية تُعرف باسم “سيكا” وعندما توسعت إمبراطورية قرطاج على حساب الممالك النوميدية اتخذتها كقاعدة حدودية، ووضعت فيها مرابطين صقليين أنشأوا معبدا لـ”عشتروت” البونية آلهة الخصب والجمال، لكن الملك النوميدي ماسينيسا استطاع لاحقا أن يضمّها إلى مملكته بعد هزيمة القائد حنبعل في معركة “زامة” (202 قبل الميلاد)، لتسقط لاحقا في أيدي الرومان الذين أطلقوا عليها اسم “سيكا فينيريا” نسبة إلى فينوس إلهة الحب والجمال لدى الرومان.
وظلت المدينة إلى اليوم رمزا من رموز الانفتاح على مختلف الديانات السماوية، ومفتاحا للتسامح والتعايش بينها، حيث يتوسط قلب المدينة العتيقة الجامع والكنيسة الرومانية ومعبد اليهود، أو كما يطلق عليه “بالكنيس اليهودي”، كل تلك المعالم مجتمعة في نسيج فسيفسائي يوحي بالتآخي الإنساني والديني.
كما اتخذ المسلمون والمسيحيون واليهود، ممن مروا على هذه المدينة عبر العصورٍ وعاشوا فيها لأزمان مختلفة، مقابر متاخمة لبعضها البعض، فاختاروا لذلك جبل “سيدي منصور” المطل على المدينة، حتى يكون مستقرهم الأخير، فقد كان المسلم والمسيحي واليهودي متجاورين في حياتهم وحتى في مماتهم رغم اختلاف عقائدهم.
ويقول عمار ثليجان رئيس جمعية صيانة وإنماء مدينة الكاف إن “المدينة عرفت باحتضانها لديانات عديدة، وبكثرة أماكن العبادة فيها، فقلب المدينة شاهد على ذلك، فالكنيس اليهودي مثلًا يقع بين جامع سيدي بومخلوف وكنيسة بطرس التي تموقعت قبالة جامع سيدي البكوش”.
وأضاف ثليجان “البيعة اليهودية أو ما يسمى بالغريبة في الكاف، ترجع إلى الأسطورة التي تقول إن هناك 3 أخوات يهوديات تفارقن، إحداهن استقرت في عنابة الجزائرية، والثانية في جزيرة جربة جنوب شرق تونس، والثالثة في الكاف شمال غرب تونس، وهو مكان تعبد للجالية اليهودية التي كانت تقطن في حي يسمى بالحارة، حيث كان اليهود يعملون بالتجارة والصناعات التقليدية وأنشطة اقتصادية أخرى”.
„ظلت الكاف رمزا من رموز الانفتاح على مختلف الديانات السماوية، ومفتاحا للتسامح والتعايش بينها، حيث يتوسط قلب المدينة العتيقة الجامع والكنيسة الرومانية ومعبد اليهود“
ولعل أكبر جالية يهودية في ولاية الكاف وفق رئيس الجمعية، كانت تقطن في ريف مدينة السرس التابعة للولاية، وتسمى “البحوسي”، وكان نشاط أفرادها يتركز أساسا على كل ما هو فلاحة وتربية الأغنام.
وقال ثليجان، “منذ 1994 تمت عملية صيانة الغريبة، ووقع تسليم هذا الفضاء إلى جمعيتنا حتى تحافظ عليه، فهو يعتبر من الموروث الثقافي والحضاري والديني لمدينة الكاف، كما أنه يجسد حوار الحضارات والتسامح بين الأديان”.
ويضم هذا المعلم ثاني أقدم نسخة توراة في العالم بحسب الأخصائيين، وقد تم التدخل لحماية محتوياته، في انتظار عملية الترميم وإعادة تأثيثه بكل مكوناته.
كما يقف ثليجان على ما يعتبره “خصوصية أخرى تحظى بها مدينة الكاف وتكمن في المقبرة، التي تضم قبور اليهود والمُسلمين والمسيحيين، وهي متحاذية ومتجاورة منذ سنوات ما يعطي للكاف مميزات استثنائية لا نجدها في أماكن أخرى”.
وفي جانب ليس ببعيد عن المعبد اليهودي، تقع كنيسة القديس بطرس، قبالة أحد الجوامع الشهيرة في المدينة “جامع سيدي البكوش” وتعود الكنيسة إلى القرن الرابع الميلادي، وقد رممت عام 1982، وهي بحسب المدير السابق لمتحف العادات والتقاليد الشعبيّة بالكاف سالم العروسي الزواري إنها “تجسد مظهرًا من مظاهر تعايش الأديان والحضارات والشعوب بمدينة الكاف”.
وأضاف الزواري، “كأننا في مسلك حوار للحضارات عبر التاريخ، فهناك أماكن عبادة كان يتردد عليها المسلمون والمسيحيون واليهود على حدّ سواء للتبرك ولإقامة بعض الطقوس فيها، مثل مزار سيدي عبدالقادر داخل البيعة”.
وتشتهر الكاف بعدد من الزوايا، أبرزها زاوية “سيدي عبدالله بومخلوف الفاسي” والزاوية القادرية، وزاوية “سيدي الملايحي”، وزاوية “سيدي علي بن عيسى” التي كانت مقرا للطريقة الرحمانية، وهي تضم مدرسة ومسجدا ومقبرة، وقد لعبت دورا تاريخيا كبيرا في مقاومة الاحتلال الفرنسي.


www.deyaralnagab.com